عينان فارغتان ومظلمتان
عينان فارغتان ومظلمتان
سامي العباس
كالعادة وجد الناصية باردة ومقفرة إلا من بضع قطط تتواثب وتموء مفصحة بنشاطها الجنسي المبكر عن أن هذاالشهر الفضيل هو شهر شباط. حيث الصباحات قارسة ومضببة، والشمس تطيل التفكير قبل أن تغامر بالتحليق في سماء ملبدة. ورغم أن هذه إحدى المنغصات الرئيسية التي يحتسيها كل صباح، إلا أن حقها في تعكير مزاجه قد سقط بالتقادم. لقد اعتاد -بعد أن تمثل حالته كضابط متنور في وسط معتم_ على وضع مشاعره الحقيقية جانباً عند الإنصات مثلاً إلى نشرة أخبار ذات لغة خشبية، أو مشاهدة برنامج تلفزيوني يود إقناعه بأن كل شيء بخير وإلا.... إلا أنه ظل يؤدي كعمل إضافي غير مأجور تمثيلية الاحتفاظ بالمعنويات، رغم أن هذه الأخيرة قد انخفضت منذ دهر. بل واستلطفت وضعيتها تلك فراحت تشده من ردن حلته العسكرية "حلة الضابط" مرغمة سحنته المربدة على اكتساب لون انساني بدأ يجد نفسه عاجزاً عن طرده في اللحظة التي يشعر فيها بأهمية الاحتفاظ بقشرته الفولاذية أمام مرؤوسيه.
ولقد أشاع هذا الوهن الذي ما لبث أن تسرب إلى عمارته الداخلية جواً من الاستهجان المبطن بالسخرية بين زملائه, وشيئاً من الاستهانة بين مرؤوسيه تحول مع الزمن إلى موقف مشوش من الحياة وما تطرحه من إشكالات. فراح ينقض ويشيد ما يفصله عن مرؤوسيه كل يوم عدة مرات. ويتخذ عشرات القرارات المتناقضة التي ما يلبث أن يدركها وهي ما زالت على الورق فتغفو.غير أن هزائمه اليومية مع نفسه ومع العالم الخارجي لم تورثه قنوطاً فقط، بل قسرته على النوسان بين حالتين: الاشمئزاز لكأن شبكة مجارير العاصمة تمر تحت أنفه، والهلع كأنه قد ربط إلى حزمة (ت.ن.ت) موقوتة.ولقد كان وضعه هذا الصباح أقرب إلى الحالة الأخيرة.
فكوابيس الليلة الفائتة لم يفلح في إيقافها عند حدها إلا الطقس القارس. لقد كان الوقوف لخمسة دقائق متصلة تحت رحمة هذا الطقس المريع كافياً لأن يختزل كل أوجاعه وطموحاته في مطلب رئيسي ملح _أن يأتي الباص سريعاً_ ولقد جاء الباص أخيراً، فصعد. كان لهوائه الدافئ الرطب المشبع بثرثرة صف الضباط والجنود الغائمة الموشوشة طعم الأمومة فأحس بالأمان يندس كأصابع من المخمل الثمين تحت فانيللته. ومثلما يطرد الألم االاشد جوقة الآلام الاضعف، ويصبح داخل منظومة الاعصاب سيد الموقف، توغل هذا الإحساس اللدن بالأمان مسيطراً على كل المناطق التي اضطرت فيها بقايا الطقس القارس على رفع الرايات البيض معلنة هزيمتها، ومجرجرا وراءه خدراً ناعماً لذيذاً. عند ذلك شعر بحاجة ماسة إلى أن يتثاءب ويمدد ساقيه محولاً المقعد الجلدي إلى ابن عم لسرير من الدرجة الثانية. وعلى الفور بدأت مخاوفه عملية انسحاب منظم إلى نقطة شاحبة الإضاءة فشل على الدوام في جعلها خارج دائرة وعيه، فتمترست عند حافة المدى المجدي مهددة متوعدة كماض غير نظيف لمتزوجة صادقة التوبة.
وهكذا منح هذا الطقس الدافئ المقترن بوضعية جسدية ديمقراطية الفرصة لمجموعة من التداعيات الملونة أن تفلت من تحت عيني رجل البوليس المنقبتين كمسبر ألغام في محتوياته الداخلية. فانسابت هينة كسرب من الشبوط أفلح بعد لأي في الإفلات من فاجعة جماعية. "لاحت غائمة جمجمة رئيس أركان الفوج الشائبة والعاطلة عن العمل كرأس من القرنبيط شاحب المعالم بفعل الغبش المزرق الذي يلبس الحقول في الصباحات الشتائية" فابتسم... كان لديه ما يشبه اليقين الديني بأن العناية الإلهية قد ارتكبت خطأ في الصنع فاستبدلت لهذا المخلوق قشرته الدماغية المجعدة بنصف نعل أملس. وتذكر ذلك اليوم الذي استنفر فيه كل ما علق بذاكرته من معلومات تشريحية ليبرهن لزملائه أن جنرالهم السمين امتحان عسير لعلم الأحياء. ثم ما لبث أن جره الاهتراء الذي لحق بثقافته من أنفه نحو ذاك اليقين الديني المريح. ولقد عادت هذه الذكرى لتتزعم مجموعة من الإشكالات المضحكة، ذاك المانشيت السياسي الذي رفعه أحد الخبثاء في زحمة الاستنفار الثوري العام الذي اجتاح المنطقة بعد أن اجتاحتها هزيمة حزيران "نظافة الأسنان عامل حاسم في المعركة" والآخر الإعلاني الذي ظل يقرأه طيلة شهور على واجهة إحدى دور العرض السينمائية في العاصمة "الصالة مغلقة بسبب الإصلاحات" ثم اكتشف فيما بعد من الهمس الدائر أن حسن النية المطل من الإعلان الماكر يستر خلفه فيض الإنتاج اليتيم المميز لبلدان حوض المتوسط الشرقي. -مئات من المعتقلين على ذمة قانون الطوارئ المعقود قرانه في كنيسة كاثوليكية على الصراع العربي الإسرائيلي- أفرزتهم أزمة السكن المتسربة إلى المعتقلات فكان الحل على حساب مؤسسات الثقافة المرئية. وابتسم هذه المرة بشهية لهذا المشهد المريح (بعض من القمع يأكل بعضه).وكينابيع تعبت من المناورة حول التضاريس فمضت نحو تلك الوهدة الفارغة المظلمة بقوة القانون تصرفت ذكرياته. كانت عينا خروف البارحة الفارغتان المظلمتان لحظة الاقتراب الفاجع للسكين ملتقى لكل ما انثال من نفسه الذائبة بفعل الدفء والشعور الزائف بالأمان.وسرت داخل عظامه قشعريرة مؤلمة كزعيق صافر لقطار ينقل الأحبة إلى الطرف الآخر من مشاعرنا ,لحظة استحضرت أذنه صريف ذاك السحاق الذي مارسته أسنان الخروف مع بعضها جوعاً. وصورته وهو مسلوب الإرادة بين أيدي جلاديه وقد غطت حاجته الماسة إلى الماء والعشب نظرة الغدر الواعدة بموت معجل، المطلة من أعين الجنود المتحلقين حوله كملائكة القبر، بابتسامتهم التي شوهها شوقهم المزمن إلى اللحم، والمتشابكة فوق رأسه كعوسج من النوايا السيئة.
كان قراره بذبح الخروف نوع من الاستجابة الغامضة لقوى أخذت في الآونة الأخيرة تحفر لنفسها مسارب داخل نفسه العابسة في وجه المغريات. لقد كان قراره هروباً من المواجهة ولكن إلى الأمام. ولقد منحه ذلك القرار ليلة متطاولة لكأن بنللوب قد تولت حياكة إيقاعها الرتيب. ومطرزة بالكوابيس لكأن جنياً رطب الفم قد عطس في وجهها.تقلب كمحموم فوق سريره العسكري الضيق كأفق رئيس الأركان السالف الذكر محدقاً بعينين غبيتين في محتويات غرفته المربدة كسحنة أديب شاب لحظة إفلاته من براثن ناقد ذي لغة متقعرة، وفي الليل الثخين اللاصق بالنافذة كلطخة دسمة من العار، مستسلماً لإحساس صمغي بالعطالة الذهنية بعد أن تحولت مخيلته إلى زلاقة تتزلج عليها الأفكار هروباً من متناول اليد. ثم استفاق إلى هذه اللحظة النقيض. حيث يمد الطقس الدافئ لسانه ليلعق بمودة زجاج نوافذه المغبشة مفسحاً الفرصة لأفكاره المتحشدة عند حافة خوفه الولادي أن تطل على ذاك الحقل الفسيح من ديمقراطية شاخ الشوق إليها.فاقتربت لحظة الإفلات باتجاه العالم، وأوشكت تلك الحمم الجوفية التي طالت إقامتها الجبرية تحت الصخور أن تتفلت ولكن مشهد العينين الفارغتين المظلمتين والاقتراب الفاجع للسكين عاد ليوازن المعادلة.فأغمض عينيه محتلباً بتلذذ كل ما اختزنته تلك اللحظة المتوهجة من عذوبة.