لا فراغ بعد اليوم

زبيدة هرماس

كانت الثانوية تتأهب لوداع التدريس بعد عام كامل من التحصيل حين قام أحد التلاميذ وقال:

- أستاذي الفاضل، لدي طلب وأمنية.

 قال الأستاذ وهو يبتسم:

- هكذا أنت دائماً يا هشام، لا تترك فرصة إلا وتغتنمها، تفضل.

- لدي طلب وأمنية كما ذكرت، طلبي هو أن يسمح الأستاذ بتوسطنا لنأخذ صورة جماعية معه.
قاطعه التلاميذ وهو يصفقون:

- جيد يا هشام.. جيد..

التفت إليهم وقال مازحاً:

- سأتابع مسيرة كل واحد منكم بعد حصوله على شهادة الباكالوريا.

ضحك الأستاذ وقال:

- إذن أنت لن تدرس، ثلاثون تلميذاً يتابعون دراستهم وأنت ستكون مشغولاً بتتبع مسيرتهم الدراسية! أليس كذلك؟

استدرك هشام وقال ضاحكاً:

- أمنيتي أن يجلس تلميذ السنة المقبلة على هذا الكرسي المكسور وقد أصلحته الحكومة، هذه الإنارة الضعيفة، هذه النوافذ المكسرة...

صرخ زميل له مقاطعاً:

- توقف يا هشام، لقد أدخلتنا في السياسة، سنتقابل في ملعب الحي، لقد صرفت عليه الأموال وهو مجهز بكل ما تتمناه، ألا تعرف أن الديك يغني ورجلاه في الزبالة؟..

انفجر التلاميذ ضاحكين وهم يقلدون صوت الديك، كو.. كو... كو.. كو.. كو.. بينما توجه الأستاذ نحو مكتبه وهو يأمرهم بالهدوء وقال:

- قبل أخذ الصور جماعة يا أبنائي أحب أن أطلب منكم طلباً واحداً.

هتفوا جميعاً:

- ما هو يا أستاذ؟، ما هو يا أستاذ؟

ظلوا يرددونها في شغب كبير دون توقف، كرر مطالبته لهم مرة أخرى بالهدوء وقال:

- بعد خمسة عشر يوماً سيكون كل واحد منكم في إجازة، رجائي أن توافوني في بداية السنة المقبلة بتقرير موجز عما قمتم به خلال هذه المدة، أعلم أن منكم من سيلتحق بالجامعة، ومنكم من سيعود – لا قدر الله- إلى هذه القاعة، هكذا هي الأمور، هل أنتم موافقون؟.
رفع تلميذ يده وقال:

- لو سمحت لي يا أستاذ، لماذا سنعد تقريراً عن إجازتنا؟ نحن نعرف برنامجها سلفاً، التسكع.. التسكع.. ولا شيء غير ذلك.

ضحك زميله وقال:

- هذا صحيح يا أستاذ، تسكع في الشوارع، تسكع في الدروب، تسكع على شاطئ البحر وتسكع –طبعاً- في ملعب حينا الجديد، و.. وتسكع في ساحات التسكع، ههه.

قال آخر:

- أستاذ، أنا حجزت لي مقعداً في جمعية المتسكعين، ينتظرني كل سنة في العطلة الصيفية، ههه.. ههه..

قال الأستاذ غاضباً:

- أرجوكم، لا بد أن توافوني بتقريركم في بداية السنة المقبلة، وها أنذا أرجوكم ثانية أن تجعلوا فراغكم شغلاً، ما قلته لكم قبل أسبوع ما زلت أكرره، هذه الإجازة ستكون مميزة، وأنا على يقين أن تقاريركم ستثبت ذلك، أنسيتم وعدكم لي؟

ردد بعضهم وهم يهزأون:

- ها.. ها.. ها.. فراغ.. شغل.. تقرير.. يا لهذا الأستاذ الجاد.

كان هشام يتفرس في ملامح الأستاذ وهو يشتط غضباً من سخرية بعض التلاميذ، ويفكر في نفس الوقت فيما يمكن أن يميز عطلته ويجعل فراغه نفعاً له ولغيره، لقد استهوته اقتراحات الأستاذ كثيراً.

رن جرس الخروج فاندفع التلاميذ كعادتهم، بينما عاد الأستاذ إلى مكانه وهو يتأمل صخبهم، تذكر حين كان في سنهم يدرس ويثابر دون أن تزاحم تحصيله العلمي المباريات المكثفة في فترة الامتحانات، ولا المهرجانات الصاخبة المصحوبة بجرعات المخدرات، وضع يده على وجهه وهو ينظر إلى آخر التلاميذ خروجاً وقد توسط سروال جينز شبه ممزق نصف مؤخرته، عليه علامات وكتابات تحيط بها الثقوب والرقاع من كل مكان، كاد يسقط وهو يدفع نفسه للخروج من القاعة، لولا أن دفعه هشام بلطف وتوجه نحو الأستاذ وقال:

- أعدك يا أستاذي أن أصنع من فراغي في إجازتي شغلاً، وسأوافيك بتقرير يسرك ويسرني.

ابتسم الأستاذ وربت على كتفه وقال وهو يهم بالخروج:

- هكذا عهدتك دائماً يا هشام، لا تنس أنك وعدتني أن تكتب لي على ورقة تلك الشعارات الغامضة التي أصبح التلاميذ يحملونها على سراويلهم وقمصانهم، لا بد أن يتعرفوا على معانيها.
رد هشام وقد أحنى رأسه تقديراً لأستاذه:

- أنا عند ظنك بي، إلى اللقاء يا أستاذ، أتمنى لك عطلة سعيدة.

خرج هشام مسرعاً دون أن ينتبه  إلى خرطوم المياه الذي يقطع ساحة المؤسسة ليسقي تلك الأشجار الذابلة بعد شمس حارة، ليجد نفسه متعثراً وقد علاه الطين وتبللت ملابسه، لم يكترث وقام منتفضاً حتى لا يسخر منه أحد من زملائه، بينما تقدم البستاني ونهره قائلاً:

- قريباً سأرتاح في هذه الإجازة من شغبكم، أي جيل أنتم؟

كسرتم الأشجار وخربتم زجاج النوافذ واقتلعتم الأقفال، أنا لا أعرف كيف تتعلمون وتدرسون؟
اقترب منه هشام وقال:

- أعتذر إليك بالنيابة عنهم جميعاً يا عمي، كل المغريات تخدرنا، ماذا تريد من تلميذ مخدر أن يصنع؟

- اغرب عن وجهي أنت الآخر، لم أمد خرطوم الماء نحو الأشجار إلا لما شعرت بخروجكم، وها أنت سحبته الآن، هل أنت أيضاً مخدر؟، تعلقون مسؤوليتكم على الظروف؟. ما أعجب شأنكم!..

السفر

كانت الحافلة التي تقل هشام إلى جبال الأطلس الصغير تتعثر كأنها حافلة تخترق مدينة مكتظة، تسابقها حافلات السياح الأوربيين كالبرق، ولا تشبهها إلا في أنها تملك نفس عدد العجلات وسائقاً في الجانب الأمامي، جلس هشام على الكرسي المثبت فوق العجلة الأخيرة مباشرة وهو يمسك بحقيبة ملابسه التي وضعتها أمه وهي تتهيأ للسفر معه بغية حضور عرس أخيها في "تمازيغت"، ذهنه مشغول بالتخطيط للإجازة حتى لا تمر هدراً في تلك القرية المتصحرة، لم يعد يحب قضاء العطلة في إحضار براميل الماء البلاستكية من تلك الآبار البعيدة، فقد اشترى أحد الملاك الأجانب عن منطقة سوس هكتارات عديدة، وزرع بها وروداً شمسية جميلة يصدرها إلى أوربا بأشواكها وأوراقها، ولا تربح القرية من وراء صفقاته إلا الأريج المنبعث عند جنيها، مستعملاً المضخات المائية المتطورة العملاقة التي تمتص الفرشة المائية امتصاصاً، هشام يحب أن يغتسل ويشرب ماء وفيراً في تلك القرية القاحلة، ويحب أن يدخل تلك الضيعة المحاطة بكلاب الحراسة الضخام ليمتع ناظريه بجمال الورود وألوانها، بل لطالما فكر في أخذ صورة بهيجة تجعله يحب تلك القرية المغبرة ويفتخر أنه ينتمي إليها، ظل يفكر إلى أن توقفت الحافلة أمام مدرسة القرية، قفز ليمسك بيد والدته وقد أعيته رائحة البنزين المنبعثة، وبدأ يحاول ملء رئتيه بالهواء النقي ملئاً وهو يتجه نحو مسكن العائلة.

اللقاء

- لقد كبرت يا معاذ، ولكن لماذا توقفت عن الدراسة؟

- والدي رحمه الله طمح في أن أحصل على رخصة السياقة، ها قد حصلت عليها وأصبحت أسوق بنفسي متسكعاً هنا وهناك، ههه... لا يوجد عمل في هذه القرية، ولولا قدوم المهاجرين إليها في الإجازة الصيفية لتحولت إلى مقبرة.

- مقبرة؟ أنت تبالغ!

- صدقني يا هشام، بالمناسبة لقد تعلمت الإنجليزية، وأنا مستعد لمحاورتك.

- أنت يا معاذ؟ تعلمت الإنجلزية؟ لا أكاد أصدق ما تقول يا عزيزي!

نظر إليه معاذ ضاحكاً وهو يضرب على كفه:

- نعم، صدقني يا هشام، المستر "جيمس" يعلمنا كل يوم، وزوجته تعلم النساء فنون الحياكة والتطريز، إنه أمريكي قدم إلينا من بلاده منذ سنة كاملة، آسف إنه سيرحل قريباً، لقد أسعدنا وجوده بيننا سنة كاملة.

- أمريكي؟ تطريز؟ أظن أنني سأنضم إليكم؟ أنا أيضاً يسعدني أن أتعلم معكم في هذه القرية النائية، لقد قررت سلفاً أن أقوم بشيء مفيد في هذه الإجازة وأحمل التقرير إلى أستاذي اللطيف.

- حسناً يا هشام، غداً صباحاً ننزل إلى سفح الجبل، هناك قسم دراسي في الهواء الطلق.

في صباح اليوم التالي، قام هشام من نومه مبكراً ونزل إلى سفح الجبل فرأى شباب القرية متحلقين حول "المستر جيمس"، رجل طويل أشقر ذو وجنتين حمراوتين، يتحدث الأمازيغية بصعوبة ثم يردف كل حين جملاً بالإنجليزية، وما إن رأى هشام حتى رحب به مبتسماً وقال:

- لدينا طالب جديد اليوم، تفضل، ما اسمك؟

تقدم هشام إلى الأمام وقال بصوت مرتفع:

- هشام هو اسمي يا مستر، أدرس اللغة الإنجليزية في الثانوية من سنوات ويسعدني أن تختبرني.

- آه، تفضل هذا الكتاب هدية مني إليك، للأسف سأغادر قريتكم عما قريب، ولكن بوسعك مراسلتي.
نظر إليه هشام وهو يقلب الكتاب الأنيق وقال:

- هل طلب منك أستاذك أنت أيضاً أن تحضر تقريراً عن عملك في هذه القرية؟!
رد المستر جيمس متلعثماً:

- تقرير؟، ماذا تقول؟، أنا مجرد باحث أحب الرحلات والتعرف على الناس وقضيت وقتاً ممتعاً مع أهل هذه القرية الطيبة، ثم إن أسئلتك وراءها شيء ما، عد إلى مكانك، إذا شئت، فنحن على موعد مع آخر دروسنا، هيا لنردد معاً أغنية: "نحو الحياة الأبدية".

جلس هشام في آخر الصف وهو يستمع متأملاً.

المدرسة المفتوحة

وبعد أسبوع كانت القرية في وداع "المستر جيمس"

في نفس المكان قرر هشام أن يدعو رجال ونساء القرية إلى دروس محو الأمية، خمسة أيام في الأسبوع، وفي اليوم السادس يجالس شباب القرية يتسامرون أو يناقشون قضية معينة من مشاكل القرية حتى يخرجوا من الفراغ القاتل بما يفيد.

أقبل على مدرسة هشام عشرة فقط من أهل القرية، واستطاع بعد شهر أن يعلمهم الحروف، كل همهم هو قراءة القرآن من المصحف مباشرة، وفي الشهر الثاني استطاع أن يعلمهم سورة الفاتحة وضبطوا حفظها بلكنة أمازيغية، كما أنهم تمكنوا من كتابتها كاملة على ألواحهم، كان بعض أبناء المهاجرين إلى فرنسا الذين يقضون إجازتهم عادة في القرية يقبلون بجد على دروس اللغة العربية فتعلم منهم الفرنسية أثناء محاورتهم.

كان هشام يحافظ على الهدوء والنظام دون أن يزعجه أحد، لقد استمرت مدرسة جيمس – وهو الاسم الذي أطلق عليها- سنة كاملة، لديه رخصة باحث اجتماعي من طرف إحدى الجامعات العريقة، أما هشام على بساطة مستواه التعليمي فقد كان طموحه وريادته يحملانه إلى أفق أرحب، يتمنى أن يواصل ما بدأه في إجازة كل سنة، وبالرغم من أن مهرجان "أحواش" الغنائي قد استهوى شباب القرية فتركوا مناقشاتهم المقررة معه، حتى إن بعضهم رمى المنجل الذي يحصد به ما تبقى من حبات القمح المتناثرة إلى جانب سواقي النهر الجاف، لأن طول سهره في الرقص بالأكتاف على الطريقة الأمازيغية أتعبه، وصار يلتحق بالحقل متأخراً، فإن هشام يشعر أنه بإمكانياته الهزيلة وأمله الكبير وحبه لقريته استطاع أن يجعل الإجازة مميزة، اكتشف أن هذا العمل كان يمكن أن يقوم به منذ زمن بعيد.

الوداع

انتهت إجازة هشام وحمل معه عناوين أصدقائه في فرنسا وهداياهم، ملابس وأحذية وشكولاته وعطراً باريزياً دسه في حافظة مستلزمات نظافته، تجمع تلاميذه البسطاء من أهل القرية على قلتهم قبل ساعة حول الحافلة التي ستقله، محملين بهدايا بسيطة عبارة عن قنينة زيت الأركان وبعض حبات اللوز والقليل من الزعفران، كتبوا له رسالة شكر يقولون فيها: "هشام العزيز، لقد أصبحنا نقرأ الفاتحة ونكتب أسماءنا، الفضل يعود إليك بعد الله تعالى، نحن لك من الشاكرين، سننتظرك في إجازات قادمة وسنراسلك على عنوانك".

كان يرى الحب والفرح باديين في عيونهم، تماماً كما يبدوان على الأطفال، شعر بسعادة غامرة بعد أن علمهم الحرف في شهرين فقط، استدار مودعاً وصعد الحافلة وألصق وجهه بزجاج النافذة يرقبهم وهو يشير بيده، اقتربوا من الحافلة وهم يقرأون ما كتب عليها بتلعثم: "على.. ج.. ناح.. ال.... سلامة".