أحلام في خريف العمر
محمد حسن فقيه
نظرة ذابلة أطفأت بريقها السنون وتوالي الأيام ، فعزز بصره بنظارة طبية سميكة ، أطراف متهدلة مرتعشة تهتز بحركة روتينية رتيبة وفق متوالية عددية ، وجه مجعد وعروق بارزة زرقاء منفوخة ظهرت على عنقه وظاهر كفيه ، وبقايا شويكات بيضاء متناثرة يتخللها نمش فوق صلعة لفحتها الشمس ، وقامة حناها الزمن فتحولت الى قوس أو زاوية منفرجة .
شجرة عجوزشاخت ، قصرهرم كلح لون حجارته وانكمش بناؤها فتحول إلى آثار ومزار للسياح .
تنحنح قليلا ليدفع بصوته المبحوح المتعثرليصل إلى مسامع الرجل الذي يقف أمامه ليسمعه شروط العقد ، لقد كتب مقاول الأثاث والفرش ضمانا لمدة عشر سنوات ، ومقاول الكهرباء لمدة عشرين سنة ، ومقاول الرخام لمدة ثلاثين سنة ، ومقاول البناء لمدة أربعين سنة ، وبعد أن التقط العجوز نفساعميقا وارتاح قليلا ، استأنف حديثه مرة أخرى بعد أن تنحنح ، وبالنسبة للأعمال الصحية فان ضمانتك يجب أن تكون لمدة خمسين سنة .
سرح الرجل في سره ، وما فائدة ضمانتي لو أن البناء تهدم بعد أربعين سنة....... هل علي أن أعيد صيانة
الأعمال الصحية في الهواء ، أم يلزمني إعادة البناء كله أولا لإئشائها مرة أخرى مجانا على حسابي في مسكن آخرقبل مرور الخمسين عاما .... أتراه مزادا يا صاحب السمو فتزيد في كل عقد عشر سنوات.
ضرب العجوز الأرض بعصاه الأبنوسية السوداء ماذا قلت أيها الشاب لم أسمع ردك جيدا .. هل وافقت على العرض ؟ أم نبحث عن مقاول غيرك ؟
التفت المقاول تجاهه ، مسحه ببصره من أعلى صلعته الى أسفل قبقابه ، طاف بذاكرته قصة الملك والمعلم والحمار، فتهللت أسارير المقاول وتنهد بارتياح ثم صاح قريبا من أذن العجوز بصوت جهوري ، كما تريد يا صاحب السمو، ولو شئت أن تكون الضمانة لأكثر من خمسين سنة في العقد لفعلت لك ذلك .
ولم لا أوافق؟... إن أعمالنا نظيفة ، تجهيزاتنا مستوردة من أجود الآنواع في العالم ، كادرنا من أمهر المهندسين والعمال ، عملاؤنا من أرقى طبقات المجتمع...خبرتنا عريقة وطويلة ، ممتدة ومنتشرة إلى خارج البلاد.... أما سمعتنا فهي أنصع من الحليب وأصفى من الشهد .
لفت نظره صوت ضحكة خفيفة انفلتت من بين شفاه سكرتيرته الشابة.
هز العجوز برأسه هزات خفيفة ثم التفت تجاه سكرتيرته
الشابة قائلا جهزي له العقد بحسب الاتفاق ، ثم نزع نظارته السميكة ليمسحها ، ومضى يدب معتمدا على عصاه الأبنوسية السوداء، بقبضتها العاجية البيضاء ، بعد أن أعاد نظارته فوق أنفه غير آبه لأحد .
توجه المقاول تجاه السكرتيرة فلاحظ آثار الضحكة قد تحولت إلى بسمة خفيفة على محياها وهي تعد الأوراق اللازمة للعقد والمواصفات المطلوبة ، فابتدرها بالحديث قائلا: لم انتظر سموالأمير كل هذه السنين الطويلة ، حتى جف خيره ، ويبس عوده ، وتحول إلى شبح انسان ؟ . أما كان يرضى بقصر أقل من هذا ؟ بنصف قصر؟ أو بفيلا ، بشقة رائعة ، ببيت يسير ؟ .
قبل أن يولي ربيع عمره ويذبل شبابه .
رفعت اليه السكرتيرة طرفها بنظرة لا تخلو من امتعاض دون أن تجيب بكلمة واحدة ، ُثم عادت إلى عملها تبحث في الخزانة بين الأوراق، وقد خيم الصمت على الموقف.
تابع المقاول حديثه ليكسر حاجز الصمت : أتظنين أنه قد بقي لأميرنا أمل يصبو إليه ويحلم بتحقيقه ؟
ما قيمة الحياة وطعمها بعد أن أجهده الزمن وأنهكه المرض ، وكبلته قيود العجزوالشيخوخة ، ثم استأنف حديثه ، أي لذة من ملذات الحياة وشهواتها بقيت له ليستمتع بها....؟
جمع الأموال ؟ هاهو يبددها في هذا القصر بعد أن سرقت منه الأيام نضرة الشباب وعنفوان الرجولة.
رفعت اليه السكرتيرة بصرها بعد أن أعدت الأوراق ووضعتها على المكتب الذي يفصل بينهما وجلست على
كرسيها الدوار، ثم توجهت اليه بالحديث : الأمر مختلف يا سيدي عما تظن ، إنه لم يحرم نفسه في سابق عهده من بيت يستره ، بل إنه مازال يملك قصرا رائعا يسكن فيه.
ارتسمت علامات التعجب والاستغراب على وجه المقاول تم توجه الى السكرتيرة متسائلا: فما سبب التغيير إذن ؟ بساطة المظهر الخارجي؟ أم تواضع الأثاث الداخلي للقصر القديم ؟ أم كلاسيكية التصميم السابق ؟ أم شعبية الموقع ؟
الحقيقة لم يكن أيا من هذه الأمور سببا لرغبة التغيير، فسكنه السابق فيلا فارهة ، تحيط بها فلل لكبار رجال الأعمال ووزراء متقاعدين ، ومدراء شركات ، ومدراء جمارك ، ومدراء بنوك وإن كان بعضها قد أفلس قبل تشييد هذه الفلل !، ثم استأنفت حديثها بعد توقف قصير ....إنها تتربع موقعا متميزا، وتتمتع بكل مواصفات الفلل الفارهة ، من حدائق يانعة ، إلى أسوار مزركشة ، إلى بوابة عالية منحوتة ، وتماثيل رخامية تنتصب على
جانبي المدخل ... إلى نوافير المياه المتدفقة للأعلى ، إلى بركة السباحة ، وحمامات السونا والبخار .... وغيره .
سأل المقاول بعد لحظة استغراب وكأنه عثر على السبب الحقيقي ، فهل شاخت تلك الفيلا مع أثاثها وهرمت كسمو الأمير؟.
أجابت السكرتيرة بعد أن افترّ ثغرها النضيدعن ابتسامة لطيفة : بل مازالت بكامل عافيتها موفورة الصحة والشباب يا سيدي .
فما السبب إذن؟
أجابت السكرتيرة وهي تملأ البيانات في الأوراق المنثورة على الطاولة أمامها: لعل السبب الذي دعا أميرنا لتغيير فلته بهذا القصر بسيطا في ظاهره ولا يأبه له كثير من الناس كأمثالنا من قريب أو بعيد.
- وما هو؟
حب التغيير والتبديل ، فقد مل كل ما في تلك الفلة من أثاث وتحف ومرافق ، كما أنه يرجو أن تكون الفيلا الجديدة طالع خير بالنسبة إليه ، وبداية جديدة لمستقبل أرحب ، يفتح ذراعيه ويعده بكسب أوفر، بعد أن أصبحت الفيلا القديمة له نذير شؤم حيث تكررت خسارته ثلاث مرات متتالية .
- أمازال الأمير يحلم بمستقبل بعد كل هذا الماضي ... والحاضر؟ .
- ولم لا يحلم ؟ ......إنه طموح وما زال يضع خططه المستقبلية لمائة عام للأمام .
- إن طموجه وآماله طموح شاب في مقتبل العمر.... ثم أضاف متسائلا: ومن الذي قام بتصميمها له ؟
لقد أسند سموه هذه المهمة الى أفخم المكاتب الهندسية واختار مخططها من كومة مخططات صممت لأجله وقدمت له ، وبعد ذلك قام بوضع تعديلاته ولمساته وبصماته على تلك المخططات ، حتى خرجت بهذا الشكل النهائي .
- وأين موقع القصر الجديد ؟
انفجرت السكرتيرة في ضحكة طويلة ..... ستوقع العقد الآن ولا تعرف أين موقع الفيلا ؟
- الأمر عندي سيان أن يكون الموقع في المخيم أو الحي الدبلوماسي...... لقد اطلعت على الأعمال والمواصفات وهذا المهم في الموضوع .
معك الحق في ذلك إن الفيلا تقع فوق ربوة في الحي الدبلوماسي ،غرب المدينة تحيط بها البساتين ، وتطل على واد تتفجر منه العيون ماء زلالا، وتنتصب على جانبي الوادي أشجار الحور والصفصاف ، وتزدحم فوق
أفنانها البلابل وهي تصدح مغردة بأصوات موسيقية متناغمة .
بعد ذلك وقع المقاول العقد ومضى يجهز أعماله .
انتهت أعمال الفيلا ، ونقل اليها أثاث من أفخر الأنواع ،
وزينت بأنفس التحف ، قام بذلك مهندس ديكور متخصص ، واتخذت جميع المراسيم لوصول سمو الأمير، لافتتاحه للفيلا الجديدة ، احتفالا وابتهاجا بتدشينها ، ولكن يا للأقدار كيف تسير ! .
أصر الموظفون والعاملون في شركتته ، أن ينقلوه إلى الفيلا الجديدة فوق أكتافهم ، ويطوفوا به في أرجائها سبعة أشواط حولها ، ولكنه وللأسف لم يكن يلبس بذته الفخمة ، ولا يحمل عصاه الأبنوسية بقبضتها العاجية ، بل كان ملفوفا بكفن أبيض داخل صندوق خشبي ، إذ أن الأقدار وافته بالمنية ليلة أمس ، إثر سكتة قلبية بينما كان يستعد للإنتقال الى قصره الجديد .