الثابت الوحيد
يوسف حامد أبو صعيليك
الجدار تبدو عليه علامات الغربة هذا اليوم ، لم يعرف يوسف لم بدا الحائط هكذا اليوم ؛ رغم الصداقة القائمة بينهما ؛ والود الذي تدل عليه صور منتقاة بعناية لفعاليات من الانتفاضة أخذت من الصحف العالمية ، أو المجلات ، بالإضافة لمنشورات " حماس " ، ولجان الانتفاضة .
بدأ يتمتم بصوت مسموع :
سراعاً إلى القدس عند النفير فإن الخلود إليها قصير
قطع ترنمه وتساءل :
-يا إلهي ، لم يبدو الجو اليوم غريباً هكذا ؟.
دخلت أمه إلى الغرفة ، كانت تريد إيقاظه ، ضحكت عندما وجدته قد استيقظ قبل مجيئها .
-صباح الخير يا أحلى أم في الوجود .
قالها وهو يداعب جبينها بقبلة .
قالت :
-أفهم من هذا الكلام ، أن لك أمهات أخريات غيري ؟.
-الأرض ،… فلسطين ، يامتممة هذا الثنائي المقدس .
قالها وهو يلف ذراعه حول عنقها .
ضحكت وهي تقول :
-ألن تكف عن تملقي يا ولد ؟.
-حتى الموت يا وردتي الجميلة.
-بعيد الشر عنك .
خرجت من الغرفة ، فتبعها يوسف إلى حيث أعدت الفطور ، قالت وهي تضع صحن الزيتون إلى جانب طبق الزيت ، وكأسي الشاي ، وألقت إلى جانبهما رغيفين من الخبز .
- ما سبب تغيبك عن عملك اليوم ؟.
ألقى بنفسه فوق الفراش وقال :
- اشتقت للأقصى .
نظرت إليه بدهشة وقالت :
- أتغيبت عن عملك من أجل أن ترى الأقصى فقط ، وقد أديت فيه صلاة الجمعة منذ يومين فقط ؟!.
قال وقد اقتطع قسماً من رغيف الخبز :
- يشدني إليه منذ أن فارقته حنين عجيب ، لا أستطيع مقاومته .
وضع لقمة الخبز المغمسة بالزيت في فمه ، قالت وهي تناوله كأس الشاي :
- رعاك الله يا ولدي ، اللهم اجعله خيراً.
أنهى تناول فطور ه ثم خرج مسرعاً بدون أن يحدد وجهته ، قادته قدماه إلى دكان " أبو حسني " ، كان هناك جمع من الرجال يلتفون أمام باب الدكان ، أدرك أنه حديث سياسي شديد السخونة ، بسبب ارتفاع صراخ أبي حسني ، وتشابكه مع صوت عزام ، وتميز صوتيهما من بين أصوات الجميع .
قال أبو حسني :
- …… يا جماعة ؛ تفائلوا بالخير تجدوه في هذا الاثنين الخيّر ، قادة العرب الآن مجتمعون في بغداد ، وبعد التهديد الذي وجهه صدام حسين لإسرائيل لا بد أن الموقف الآن سيتغير لصالح العرب والمسلمين ، وقمة بغداد هذه المرة خطيرة الشأن ليست كسابقاتها من القمم ، لنجعل التفاؤل قائداً في هذا اليوم المبارك .
قالها موجهاً نظراته المتحفزة إلى يوسف ، قال يوسف وقد أدرك بغية أبي حسني :
- ما هذا يا أبا حسني ، كأنك لم تعرف بعد شيئاً عن دنيا العرب.
قال أبو حسني وهو يطيح برماد سيجارته بطرف سبابته :
- عارف ، عارف ، ولكن الموقف الآن قد تغير بعد خروج العراق من حربه مع إيران منتصراً .
قال يوسف بصوت مرتفع :
- لم يتغير شيء يا أبا حسني ، الثابت الوحيد منذ خمسين سنة هو الدم المسفوك أمام الأقصى .
- هناك صحوة يا يوسف ،…… هناك صحوة .
قال أبو حسني .
ضحك يوسف وقال :
- ما هي علاماتها ؟.
قال أبو حسني بلهجة المنتصر :
- تهديد صدام ، ، عنوان قمة بغداد .
قال يوسف :
- ألم تشبع من العناوين المغموسة بدم الأبرياء ؟ ،…… المغموسة بزيت الخداع ؟.
قال أبو حسني :
- وماذا فعلنا نحن سوى الانسياق خلف هذه العناوين والشعارات ؟.
رد يوسف بروح المنتصر :
- لكننا صحونا من سكرتها ، وها أنت ترى بأم عينك ما هي النتيجة … الانتفاضة .
- وكرر كلمة الانتفاضة أكثر من مرة مشددا على حروفها .
- أنا معك في هذا ،… ولكنها نفس الطريق … طريق الآلام .
قال أبو حسني وهو يشعل سيجارة جديدة ، تزامن مع سعاله الشديد .
قال عزام :
- لا بد لهذا الطريق من نهاية ، ونحن سائرون حتى نهايتها ، أليس هذا
أفضل من القعود ، والركون لأنغام الشعارات ؟.
قال أبو حسني :
- وأبناؤنا الذين ضاعت أعمارهم حياتهم سدى بلا فائدة ؟.
انتفض يوسف صارخاً :
- هذا الذي أضاع أمتنا ، الخوف على حياتنا وحياة أبنائنا ، ما هي حياتنا ؟ …… عذابات … وصلاة تحت حراب يهود ؟.
وقام يوسف من المجلس غاضباّ ، وتبعه عزام ، جعل يوسف يركل الحجارة في طريقه بعصبية ، قال عزام :
- لم أرك بمثل هذه العصبية من قبل ؟.
جال يوسف بنظره في زقاق القدس ، وبقي صامتاً.
- لم تجب عن سؤالي ؟.
- الأقصى في بالي .
قالها بتوتر وضيق .
- هل يدعو هذا للتوتر ؟.
- قال عزام .
- قال يوسف :
- لا …… ولكن مرارة الواقع جعلتني تجعلني أكاد أنفجر ، وزاد أبو حسني من نسبة ذلك الضيق في صدري .
- لست وحدك من يشعر بالمرارة .
- أعرف ، ولكن صورة الأقصى التي لا تفارقني منذ فترة تجعلني أتميز مرارة.
- بغداد ستلبي نداءه قريباً .
- قال عزام .
- قال يوسف :
- لن يلبي نداءه الآن ، ولن يذهب غيظي ، سوى شيء واحد هو الدم .
- رد عزام :
- وهل جف الدم يوماً أمام ساحاته ؟.
- ظل يوسف صامتاً ولم يجبه ، أخذ يجيل بصره في الجدر من حوله ، قطع عزام الصمت بقوله :
- هل ستذهب إلى الأقصى؟.
- ربما أطفئ نار شوقي إليه .
- استدرك عزام :
- الأجواء اليوم مشتعلة حول الأقصى ، المستوطنون يتطاير الشرر من أعينهم.
- قال يوسف :
- وهل سبق وأن بدت في أعينهم سيما الوداعة ؟!.
- الجو اليوم متكهرب ومتوتر ، أشك بنية المستوطنين .
- ما الذي سيفعلونه أكثر مما فعلوا ؟.
ترك عزام وعرج في طريقه نحو الأقصى تلونت جدران حارات القدس في عينيه باللون الأخضر ، الرائحة التي طرقت أنفه رائحة محببة ، ردد في نفسه :
- أي رائحة تلك الطيبة ؟، من أي جنان أقبلت ؟،……… أي عبق هذأ ؟.
طوال الطريق إلى الأقصى ، لم تفارقه تلك الرائحة ، ولم يغب عن عينيه اللون الأخضر الذي أصبح يكسو الجدران ودور القدس العتيقة .
عندما اقتربت خطواته من الأقصى ازدادت الرائحة كثافة ، وازداد اللون الأخضر تألقاً .
كان المستوطنون يشكلون تجمعات ، بدو وكأنهم يريدون فرض حصار حول الأقصى ، وانتشرت السيارات العسكرية في المكان بكثافة ليست عادية.
مر بجانب إحدى السيارات ، وجعل يتمتم :
رعاع ، ذئاب ، ……… كم هم مخادعون ، فالجنود سينضمون للمستوطنين لا محالة ساعة الصفر .
عندما هم بالدخول إلى المسجد ، كان صوت ما يناديه للتجول في ساحة الأقصى ويمنعه من الدخول .
إيه ما أقسى الانتظار ، أين أنت يا صلاح الدين ، لن يجدي الانتظار .
عادت كلمات عزام في حواره مع أبي حسني ترن في أذنيه :
- عندما يقتل جنود الاحتلال مواطناً ، سيكتفي المجتمعون في بغداد بإصدار بيان شجب ؛ هذا ما سيحدث يا أبا حسني ، خذ مني؛ لن يرسلوا لك جيشاً عرمرماً للثأر لهذا القتيل ؛ لهذه الدماء ، أنت تعرف هذا ، لكنك تتمسك بالأحلام .
دخل المسجد وانضم للجماعة المصلية. وما أن بدأ في الصلاة حتى انطلقت بدأت أصوات العيارات النارية تعلو ثم ارتفعت الصيحات من أفواه المصلين ، قطع صلاته مثلما الآخرين واندفع خارج المسجد ليرى ما يحدث ، كانت ساحة الأقصى قد تحولت إلى ساحة معركة ، وضجيج الطلقات النارية يصم الأذان .
تناول حجراً وأسرع للانضمام للمدافعين ، كانت رائحة أحقاد المستوطنين تنتشر مع كل رصاصة تخرج من رشاشاتهم ، تعلو صيحاتهم بجنون وعطش بادٍ .
صرخ يوسف وهو يلقي حجراً :
- انظروا أيها المجتمعون ، لماذا تجرأت علينا هذه القطعان ؟.
تناول حجراً آخر ورمى به أحد المستوطنين ، فشج جبهته ، لحق به أحد الجنود محاولاً الإمساك به .
- لن تسمعوا صوته أيها المجتمعون ، أعرف ذلك .
تضاعفت العيارات النارية واختلطت أصواتها بصرخات الاحتجاج ، وأصوات الغاضبين ، …… والألم .
اشتد في إلقاء الحجارة نحو جنود الاحتلال ، وتكاثفت العيارات النارية وغطت المكان أعمدة الدخان والغازات ، أخذت الإصابات تتكاثر في صفوف المدافعين ، …… والشهداء .
غمس يده في بحيرة من الدم ، ورفعها أمام عينيه ، وصرخ:
- ألم أقل لكم أنه الثابت الوحيد.
حمل صخرة كبيرة ، وألقى بها في منتصف الطريق ليعيق تحركهم ، لحق به ثلاثة جنود ، استدار نحوهم ، ورماهم بحجر كان قد التقطه أثناء عدوه ، وتابع طريقه هارباً ، انتشر اللون الأخضر في كل الساحات ،……… وتباطأت سرعة يوسف ، حاول زيادة سرعته ، لكن ……… شيئاً ما …… اخترق عنقه ، وأوقف حركته ، …… ثم أسقطه على وجهه .
رفع رأسه ، ونظر إلى الشارع الممتد أمامه ، ما زال الشارع يتوشح بالاخضرار ، بدأ سائل أحمر يخفي اخضرار الشارع أمام عينيه ، ما زال السائل ساخناً …… لزجاً .
ابتسم برضى ، ثم ألقى برأسه على الأرض