رصاصة في الجبين

رصاصة في الجبين

محمد حسن فقيه

[email protected]

طموح وثاب يقفز بمشاعره وأحاسيسه إلى عالم آخر، آمال عريضة ترتسم أمام ناظريه في الأفق البعيد وتعده بمستقبل زاهر، أحلام عذبة تدغدغ خياله الخصب و تفتح أمامه ليله قدر إلى الجنة  ..... مؤسسة الأمل لتجارة المباني والمقاولات العامة .

أنت ... أيتها السكرتيرة ... دهمته خواطر شتى حين طافت هذه الكلمة في خياله وأشرقت في صدره شمس دافئة ، زودته بشحنة دافقة من الأحلام ... ثم أطلق العنان لخياله محلقا ... ضغط على زر أمامه ... فتح الباب عن ملاك يتهادى نحوه بغنج ودلال .

 بنظرة صارمة ، وتعليمات حازمة لا تقبل هذه الحركات والأساليب ، وإ لا لضاعت الثروة و تبددت الأموال وأفلست الشركة.   

" أحضري  لي التقرير الشهري عن سير أعمال المؤسسة .. ما هي أخبار مناقصة مشروع المحطة الكهروحرارية ؟ ومشروع برج الأمل للشقق الجاهزة ؟ كم مهندسا أصبح ملاكنا ؟ هل درس المهندسون إعلانات اليوم ؟ قدمي لي مقترحاتهم ، جهزي لي عطاء مناقصة الأمس عن مستشفى الشفاء ، وعطاء ما قبل اٌلأمس عن ثانوية المجد في الحي الدبلوماسي ، لألقي نظرة سريعة على الأسعار والمواصفات .

 صحا من حلمه ، أفاق من شروده ، ضرب أصابعه على جبهته ، أفتر ثغره عن بسمة خفيفة ، و دار برأسه يتلفت يمنى ويسرى تحوس عيناه وتتفحصان جدران غرفته العارية ، و تتدحرجان من جدار إلى جدار فلم يصطدم بصره إلا بمكتبة قديمة ، تزاحمت فوقها كتب شتى من جميع الأصناف والأنواع والأحجام .

ما فائدة شهادته الجامعية ؟ و ها هي السنة الخامسة التي يرفض قبوله في المسابقة ليثبت كمدرس أصيل معتمد من الوزارة ، رغم معدل نجاحه الجيد ، وتفوقه المتواصل ، فقد أنهى دراسته في أربع سنوات ، في حين فاز في المسابقة "ثائر" زميله  السابق في الدراسة الجامعية والذي أنهى دراسته في سبع سنوات بدلا من أربع .

قذف نحو المكتبة بنظرة شزر، ما  فائدتك جميعا أيتها الكتب والمجلدات ؟... إنك ثروة البؤساء والمحرومين ...إن عصرنا هو عصر الفلوس...."من معه أكثر يساوي أكثر" .

كلما ملكت منها أكثرفقد ملكت معها قوة السطوة والنفوذ، ومارست هوايتك في الزعامة والسيطرة ، الناس لا تحترم العالم والمفكر والأديب أو المثـقف ، الناس تتملق صاحب الفلوس والثروات ، وتتمسح بذيله وتجري خلفه .

انطلقت زفرة آه طويلة ممطوطة لم يتمكن من كبح جماحها ، حملها كل أسراره الدفينة وانفعالاته الداخلية التي خشي من الإفصاح عنها بلسانه .

 عزم أمره ، فحزم أمتعته إلى بلاد الثراء والنعيم ، حيث الأموال المكدسة  في الشوارع وحاويات القمامة ..... بعد أن باع بعض أثاثه ، ومن جملتها مكتبته أو ثروة البؤساء كما سماها .

لم يكن الأمر كما سمع وتصور في مخيلته عن لم الأموال وجمعها من فوق الأرصفة ، وغرفها من الشوارع ، وتفريغها من الحاويات ، لم يجد في الشوارع غير المتسكعين والساقطات ، ولم يجد في الحاويات غير القمامة .

وجد الأمر لا يختلف صعوبة عن جمعها في بلاده، إضافة إلى دفع ضريبة الذل والهوان ، فقد باع أنفته ، وأجر كرامته ، وجرد أحاسيسه ، وأودع ثقافته وشهادته في إجازة طويلة ، ووظف نفسه أن يكون نعلا ، أو حتى حمارا ليتمكن من تحقيق أحلامه ، وبناء مستقبله ، وجمع الثروة المطلوبة لتحقيق ذلك .

 عشر سنوات من الكد والجهد المتواصل ، لم يذق فيها طعم الراحة ، ولم يدخل جوفه لقمة هنيئة ، ولا شربة مريئة ، اقتات فيها على آمال الغد طموحا لإنجاز أحلامه ، وولوجه إلى دنيا السعادة والثراء .

 تجرع غصص الغربة ، وأبتلع كبسولات الذل ، تجمدت خلالها عواطفه ، وتحجرت مشاعره وأحاسيسه ، وكل ذلك كان عزاء لتحقيق أحلامه ، وبناء مؤسسته المنشودة .

لم يسافر إلى بلده مرة واحدة ، وصلته الرسائل تلو الرسائل تشرح له أوضاع أهله ، وعائلته ، أو تنبئه عن مرض والده ... ثم وفاته وبعدها والدته...ثم أقاربه واحدا بعد الآخر، كان آلة صماء تدور بدون كلل ولا ملل ، يعمل عشرين ساعة في اليوم ، ويرتاح ساعاته القليلة في زاوية من زوايا المصنع الذي يعمل به ، فوق المعدات والآلات ، أو في غرفة مهجورة ، استخدمت مخزنا لبعض قطع الغيار....أو حارسا على باب مشغل أو بقالة...أو محطة وقود ، لم يستأجر ولو غرفة يتيمة ليتمدد فيها وينال بعض الراحة من عناء العمل ، أو حتى يشارك زميلا له في غرفة ليرتاح فيها من ضجيج الآلات ، وروائح الزيوت والدخان .

الدولارات القليلة التي كان يرسلها إلى زوجته وأولاده من يوم وصوله ، تقلصت رغم رسائلهم المتعددة المتلاحقة ، التي تطالب بزيادة المصروف ، فلقد كبر الأولاد وارتفعت الأسعار ، وازدادت متطلبات الحياة... ومصاريف المدارس أصبحت مرهقة .

لقد أعتبر رسائلهم نوعا من الابتزاز والتبذير، ضيق على نفسه ، وغلّ يده إلى عنقه ، وضنّ على أولاده ، حتى يوم أخبروه في رسائلهم بأن ابنه البكر تيسير سوف يترك المدرسة ليعمل في ورشة إصلاح سيارات ليتسنى له مساعدة إخوته في مصاريف الدراسة ، ضحك في نفسه لذلك الخبر وأعتبره نوعا من أنواع الاحتيال والابتزاز ليرفع لهم المصروف .

أزفت ساعة الرحيل بعد رحلة مضنية ومشوار طويل من الكد والشقاء ، فلقد حسب كل حساباته ، جمع وطرح وضرب وقسم ،... ثلاثمائة ألف دولار تكفي لإنشاء الشركة... وقد آن الأوان لاسترداد كرامته ، وأنفته المرهونة ، ويعود إلى آدميته المفقودة ، ويمارس هواية الزعامة ، وغريزة التسلط ، وملكة السيطرة ، وتوزيع الأوامر والانتقام من المجتمع الظالم عن كل ما عاناه في سنوات الغربة ، لقد عانيتم يا أولادي الكثير وقد حان الوقت لأرد لكم ذلك الدين ، ستصبحون جميعكم مد راء ومسؤولين في الشركة ، سوف تتدفق الأموال حولكم من كل جهة وتنصب فوقكم كشلال غزير.. سوف تصبح الأموال بين أيديكم اللعبة المفضلة... أما الدراسة فدعكم منها والتفكير بها...إنها طريق الفقر الطويل ، ودرب الشقاء اللاحب ... ماذا جنى أبوكم منها غير الفقر والتعاسة ، أما أنت يا زوجتي الحبيبة فغدا سوف تباهين سيدات الحي عندنا بالحلي والمجوهرات النادرة ، وتصبحين مضرب مثل ، وستكونين من سيدات المجتمع العصري .

وأنت يا أسماء لقد دفعت أيضا مع أبيك ضريبة الذل ، وتزوجت من موظف فقير وحقير، لا عليك سوف أجعل منه مديرا إن كان يستحقك وترضينه ، وإلا طلقتك منه ، وزوجتك من سيد سيده ، وعينتك مديرة في شركتي .

أبتاع تذكرة السفر، وحجزرحلته بعد أن جهز الهدايا  لجميع أولاده وزوجته ، وكل من تذكره برسالة من قرابته وأصحابه بعد تلك الغربة الطويلة .

أغمض عينيه على أحلام لذيذة ، والدولارات داخل حقيبته يضمها بعضديه ، كما تضم الأم وحيدا لها بعد عنوسة طويلة .

نسي أن الأحلام ممنوعة ، وأنها مهددة في كل لحظة بالاغتيال ، فشريعة الغاب سائدة وهي الأصل ، وقتل الإنسان لا يعدل أكثر من دعس حشرة حقيرة بحذاء وسخ .... رغم كل ما تمتلكه من أسباب الحضارة ، ومؤهلات الرقي والمدنية وتقدم العلم .

صحا على جلبة وضرب على الباب ... كسر الباب ... اندفع ثلة من الشبان بهيئة غريبة ، ملابس ممزقة ، وشعور طويلة فوضوية ، وبأيديهم أسلحة نارية ، والشرر يتطاير من أعينهم .

ارتعد لهول المفاجأة ، احتضن الحقيبة بيديه وضمها بعنف إلى صدره ، ثم تراجع ليسند ظهره إلى زاوية الجدار، قرع في أذنه صوت اللصوص : إختر بين...حياتك أو الحقيبة ؟........روحك أو الدولارات ...؟ وهل بقي له من هذه الحياة شيء.... إن ذهبت الأموال فإن حياته ستتحول إلى شقاء دائم ، ونكد مستمر، وتنغيص لا ينقطع إلا بانقطاع جذوره عن هذه الحياة .

فكر في المقاومة ، لكنه وجد الأمر ضربا من الخيال وسينما أبطال الخوارق.. إنه الجنون بعينه ، أفلت يديه ، تهاوت الحقيبة من بين يديه وسقطت على الأرض ، انفتحت وانتثرت  محتوياتها من الدولارات تفرش الأرض من حوله ، امتدت يده بلا شعور لتجمع بعض الأوراق ، فتلقى رفسة على ظهره طوحت به بعيدا، وكبته على وجهه ، جمع اللصوص الدولارات وأعادوها إلى الحقيبة ، حملها أحدهم وانطلق في المقدمة ، وتبعه الثاني ، وهم الثالث بالخروج خلف صديقيه ، انتصبت في ذهنه ألف صورة وصورة ، ومر شريط عشر سنوات من الكد والشقاء أمام عينيه كلمح البصر.

ارتسمت في مخيلته كل صور الذل و الإهانة ، صور الشقاء والتعاسة ، صورة الآلة الصماء والضجيج ، صورة الدخان وأبخرة الزيوت المحترقة ، صورة الأهل والأولاد وما طبع في تلافيف دماغه  من خلال رسائلهم المستمرة وشكاويهم ومعاناتهم ، كلها حشرت في تفـكيره دفعة واحدة .

توفزت أعصابه وتحولت إلى كتلة من الحقد ، تطاير الشرر من عينيه... كيف يتبخر حصاد  وشقاء عشر سنوات بلحظة واحدة...استجمع كل قواه قفز، على اللص الثالث كلبؤة جريحة ، قتل ولدها في حجرها ، سقط اللص على الأرض وارتطم رأسه بالبلاط ، فأصدر صوتا عاليا امتزج مع صرخة استغاثة لاشعورية.

بريق أمل يلوح له... ها هو المسدس قريبا منه ، قفزة سريعة ويصبح في يده فيردي اللصين الآخرين برصاصتين ثم يتم على الأخير برصاصة ثالثة في جبينه ، قفزة سريعة ، لقد أصبح المسدس في يده كما خطط وتصور...

رفع المسدس إلى الأعلى نحو صدر اللص ، أحكم التسديد وقبل أن يعصر على الزناد ، رصاصة محكمة التسديد تقيأت من مسدس أحد اللصين واستقرت فوق العينين وسط الجبين .

تبعتها رصاصة ثانية وثالثة و....عاشرة ، تناثرت على كامل جسده وهو ينتفض كقربان ، وشلالات من الدم القاني تنفر من كافة أنحاء جسده ، تخضب البلاط بسائل لزج ساخن أحمر قان .