حكاية الشيخ عبد المجيد

عبير عبد الله الطنطاوي

بقلم : عبير عبد الله الطنطاوي

[email protected]

جلس الشيخ الجليل عبد المجيد بين أكوام المرضى والمراجعين عند أشهر طبيب أمراض تناسلية في المدينة والهم يعلو وجهه والحياء يضع وجهه في الأرض .. بينما عيناه تهربان من عيون الناس وهم ينظرون إلى هذا الشيخ الجليل ويتساءلون ويتهامسون :

ـ ما الذي جاء به إلى هنا ؟

- أليس هذا الشيخ عبد المجيد صالح !

- ترى هل جاء في استشارة له أم لأحد أقاربه ؟ أم أن أحداً من المتصلين به على الهاتف قد حمّله همّه فجاء - يا حسرتاه عليه - يسأل عن حالته !!

تساؤلات وتساؤلات محيرة ومحرجة ..

وجاء دور الشيخ فقالت الممرضة :

ـ السيد محفوظ .. السيد محفوظ ..

لم يرد الشيخ أول الأمر .. ثم نهض مذعوراً قائلاً :

ـ نعم .. حاضر..

وتكاثر الهمس :

ـ محفوظ ..!! لا هذا هو الشيخ عبد المجيد ....

وقبل أن يستكمل سماع التساؤلات كان قد دخل إلى الغرفة مسرعاً يكاد يتعثر بخطاه ..

وما إن دخل إلى غرفة الطبيب حتى سمع الطبيب يدعوه ليتفضل بالجلوس ثم ابتدره قائلاً :

ـ لا تستحي يا شيخي من أي تساؤلات قد تبدو لك محرجة فلا حرج في المرض ..

ابتسم الشيخ وقال باستحياء :

ـ حياك الله يا أخي ..

وما إن دقق الطبيب النظر في وجه مريضه حتى قال مرحباً بخشوع :

ـ يا رجل أنت الشيخ عبد المجيد صالح .. كيف يقولون أنك محفوظ ؟ يا حياك الله يا شيخي .. أهلاً بك .. والله إن برنامجك الأسبوعي لا يفوتني أبداً، إذا كانت عندي مشاغل الدنيا فإن الأولاد في المنزل يسجلونه لي بالفيديو ..

قال الشيخ وقد أسقط في يده :

ـ ما شاء الله عليك .. طبيب وتهتم بأمور الدين !

قال الطبيب وقد شعر بالفوز والفخر :

ـ الدين والدنيا معاً يا شيخي كما علمتنا في برنامجك .. يا ليت كل الناس يطبقون كلامك إذن لقفلت عيادتي هذه لأن معظم البلاء قادم من عدم الالتزام بأوامر المولى.

أسقط في يد الشيخ مرة أخرى .. ولم يفق إلا على صوت الطبيب يعيد عليه سؤالاً قد سأله إياه عدة مرات من دون أن ينتبه إليه أو يجيب عليه :

ـ يا شيخي ما الذي جاء بك إلى هنا ؟ لابد أنها طلبات المشاهدين !!!

ولم يستطع الشيخ إلا أن يعترف :

ـ بل أعراض يا دكتور وجدتها في نفسي من دون أن أجد لها تفسيراً ..

ـ وما العيب في ذلك ؟ تفضل معي نفحص ..

وعند الفحص ؛ وتساؤلات الطبيب تزداد سؤالاً بعد آخر، كاد الشيخ يسقط مغشياً عليه ، لولا أن تداركته رحمة الله .. رفع الطبيب يده من على الشيخ وقد كستْ وجهه سحابة سوداء من الهم والغم والعجب !! وذهب يعقم يديه .

بينما أخذ الشيخ يرتب نفسه ويعدل هندامه بعد الفحص .

قال الطبيب في ذهول:

ـ لابد من تحاليل حتى تثبت الحالة .. ولكن كيف يا شيخ ؟؟ كيف ؟؟

ـ والله يا بني لا أدري ..

ـ لا يا شيخ أنت تعرف وتعرف وتعرف ..

وانهمك في كتابة التحاليل اللازمة بينما الشيخ قد دفن وجهه بين يديه . وما إن انتهى الطبيب من عمله  حتى قال :

ـ موعدنا عند صدور نتيجة التحليل الأسبوع القادم إن شاء الله .

وانصرف الشيخ والدنيا سوداء قاتمة بعينه ، كيف وقع في هذا الشرك وهو من يعلم الناس عنه صلاح الدين والدنيا معاً . وأخذت الذكريات تتدفق عليه :

لقد بدأت القصة هكذا... امرأة في البيت تعتقد أن الشيخ ملك منْزَل، وليس له بالنساء حاجة ، حتى لما وصلت سن الخامسة والأربعين غدت زوجتي حلالي تتجاهل وجودي كرجل في المنزل ، وبحكم مكانتي امتنعت عن نصحها وأخذت أبتعد عنها ، وهي تظن أن هذا ورعٌ وإيمانٌ، ولم أجد نفسي إلا بين براثن فتاة نصرانية في العشرين من عمرها قدمت إليّ مستنجدة تريد وظيفة عند رجل محترم لا يطمع فيها وفي ضعفها وحاجتها ولم تجد نفسها إلا وبيدها رقم هاتفي الشخصي الذي يذيعه التلفاز أثناء برنامجي لتطلب الوظيفة في مكتب من المكاتب التي (أمون) على صاحبها . وتم لها ما أرادت بحكم معارفي ، وعلى أساس التعامل معها على أنها من المؤلفة قلوبهم ، ولكن الفتاة لم تدعني وشأني بل ظلت تتصل بي وتطلب اللقاء معي لتسألني عن أمور الدين لعلها تنجو وتفوز بالإسلام ، ولما أصبحت أرى من نفسي تعلقاً بهذه الحسناء الصغيرة ، صارحتها أنني لا أريد أن أراها لأن قلبي بدأ يتعلق بها وهذا محرم في ديننا ، فما وجدت منها إلا أنها أبدت رغبتها الحقيقية في الارتباط بي وتحمل مسؤولية ذلك .. ولم تمض ساعات حتى كانت زوجتي رسمياً ، من دون إشهار عام حتى لا تعلم أم الأولاد .. وبعد مدة بدأت أعراض المرض المذّل تظهر عليّ ، وبحكم عملي وبحثي الدائم وراء العلم عرفت أن هذه الفتاة هي الناقلة لي لهذا المرض السيئ ، وضاقت علي الأرض بما رحبت عندما واجهتها بالأمر فأجابتني بصراحة :

ـ طيش شباب وربما كان ممن تعرفت إليهم هو من نقل لي العدوى .

وعندما هجمت عليها أريد ضربها .. قتلها .. بادرت قائلة:

ـ اعقل يا عجوز ، ما الذي يطمع فتاة حسناء مثلي في عجوز مسلم. إياك أن تمد يدك هذه علي مرة أخرى وإلا بلغت الصحافة عنك وفضحتك .

وبعد دقائق كانت قد تركت المنزل ومعها حقيبتها .

والله يعلم أنني لم أخطئ بحقه ولم أرتكب فاحشة.. فلتسترني يا حليم يا ستار يا الله ..

بعد أسبوع انتظر الطبيب أن يحضر الشيخ وانتظر وانتظر ولم يحضر ، وفيما هو يفحص أحد مرضاه ؛ جاءه هاتف من زوجته تخبره بأسف:

ـ عرض التلفاز الآن نبأ وفاة الشيخ عبد المجيد صالح بنوبة قلبية في منزل منعزل في إحدى ضواحي المدينة منذ ثلاثة أيام.

أطرق الطبيب بألم ثم قال وقد نفرت دمعة حرى من عينه :

ـ الحمد الله .. الله حليم ستار....