برجوازي صغير ريفي
برجوازي صغير ريفي
سامي العباس
هاجمتني الشكوك لحظة خروجي إلى الشارع المنور البارد. كانت بيجامتي واختلاف اللون بين بنطالها وقميصها منهمكة في تغذية عقليتي الريفية باحتمالات شتى من لقاءات محرجة مع أحد معارفي الذين لم تتخط علاقتهم بي الخط الرسمي.كان منتصف الليل قارساً. وكان ذلك ينضم إلى مجموعة الدوافع التي تشجعني على لركض. لكني أبداً لم أفعل. فما الذي سيقوله الآخرون لو رأوني راكضاً؟.من جديد عاودني هذا الإحساس المزمن باللزوجة. لزوجة ثخينة دأبت على امتصاص كل محاولة لي للانسجام مع أشواقي القديمة للتصرف على نحو متفلت.عند الناصية البعيدة كانت واجهة المخبز شاحبة الإضاءة. وكان الرصيف أمامها مقفراً على غير عهده. تسرب الارتياح إلى نفسي فمغامرتي هذه لن تكون بلا ثمن. سأحصل على ربطة خبز طازجة بدون التجمد ساعتين في الرتل.ولقد أفسح هذا المناخ النفسي الجديد الفرصة لأستعيد على نحو شفاف بقايا فنجان القهوة الذي احتسيته مع آخر ضيوفنا لهذه الليلة .فهاجمتني على أثر ذلك مشاعر غامضة استطعت أن استخلص منها هذا الانطباع الحاسم: إن الحياة ممتعة.
وسرعان ما تراكضت الذكريات التي لم تفقد شيئاً من حضورها الطازج (وقوفي مع زوجتي عند فسحة الدرج الباردة نتبادل مع ضيوفنا التمنيات بليلة هادئة وقد تملكني شعور بالامتلاء... الامتلاء بكل شيء... بالحلوى... بالفاكهة بالوعود البهيجة التي أثارتها بضع نظرات طائشة تبادلتها مع واحدة من الضيوف...وأخيراً هذا المتبقي تحت شفتي من فنجان القهوة الأخير يثير لدي عطشاً غامضاً ليس إلى الماء المثلج فقط بل إلى أشياء أخرى ماتعة أتحسسها على نحو ملتبس ولذيذ. وفجأة أكتشف أني قد اقتربت من المخبز على نحو سريع... ذلك أن استغراقي في التفكير قد أطلق لقدمي الحرية في انتقاء التصرف المناسب لمثل هذا الطقس القارس. ورغم أن الحبور المتولد عن ذكرياتي الملونة قد أفلح في تهدئة مخاوفي. إلا أن هذه الاخيرة قد عادت لحظة دفعت بيدي باب المخبز ذي الزجاج الرحب.. ودلفت..وهناك كان سيادة العميد أحمد عوض قد استدار بكرشه ووجهة المكتنز ليرى هوية الداخل الجديد.تسمرت للحظة. ثم تصرفت على نحو سريع وحاسم. فناورت بعيني بعيداً عن عينيه المزرورتين ووقفت مولياً إياه كتفي.(لقد رأيته ولقد رآني وهو جنرال وجار. ويخدم في نفس السلاح ومن المعيب تجاهله في هذه الفسحة الضيقة.).
ورحت أفكر على هذه الشاكلة. وشيئاً فشيئاً امتلأت بالغيظ. الغيظ من بيجامتي الخلاسية. ومن زوجتي التي تأخذها حمى النظافة في اللحظة غير المناسبة. ومن نفسي على كسلها المزمن. ترى ما كان سيحدث لو أنني تأخرت قليلاً وارتديت حلة الخروج؟ لا ريب أن آخر ربطة خبز كان سيأخذها الذي يسبقني في الرتل مباشرة...
والآن... ما الذي سيقوله سيادة العميد؟... "نقيب وزوجته معلمة يلبس بيجاما مبندقه!!و.. زاغت عيناي على نحو نصف مقصود باتجاهه... فاكتشفت أنه ينظر باتجاهي مبتسماً ومربكاً...
- مساء الخير سيادة العميد.
- أهلاً... أهلاً نقيب نصر.
حاول أن يطرد من لهجته ما يولده الحرج... وضحكت في سري لهذه المهزلة التي يكد كلانا لإجادة أدائها.
- كيف صحتكم سيدي... كيف المدام والأولاد؟
- بخير... شكراً... في الحقيقة كنا نزور أحد المعارف بيته قريب من هنا... لم نجد ضرورة للسيارة... المشي أصبح ضرورة لمثلي... هه...هه..
والتقت نظراتنا فوق كرشه المحترم... وجاهدت في إخفاء ابتسامة كانت ستزيد في دقة الموقف إلا أنه تابع شارحاً.
- عند مروري من هنا رأيت المخبز قليل الازدحام فقلت هي فرصة لنأخذ ربطة خبز.
- أوه... سيدي لقد فكرت أنا أيضاً في نفس الاتجاه ثم تابعت الشرح بلهجة مترددة:
- أنت ترى أنني خرجت على عجل لم أفلح في ارتداء السترة المناسبة... هه... هه... نحن العسكريون دائماً في سباق مع الوقت...
- صحيح.. معك حق... نظام الخدمة في الجيش يدعو إلى الاختناق لا تفلح أبداً في أكثر من حك أنفك... وفجأة انعطف بحديثه انعطافة مضحكة.
- أرى أن شيئاً مريباً حدث في الداخل لعله عطل ما... على كل حال... لقد تأخرت... سأرسل السائق صباحاً لأخذ الخبز... تُصْبِحْ على خير.
- وأنتم بخير سيدي. مع السلامة سيدي.
وخرجت في أعقابه. لقد فقدت الحماس لأي شيء بما فيه الرغبة الملحة في الحصول على خبز ساخن.
في البيت. أسكت زوجتي الراغبة في فتح محضر تحقيق بنظرة صارمة ومضيت مكفهراً إلى الفراش.