المُنتقمون
محمد فتحي محمد فوزي
فى هدوء الليل وتحت حبات المطر، أتذكر رضيعاً كان يعيش بين أحضان والديه يتنقل من هذا إلى ذاك، ثم صار طفلاً يرتع بين الخُضرة والورود ،فى حديقة منزله حتى دخل عليه أبويه ليأخذانه إلى نزهة بين برارى فلسطين، وأثناء سيرهم هاجمهم بعض جنود الأعداء، وأطلق واحد منهم النار على الأب؛ فأرداه قتيلا ولازت الأ ُم وفلذة كبدها بالفرار ،رغم مطاردة الجنود لهما، وبستر من الله وصلت لمنزلها ،وهى مذعورة خائفة تحتضن طفلها، منخرطة فى بكاءوعويل إلى أن جن عليهاالليل، متسربلاً بالظلام الدامس، وصارت ورود حديقتها وكأنها أشباحاً تتشح السواد متوارية، من صفير المساء الصاخب، بطلقات الرصاص المدوية هنا وهناك، وبعد معاناة وهدهدة لطفلها ناما، ولم يوقظهما إلا آذان الفجر والصلاة خيرٌ من النوم؛ فنهضت من فراشها وتوضأت ثم صلت سُنة الفجر وأعقبتها بصلاة الصُبح، وإبنها يقف بجوارها يُقلدها فى لركوع والسجود والرفع منهما، وفى النهاية طرق الباب؛ فنظرت من عينه السحرية ؛ فرأت جنديا صهيونياً، ذئب جائح يبحث عن فريسته فى سكون الصباح البادىء، فلم تفتح الأ ُم مُلتاعةٌ مُرتاعة لما يحدث، وهى تدعو الله مرارا وتكراراً بإسبال الستر عليها من حوطة البلاء ،والحفظ من الفضيحة والشقاء؛ فانسحب الذئب مزمجراً خائبا يجر أذيال العار، ونفسه تراوده بالعودة مرة أخرى، وفتشت الأم عن طفلها؛ فوجدته يلهو تحت الموائد، والأسِرة ،والكراسى ؛ فتبسمت رغم مابها من لوعة، مُشفقة عليه من الأيام ولُعبتها، منصتة للمذياع يردد إفتتاحية الشروق، من القرآن الكريم تالياًقوله تعالى:" تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لايعقلون" فلعنت الصهيونية التى أودت بزوجها ورملتها، ويتمت طفلها ؛فترحمت عليه وتضرعت إلى المنتقم الجبار بأن ينتقم لزوجها من الأيدى الآثمة التى اغتالته، وفجأة إنتهت التلاوة وبدأت المارشات
والموسيقى العسكرية وصوت المذيع يردد نوافيكم بالبيان التالى فاشرأب عنقها وركزت إنصاتها : تم إختراق الطيران المصرى لسماء سيناء، وأوبل الأعداء بحجارة من سجيل؛ فجعلهم كعصف مأكول ،ودمر معظم مواقعهم ،ويتابع البيان باندلاع نيران المدفعية الثقيلة على الأعداء؛ فأخرجت الأرض أثقالها، وقال الأعداء مالها؛ فخرج السفاحون مذعورين من أوكارهم، بعد أن عبر إليهم المصريون مجتازين القناة والساتر الترابى وحصن بارليف المنيع. ؛ فقفزت إلى أعلى، قفزة هستيرية صارخة!!.. الله أكبر!! الله أكبر!! تحيا مصر!! وعاشت فلسطين حرة مستقلة أمجاد ياعرب أمجاد!!ووقعت عيناها على التقويم السنوى المُدلى على الحائط فوجدته العاشر من رمضان 1393ه السادس من أكتوبر1973م،وأطلت من النافذة بحذر؛ فرأت جنود الأعداء يهرولون هنا ،وهناك، ويتساءلون، ويصرخون ،ويتصايحون، ووجوههم تكاد تصير دما من الفزع،وقلوبهم ترطح، وسراويلهم مبلبلة بأبوالهم و....، ولا يدرون ماذا يفعلون ، ويأتى صوت المذياع مجَددا بالقرآن الكريم من قول الحق":ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف فى قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين فاعتبروا يا أولى الأبصار" ثم جاء بيان آخر يقول: "ما أ ُخذَ بالقوة لا يسترد بغير القوة:
وتتوالى البيانات العسكرية بالنصر المبين، وراحت الأم تحتضن طفلها، وهو يجفف بيدية الصغيرتين قطرات دموعها، مربتا على كتفها مترنماً بقوله: من أجلك ياقدس
يامدينة الصلاة أُ ُصلى.... وعاد صوت الماضى الذى نستلهم منه الحاضر ونستمد منه المستقبل" إن سلاحنا وقتالنا ليس سلاح وقتال العدوان وإنما سلا ح وقتال الحق والحرية!!.