ليرة ذهب
إبراهيم عاصي *
اندلعت نيران الحرب العظمى وأخذت تلتهم البشر والبلاد ، ودخلت فيها الدولة العثمانية العلية لتحارب بسواعد رعاياها من شتى الملل والنحل ولتزج بهم في معتركها اللاهب المستعر.
وسار (شكيب) ورفيقه (صالح) في موكب قرعته مع (السوقية) في (طابور) طويل قاصدين (القرار كاه) حيث مركز التدريب في بعبك ، ولم يكن شكيب وصالح رفيقي طريق وحسب ، بل كانا رفيقين منذ الصغر، وابني حي واحد وبلدة واحدة ، يرتعان ويلعبان معاً منذ طفولتهما الأولى . ولقد تزوج صالح منذ سنتين من إحدى قريباته التي أنجبت له طفلاً سماه (عابد) وبنتاً سماها (مريم) في أعقاب حب عفيف عنيف. وكان يشار غليه بالبنان في بلده لأنه أحد ثلاثة يتقنون القراءة والكتابة في طول البلدة وعرضها . بينما كان شكيب لا يزال عزباً خاطباً وكان أمياً شأنه في ذلك شأن سائر أبناء زمانه .
على أن (شكيب) كان مربوع القامة أسمر اللون أسود الشعر والعينين أجش الصوت جلداً صبوراً . على حين كان صالح (أبو عابد) شاباً أقرب إلى الطول ، حنطي اللون ، رقيق البشرة ، واضح القسمات ، في صوته حنو وفي وجهه معالم روح وادعة مطمئنة .
وصلت (السوقية) إلى بعبك حيث معسكرات التدريب ، ووزع القوم إلى سرايا ومجموعات تدريبية.
وظلا كذلك إلى أن انتهت الشهور الثلاثة المحددة فترة للتدريب . ولم يكن لهما من عزاء طوال تلك الفترة على ما فيها من مشقة ونصب وإرهاق إلا أن يجلسا معاً في وقت فراغهما المحدد يتبادلان ذكريات الطفولة وأول عهد الشباب ، ويتحدثان ملياً عن آمالهما في العودة إلى ملاعب الصبا ومراتع الأمن والجمال .. إلى الأهل .. إلى الوطن .. إلى الأب والأم والأبناء .
وكانا كثيراً ما يتمنيان على الله ألا تطول سنوات الحرب التي لم يؤمنا بهدفها منذ اللحظة الأولى .. وأن لا تنأى بهما الديار أبعد من ذلك .
وما اكثر ما قطع حديثهما دموع سخية سخينة كانت تنفسح على وجنتي شكيب وقد تخيل آخر صورة لأبيه المتداعي وهو يدب خلفه في موكب الفراق ، ولأمه العجوز وهي تضرع إلى الله وسط الجموع الغفيرة من الأمهات المودعات بذراعين مرتجفتين أن يمد الله بعمره ويعيده سالماً .. وآخر صورة لخطيبته (زكية) وهي تلقي عليه خلسة آخر نظرات الوداع من نافذة عليتهما المطلة على ساحة النفير.
وما أكثر ما قطع حديثهما عبرات خانقة كانت تأخذ بعيني (صالح) فتجريان بلا حساب وقد تداعى إلى باله آخر صورة لأبويه اللذين لم يقويا على وداعه من شيخوخة ومرض وحزن .. أو آخر صورة لزوجته الحبيبة (أم عابد) والدموع في عينيها جامدة من هول الموقف وشدة الزحام .. أو آخر صورة لطفله (عابد) تضمه أمه إلى صدر مترع بالحنان الرحيب ، وهو يحاول بذراعيه الغضتين أن يفلت منها إلى أبيه الذي انتظم في (الطابور) على أهبة المسير وهي تحاول منعه فقد صاح النفير.. أو آخر صورة (لمريم) بنت الشهور الخمسة وقد أطبقت جفنين ناعمين على مقلتين خضراوين في مهد صغير.
وفرز العساكر المدربون إلى القطعات المحاربة ، وسيقوا إلى ميادين القتال في (المضايق) وبلاد (الرومل) وتخوم اليونان وفي غزة والسويس ، على أن طالع شكيب وصالح كان أقوى من الصخر وأعتى من الحرب نفسها فلم يكونا في عداد المفرزين إلى المعارك ، ولم يفترقا عن بعضهما وظلا في (طاقم) واحد في مفرزة لخفر السواحل على شاطئ بيروت .
ثم أخذت سنوات الحرب تمر عجافاً شداداً على جميع الخلق في الدنيا ولا سيما بيروت التي كادت تأكل بعضها من فقر وتقتير وجوع . ولعل الناس فيها كادوا يأكلون التراب أو أكلوه . وقد لاحظ أبو عابد عندما كان يتردد على المدينة بين الحين والآخر سوء الحالة فيها وشدة الجوع فخطر على باله أن يوفر شيئاً من (تعيينه) اليومي ليتصدق به أو ليبيعه . لا سيما وقد رأى أن أية فضلة من رغيف لها ألف متلقف ومتلقفة ، وان حفنة من حبات الفاصولياء أو حسكة من (سردينة) لها ألف راغب وراغبة .
وما زال أبو عابد يوفر من طعامه اليومي المتقن عليه وعلى أمثاله من (الأنفار) ويبيع منه أو يتصدق في المدينة حتى اجتمع له من ذلك مبلغ ينوف على خمس مائة قرش تعادل ليرة ذهبية .
وكان خلال سنواته الثلاث التي قضاها على هذه الحال لا يفتأ يذكر زوجته وأهله وأولاده . كان دائم التفكير فيهم ، دائم الهاجس بأحوالهم . من مات منهم يا ترى ؟ من مرض ؟ كيف حال أمي ووالدي ؟ كيف حال (حفيظة) زوجتي هل لا تزال تذكرني وتحن إلي كما أحن إليها وأذكرها ؟
كيف حال عابد ؟ بروحي أنت يا عابد .. هل من عودة فأراك ؟ هل من عودة فأحظى من ثغرك بقبلة ، أو من لسانك بكلمة (بابا) ؟ وهل إذا عدت ستعرفني فتقبل علي وترخم في حجري ؟ أم أنك ستنكرني وتخشاني ؟.
وكيف حال مريم ؟ إنها الآن بنت ثلاث سنين ونصف وقد خلفتها بنت شهور خمسة .. إنها غدت صبية تدرج وتتكلم .. ولكن من يرد عليها يا ترى عندما تنادي (بابا) وماذا يقولون لها عندما تسأل عن (بابا) ؟ حياتي فداؤك يا مريم ، وفداء عينيك الخضراوين ، وفداء الإغفاءة البريئة التي كنت تستسلمين إليها عندما ودعتك بقبلتين .. آه ما أروع الطفولة وما أحلى طفولتك أنت يا مريم .. ليتني كنت مثلك يا حبيبتي .. طفلاً أدرج . بل ليت البشرية كلها تعيش بقلوب الأطفال .. فلا غش ولا خداع ، ولا مكر ولا نفاق ، ولا كيد ولا انتقام ، ولا حرب ولا دمار، ولا غربة ولا فراق ... بل حب وسلام ، وسعادة وبراءة ووئام .
وذات ليلة بينما كان على تلك الحالة من الخواطر والتأملات وليس أمامه إلا البحر يبدو له في ظلمة الليل رهيباً مهيباً ، والآكام من حوله والذرا تتطاول بأعناقها نحو السماء كأنها رؤوس الأشباح والشياطين .. في تلك الليلة خطر له أن يتصل بشكيب ـ وكان في المخفر المجاور على السفح القريب ـ ليفضي إليه بأمر! واتصل من فوره بشكيب وانفرد به وحدثه حديثاً طويلاً . وما هي إلا ساعة مكن زمن حتى كان شكيب وصالح يغذان سيرهما وسط الجبال والآكام سريعاً سريعاً متجهين نحو الشمال فارين بروحهما وسلاحهما إلى بلدتهما (الجسر) . وكان الليل قد انتصف فلم يصبح الصباح عليهما وتبزغ الشمس حتى كانا قد اجتازا مسافة غير قصيرة جعلتهما يأمنان بعض الشيء شر المطاردة من قبل رئيسهما الذي أحس بفرارهما ولا شك ولكن بعد فوات الأوان .
وأخذت الليالي تتوالى عليهما وهما ينتقلان من قرية إلى قرية يبيتان مرة ويسيران أخرى . يطويان السهول ويتسلقان السفوح إلى أن اجتازا أكثر من ثلثي الطريق ولم يبق عليهما إلا يوم وبعض يوم حتى يصلا إلى مرابع الأهل وديار الحنين . فازداد منهما الأمل وقوي الرجاء وظنا أن لا خوف بعد ذلك من مطاردة أو (تعقيب) .. وفجأة طلع عليهما جماعة من اللصوص قطاع الطريق . وكانت ليلتهما حالكة الظلام ، وكانا على حافة نهر صغير يهمان باجتيازه .
وجرى تبادل إطلاق الرصاص بين الجانبين ودام فترة من الزمن سمع في أعقابها صوت انبعث من أعماق الليل يقول : "آخ أنا قتلت يا شكيب " وهرع شكيب نحو الصوت وقد غاب صوابه .. ولاذ اللصوص بالفرار خشية أن يكشفهم الفجر وقد لاحت خيوطه .
وفي سكون الفجر ومع نسمات الصبح الباردة وفوق أعشاب غضة غافية على مجرى النهر المتدفق أخذ أبو عابد يودع حياته ويطلق آخر أنفاسه وانكب شكيب عليه في خشوع يقبل وجهه ورأسه ويديه ، ودموعه تنسكب غزيرة دامية . وقبل أن تنزف آخر القطرات من دم صالح سمع يحرك لسانه بتمتمات يقول :
أخي شكيب .. وداعاً لك .. حيا .. تي .. انتهت .. لك حبي .. وشكري .. سامحني .. بجيبي .. ليرة .. دهب .. أمانة .. لأم .. عابد والأولاد .. أشهد .. أن لا .. إله إلا الله ، وأشهد .. أن محمداً .. رسول .. الله ..
وانطفأت روح صالح وارتفعت إلى بارئها . ولم يكن بمقدور شكيب أن يتأخر دون أن يتصرف بسرعة . فقد يتهم بقتله !. وقد يرتد عليه اللصوص !. وقد يقبض عليه الجند متلبساً بجريمة الفرار!. فما كان منه إلا أن سارع إلى أرض هشة قرب النهر وأخذ يحفر فيها بيديه ويحفر بحربة بندقيته إلى أن نبش من التراب ما يكفي لدفن صاحبه . ثم حمله وسجاه في الحفرة كما هو بدمه وسلاحه وثيابه ، وقبل أن يهيل عليه التراب لم ينس أن يمد يده إلى جيبه ليستخرج منه الليرة ومعها ورقة مطوية لعلها رسالة كان يزمع إرسالها لأهله قبل تفكيره بالهرب أو لعلها تميمة (حرز) على الأرجح ، ثم أهال عليه التراب ، وتابع يشق طريقه نحو الشمال . وما هو إلا يوم وليلة حتى كان في بلدته (الجسر) بين أهله وأحبابه .
ولم يكد أحد من القوم ليصدق بمجيئه لولا الرؤية المتفحصة والسلام المباشر والعناق . فكانت فرحة وكانت أعياد عند أهله وأصحابه ومحبيه ولا سيما أم صالح ـ وكان أبو صالح قد مات ـ وكنتها أم عابد اللتين استروحتا فيه ريح أبي عابد وكأنه يعود بعودته . ومع ذلك فلم تستطيعا تأنياً في السؤال من أول لحظة عن صالح ولكن (شكيب) لم يسرع بإفشاء السر خشية الصدمة فاكتفى بأن أجابهما : إنه بخير والحمد لله ، وغداً (يخف) الناس ونتحدث على مهل ، وهذه (علامة) منه ، ومد يده إلى جيبه وأخرج منه الورقة إياها التي كانت مع الليرة وقال لأم عابد خذي هذا (الحرز) .
تناولت أم عابد الورقة وكانت مطوية باعتناء على شكل مربع صغير فأدركت للحال أنها من خط زوجها بعث بها لتكون (حرزاً) في رقبة صغيره عابد تحميه شر العين والحاسدين . فلم تتمالك أن ضمتها إلى صدرها وشقت طريقها إلى البيت وهنالك انهالت على التميمة شماً وبكاء حتى ضجت بها الأرض وهي في كل ذلك لا تحس ولا تعي . ثم نهضت لتغلفها بقطعة من جلد رقيق خاطته عليها ثم علقتها من عروة في صدر ابنها عابد بين القبل والدموع .
ولما جاء اليوم التالي وهمتا بالذهاب إلى شكيب للاستزادة من أخبار صالح بلغهما أنه قد اعتصم الجبل فراراً من العساكر الذين (كبسوا) بيته إثر دسيسة عليه من (مخبر) أعلم فيها المسؤولين عن وجود (فراري) .
ومرت الأيام ، في إثرها أيام وشهور، وهما تنتظران عودته من الجبل ، حيث عصا ، فلم يعد ، وتأملان بأوبة صالح من العسكرية فلم يأب .. إلى أن قيض الله الفرج فانتهت الحرب وبدأ الجند يسرحون فاستبشر الناس خيراً وبدأت الآمال تدب في النفوس من جديد وأخذ الكرب والويل ينزاح عن صدور الخلق بعد أن جثم عليها سنين ثقيلة وبيلة ، فنزل شكيب من الجبل بعد أن اعتصم فيه أكثر من سنة ، وكان لابد له من أن يواجه أهل صاحبه بالحقيقة المرة بعد كل هذا الانتظار، فقص عليهما القصة كاملة من البداءة حتى حادث مقتله ، وما إن وصل إلى " المقتل " حتى أغمي على أم صالح وانطرحت على الأرض ، أما زوجه فقد انتابتها رعدة انعقد معها لسانها وجمد الدمع في مآقيها ثم ساءت حالها وأوشكت على الهلاك في حين انتهى الأمر بأم صالح إلى الموت بعد بضعة أيام .
ولم يبق من اسرة صالح إلا أرملته ويتيماه (عابد ومريم) وليس لهما من معيل إلا الله ومورد ضئيل من نسج الحصر وغزل الصوف العمل الذي بدأت تزاوله الأرملة المفجوعة التي رفضت فيما بعد جميع من تقدم لخطوبتها وفاء منها لذكرى من أحبها ودفع حياته ثمناً في محاولته للوصول إليها ، وكان رفضها كذلك لحرص منها على طفليها أن ينالهما أي ظلم في بيت الرجل الغريب .
أما الليرة الذهبية التي تصلح رأس مال كبير بالنسبة لعائلة أبي عابد في ذلك الحين فإن (شكيب) لم يأت على ذكرها ولم يشر إليها !. فهو قد أمضى مطارداً في الجبال أكثر من عام صرف خلاله جميع ما يملك وما لا يملك وفي عداده الليرة الذهبية ، إلا أنه عاهد نفسه ـ بسره ـ أن يعتبرها ديناً عليه مبرماً يسدده إلى أصحابه عند أول موسم لأراضيه .
وجاء أول موسم وجنى منه ما جنى ، وكان قد مضى على انتظار خطيبته له مذ بارحها إلى الجندية زهاء خمس سنين ، فكان لابد من أن يتزوج في ذلك العام ، وللزواج تكاليفه ، مما أوقعه في حيرة من أمره ، أيدفع الليرة لأصحابها أم يستخدمها في نفقات العرس والعروس ؟ ولم يطل به التردد فقد قرر أن يصرفها في العرس فالطفلان اعتادا شظف العيش ، وأمهما اعتادت هي الأخرى العمل والسهر وهو محتاج لليرة على أي حال ولن (يأكلها) على أصحابها .. وعاهد نفسه ـ بسره ـ أن يعتبرها ديناً عليه مبرماً يسدده إلى أصحابه عند أول موسم لأراضيه .
ثم أخذت المواسم تكر وتفر وتتوالى وهو في كل مرة يجد له مشروع وتجد له فكرة ولا يعدم لنفسه المبررات في استعمال الليرة لصالحه على وجه من الوجوه .. إلى أن اكتهل وصار جداً .. وإلى أن شب عابد وتزوج وأنجب ، وكذلك أخته مريم التي غدت أم أولاد .
وظلت حكاية الليرة الذهبية سراً دفيناً في صدره لا يعلم به إنسان برغم أنه وأولاده الكثر من ذوي اليسار في البلدة ومن خزنة المال !؟
وذات ليلة جاءته سكرة الموت ، فارتمى على الأرض والتف من حوله أولاده وأحفاده وذووه يبكون وينتحبون . وكان هو يغيب عن الوجود تارة ويحضر أخرى ، يجمجم بكلام غير مفهوم . قسمات وجهه في تقلص وانقباض مستمرين . كان يبدو عليه أنه يعاني من صراع في داخله وضيق في صدره أكثر مما يعاني من آلام النزع . وكان كلما صحا قليلاً تحسس جيباً في صدر (قنبازه) يمد يده إليه ثم يغللها عنه ، ولما صحا صحوة الموت طلب من أهله أن يجلسوه قليلاً فأجلسوه . وأشار إلى ابنه الأكبر (سليمان) فاقترب منه . وهش على الاخرين فابتعدوا عنه ، وعندما مال إلى أذن سليمان وقال له : يا بني إن في جيبي هذا ليرة ذهبية خذها منه بعد موتي وأعطها إلى ابن أخي عابد وقل له هذه أمانة لك من أبي .
ومات أبو سليمان واقتسم أبناؤه ثروته الطائلة وأراضيه في أقل من أسبوع . وفي غضون ذلك أوصل سليمان الليرة الذهبية إلى ابن عمه عابد وأبلغه مقالة أبيه . وكم كانت دهشة عابد عظيمة ، وذهوله غريباً ؟! كان لا يزال يعاني أشد الأحزان على موت أحب إنسان إليه يذكره كلما رآه بأبيه .. فما معنى هذا اللغز الجديد ؟ على أنه أخذ الليرة من سليمان وحبس الكلام في فمه إلى أن جاء المساء حيث اجتمع إلى (حفيظة) أمه العجوز ، وإلى زوجته وأخته مريم ، وإلى أولاده فقص عليهم نبأ الليرة وتداول الجميع الأمر. علهم يجدون تفسيراً له فلم يجدوا !
ـ إنها ليست ذمة بل يستحيل أن تكون كذلك فالمرحوم كان لا يقرض ولا يستقرض !.
ـ وإنها ليست صدقة فنحن الآن بنعمة وافرة وخير عميم والحمد لله !.
ـ وإنها ليست وصية فأولاده هم وصاته !
إذن ليست هذه الليرة سوى مبلغ قليل ، رأى أنه من اليسير أن يوصله إلينا أبناؤه بعد وفاته ، فلعلنا ننفقه صدقة عن روحه للمحتاجين . فالمرحوم يثق بنا أكثر من أبنائه الذين لمس فيهم الاقتتال على ثروته ، وقلة حبهم للصدقة والمعروف ، مذ كان على قيد الحياة .. واستقر رأي الجميع أخيراً على هذا . وأجمعوا على أن يضيفوا إلى الليرة ليرة أخرى ، ويتصدقوا بهما منذ الصباح فخير البر ما كان عاجلاً .. ولكن التفاتة حانت من عابد نحو طفله الصغير، الذي كان قبل قليل يعبث بجيوب والده وهو في حجره ، فوجد بين يديه (الحرز) وقد نزع عنه غلافه وأوشك أن ينقضه . وبحركة سريعة أنقذه من يديه ثم جعل يعيد طيه من جديد . على أن حب الاستطلاع دفعه لأن يطلب من ابنه الأكبر صالح (سمي جده) أن يقرأ عليهم ما في هذا (الحرز) من أدعية وأذكار. وما هي إلا لحظات حتى تغير وجه صالح وبدت عليه علائم العجب والدهشة وانطلق يقول : لا .. لا.. إنه ليس حرزاً . هو رسالة ! رسالة بخط جدي وتوقيعه !.
أصغى القوم صغاراً وكباراً وكأن على رؤوسهم الطير، وبدا لهم كأن الجد قد نهض من القبر لتوه ليحدثهم ويفضي إليهم بالكلام المسحور. فوجفت منهم القلوب ، وخشعت الأبصار، وجفت الحناجر، وتسارعت الأنفاس ، وأصاخت الأسماع وتراءى لهم الجد مطلاً من وراء الخمسة والأربعين عاماً ! ثم شرع صالح الحفيد يتلو بصوت هادئ عريض ، وبنبرات مرتعدة متهيبة :
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى بنت عمي العزيزة الطاهرة حفيظة
سلام عليك ، ووجد عظيم إلى روحك الزكية ، وإلى روح الحبيبين عابد ومريم ، وإلى أمي الصابرة والوالد الحنون ...
وأنا يا حفيظة لا يمكن أخون العهد . تصوري أنه صار لي منذ ثلاث سنين أوفر من قوتي من تعييني لأبيع منه وأجمع لك وللأولاد كم قرش وصار معي الآن من فضل الله ليرة ذهب ، وإن شاء الله بتكون من نصيبنا ونصيب الأولاد . وفي الختام قبلي عني يد والدي وأمي ، وعيون عابد وشعرات مريم والسلام. الداعي لك
ابن عمك صالح
* أديب سوري معتقل منذ عام 1979