نفس صغيرة

سامي العباس

[email protected]

رغم أن مكابح سيارة الواز لم تكن على ما يرام، إلا أن العقيد مصطفى ظل يسوق بعصبية ظاهرة. كان يلجأ كثيراً إلى مبدل السرعة ليتملص من عقابيل السير على طريق شتورة - دمشق المزدحم.

منذ أقلعت بنا السيارة لم نتبادل أي حديث. ألقى لحظة صعوده كلمة (احترامي) بنفس الطريقة التي ألقى بها نفسة وراء المقود، ففضلت لذلك الفرجة. وهو موقف يتصل بنزعة القصاص لدي، الذي يفضل في اللحظات الدسمة أن يتحول إلى كاميرا.

في (بر الياس) اقترح السائق الجالس في المقعد الخلفي أن نتوقف عند (كومجي) لتفحص الدواليب. في الشارع الذي كان يتحمص تحت شمس أيار، كان شريط الظل المرمي على أعتاب المحلات التجارية شديد الإغراء. ترجلت، إلا أن إغراء آخر أضاف نفسه إلى شريط الظل, كانت تشيعه (فاترينات) العرض .وسرعان ما راحت هذه الأخيرة تتبادلني فيما بينها بيسر. توقفت عند واحدة تعرض ثياباً نسائية وكنت قد ابتعدت عن السيارة بضعة عشرات من الأمتار. راح العقيد مصطفى يلوح لي بنفاذ صبر.

بالقرب من محل الأزياء توقفت تكسي مطروح على مقعدها الخلفي بيدر من الفساتين .وكان رجل معروق الرقبة والساعدين، أميل إلى القصر يتناول من الركام بضعة فساتين، يرتبها على حافة باب التكسي المفتوح تمهيداً لإدخالها إلى المحل. اقتربت بتردد، واستفسرت عن الأسعار. شد الرجل قامته وقال بكثير من الاحترام.

- تكرم سيادة العقيد. سنراعيك.

قلت مبتسماً: إلى أي حد ؟

- ثلاثة عشرة دولار. بأولادي سعر الجملة.

كان الثمن مغرياً حقاً. مع ذلك رحت أتحسس بأصابعي القماش متردداً. وكان العقيد مصطفى قد وصل وراح يجفف عرقه بتوتر ظاهر. قلت بطريقة من يصب الماء على الحواف الساخنة لطنجرة قبل أن يحملها:- ما رأيك.
أجاب مستنكراً بحاجبيه وأنفه وشفته العليا ثم أردف:- الله يخليك سيادة العقيد.

استعجل. سيادة العميد قد كلفني بمهمة.

قلت بلهجة حازمة وجافة: طّول بالك.

مشيت وراءه متمهلاً بعد أن اشتريت الفستان. ومن جديد راحت الواز تنهب الطريق باتجاه قرية (المصنع) وكان العرق ينز من جبين العقيد مصطفى وصدغه. وكانت قدمه تضغط على (مدوسة) البنزين بكل الحماس المميز لكل أولئك اللذين فرختهم الإيديولوجيا النضالية المسيطرة. عند ذروة الطريق الصاعدة، وقبل نقطة الجمارك اللبنانية ببضع عشرات من الأمتار، أوقف العقيد مصطفى السيارة بتعسف. وطلب من السائق أن يضع حجراً وراء الدولاب الخلفي، ثم غاب لأكثر من ربع ساعة داخل صف طويل من محلات الأحذية، وعاد يحمل كيساً صغيراً من النايلون الأسود. ناوله للسائق باحترام، ثم أقلع بنعومة. التفت إلي بعد دقيقة وقال بلهجة من تبددت همومه.

- أهلاً سيادة العقيد. أنا جاهز للحكي.

جاملته بابتسامة وهمهمت بشيء ما. اصطدمت رغبته بالحديث برغبتي في التأمل.

راحت تبدلاته النفسية تتحول إلى شريط أعيده إلى بدايته كلما وصل إلى (جاهز للحكي).

بينما الطريق الصاعدة المتلوية عبر وادي (القرن) تنتزع من السيارة عويلاً مديداً.عند مفرق الزبداني، حيث ينتظر عادة جنود من مؤخرة الفوج جعالة الطعام اليومية، كان يقف (بيك آب) أبيض نزل من وراء مقوده شاب في العشرين يلبس ثياباً بدويه وراح يقدم باتجاهنا قدماً ويؤخر أخرى.قالَ العقيد مصطفى وقد عادت إليه حالة الحصار الذهني:- عجبك !! ماذا سنفعل؟؟

- لننتظر سيادة العميد. لا يوجد حل آخر.

رغم أن جوابي يوحي بأنني في الصورة ، إلا أنه تابع شارحاً دقة الموقف وحراجته:

- طلب مني سيادة العميد أن أترك له (الحذاء) عند عناصر (سخرة الطعام) وهاهم أولاد الزانية لم يحضر منهم أحد !!.

في هذه اللحظة كان الشاب البدوي قد وصل إلى جوار العقيد مصطفى وراح يسأل عن العميد (إياه) وأنه ينتظره منذ الصباح وأنه. وأنه.
سرَّحت بصري نحو (البيك آب) كانت ثلاث تنك من الجبنة البلدية قد ترادفت في الصندوق المكشوف. ترجلت من السيارة وابتعدت لأتبول بعد أن داعبت العقيد مصطفى:-

أستطيع أن أتبول، ليس هناك مسؤولية !!.

وأنا أفرغ مثانتي ظل عقلي يقلِّب في الورطة الجديدة للعقيد مصطفى (إن انتظرنا العميد سأرى ما لا يجب رؤيته وسيكون مسؤولاً عن ذلك أمام الله وسيادة العميد دفعة واحدة).

عندما عدت كان العقيد يجري حديثاً مع كهل شوت الشمس وجهه بلا رحمة، وكانت ثيابه ولهجته تؤكد عراقة بداوته.

- طال عمرك. الوليد يخدم عندكم العسكرية. نريد تديرون بالكم عليه، وأحنا ما نقصر بعون الله.

- تكرم يا عم. تكرم.

راح العقيد مصطفى يردد، إلا أن المرح الذي يرافق عادة هكذا موقف كان متوارياً.

وبدى من تقطيبة جبين العقيد بأنه يلوك في ذهنه اقتراحاً.

تركته لبضعة دقائق على الموقد وتشاغلت بالنظر إلى البيك آب. كان ذلك بقسوة الضغط على الأصبع المجروحة. وعلى مهل رحت أستمتع بالثواني وهي تمر ثقيلةً مشحونةً. وراح خيالي يسرح مكملا عناصر المشهد. غداً عندما يقف العقيد مصطفى بين يدي العميد كما سنقف جميعاً بعد عمر طويل بين يدي (الديان) ,سيتحول العقيد مصطفى داخل بزته العسكرية المكوية بقسوة إلى حمار، ثم سيتضاءل إلى صرصور، وعلى الأغلب أنه سيتابع تحولاته ليصبح (قملة) تقف على حافة ياقته المنشاة. ورحت أقلب في ذهني العبارات التي يمكن أن يتفضل بها عليه سيده العميد. لا أدري كم مر من الوقت على العقيد مصطفى وهو يتقلّى. واستحالت ثرثرة البدوي الكهل إلى ما يشبه طشيش الزيت في المقلاة. وراحت بصيرتي تكشف كمصباح في العتمة، الزوايا التي تتلطى فيها النفوس الميته. وكان الضوء أينما ذهب يثير لدي رغبة إضافية في الضحك، الضحك العميق (المديد) الذي يمط تأثيره حتى أظافر القدمين. ضحك يشيع الرضى في النفس إلى حد الزهو، ضحك يفلت النفس من يديه كما تفلت جوهرة من بين يدي الصائغ نظيفة ألقه.التفتّ’ إلى العقيد مصطفى وقلت بطريقة من يمد حبلاً لغريق.

- لا داع لانتظار العميد. اترك له الحذاء مع العم.. بماذا نناديك يا عم؟ ..

- أبو جليدان.. أجاب الكهل بحيوية.

- العم أبو جليدان سيحل المشكلة.

- كنت أدرك مدى الخدمة التي أسديها إليه. وقد بدى ذلك في أساريره التي انفرجت، وفي طيف ابتسامة شكرٍ تشكلت ثم ذابت بعد أن أقلعت الواز.

في الطريق المنحدرة إلى دمشق راح يستعيد عافيته النفسية بالتدريج. وعندما ظهرت بساتين الغوطة الغربية غارقة في أبخرة المدن الحديثة راح يحكي لي للمرة العاشرة نكتةً.. ولم أضحك.. فقد كنت متخماً بالضحك.