لحظة الانعتاق
لحظة الانعتاق
د.عثمان قدري مكانسي
كانت الرياح تزأر ، والأشجار تئن ، وأعمدة الكهرباء تعوِل ، وحبالها تصدر صفيراً حادّاً ، ونحن في دارنا نعيش سعيدَيْن متحابّيْن ، كأن الدهر قال لنا :
" عليكما الأمان " حياة رغيدة هانئة ....
هكذا كنا منذ سنوات .
وطُرِق الباب بعنف طرقات متتالية ، وهُرعت زوجتي إليه وفتحته ، فسقط بين يديها جسم ليس فيه من الحياة سوى أوصال ترتجف ، وقلب ينبض .... أما الجسم فقد كان بارداً ، والرجل شبه فاقد للوعي ... حملناه إلى غرفة النوم حيث الدفء والهدوء ,,,وكنت أرقبه عن كثب ، فهو أصغر مني بسنوات ، نحيف إلا أن نحافته غير واضحة لأنه يميل إلى القِصَر ، شعره أسود وعيناه ذابلتان ...
كانت الكآبة تبدو على زوجتي ، وكان القلق لا يفارقها مذ دخل هذا الإنسان علينا . فظننت أن سبب هذين أن القادم عكّر علينا سويعات الحب التي غمرت البيت في هذا الوقت بدخوله ، ولا سيّما أنها من الصنف الذي يكره الضيوف الغرباء ، ويستثقل ظل من لا يعرفهم . فيظل منقبضاً مدة ليست بالقليلة إلى أن تعتادهم فيسرّي عنها . ثم تعود إلى طبيعتها قليلاً قليلاً . وعزوت هذا إلى نفسية جبلت عليها لا أدري لها سبباً .
عزم الرجل بعد استعادته وعيه وهدوء الجو قليلاً على الذهاب شاكراً لأهل البيت حسن استقباله ، ولم يكن في الدار غيري ، فقد كانت زوجتي خارج الدار في عمل لها .. وألح برفق على الخروج ... وفتحت له الباب ... وكانت المفاجأة ... فقد دخلت زوجتي ضاحكة وكانت قد وصلت لتوها إلى الباب وقد وضعت المفتاح في ثقبه تريد فتحه .. صاح الرجل : دريّة .. درّيّة .. ثم غاب عن الوجود ثانية .. أما هي فقد تغير لونها وأشاحت بوجهها كأنها لا تعرفه .. بل إنها حقاً لا تعرفه !... وحملناه إلى الكرسي قرب الموقد . ولم تمض لحظات حتى أفاق ..
من هي دريّة ؟ لعلك كنت تحب واحدة هذا اسمها أشبهتها بزوجتي ، فذكّرتْك بها حين وقعت عيناك عليها ؟ ..
قال : إنها هي .. قلبي يحدثني بذلك أو لعلها أختها أو قريبتها ..
ثم أطرق هنيهة ، ورفع رأسه بعدها قائلاً:
دخلت إحدى المستشفيات منذ سنوات ، مريض الجسم منهكه .. كنت على شفا الموت ... ولن أطيل عليك .. فقد اعتنى بي وجه ملائكيّ طاهر أعاد إليّ الحياة سريعاً .. اسمها دريّة .. جعلْت قلبي صدَفتَها . كان حبها ينمو بسرعة عجيبة في كل جارحة من جوارحي ، وزاد من حبي لها يقيني أنها تبادلني هذا الحب العميق . لقد كنت أحس أنها باتت جزءاً مني ، وبت قطعة منها هذا ما شمته في عينيها-على الرغم أننا لم نتبادل الحديث مطلقاً .
وخرجت من المستشفى مريض الفؤاد عليل الروح ، خاوي الجيوب مثقلاً بالديون . وانطلقت- في دور النقاهة – أعمل وأعمل ، ليلاً ونهاراً ، ونصب عيني أمل عزيز على نفسي .. أن أجمع شيئاً من المال ، أقضي به ديوني ، وأضم حبيبتي إلى قلبي وصدري .. إلى عش الزوجية السعيد . ومرت الأيام ثم الشهور ثم السنة .. وكان ما أردت من مال وفير .. ثم وجّهت وجهي إلى المستشفى ، فوجدت العصفور قد طار .. وا أسفاه .. وا سوء منقلباه ... بئست الحياة ... ما أتعسها ...
كنت أسمعه بشغف وهو يذكر لي مأساته ، وقلبي ينفطر له . ثم صحت دون أن أعي :
هيام ... ياهيام ..
ومن بعيد جاء الجواب : نعم .. أنا قادمة .
يا درية ، أنت درية . ألستِ كذلك ؟! الم تكوني تعملين هناك .. في المستشفى .. ألم تذكري لي مرة أنك عملت ممرضة قبل أن ألتقيك بفترة وجيزة؟ ..
كانت قد وصلت . لكنها أنكرت ما أناديها به ، ثم انهارت فجأة .. وأقرت بما أنكرت .
ودخل والداي وأختاها علينا وعرفوا القصة .. ولم تمض ساعة حتى قلت كعادتي ... هذه العادة التي لا أدري سبباً واحداً لتحكُّمها بي .. أتكون هذه العادة أصيلة فيّ لشعوري بالعطف على الآخرين حتى لو ظلمت نفسي؟! أم لإسعاد القلوب على حساب قلبي ؟! أم لضعف منه تجاه رغبات الآخرين ؟! .. لا أدري .. لاأدري .. إلا أنني قلت لها :
إن أحبَبْتِ أن أسرّحك فتزوّجْتِه ؟ .. فالأمر أمركِ ، وأنا أضعه بين يديكِ .
وانشَدّتْ عيوننا كلنا إليها ....
يا لتلك اللحظات القاتلة !! التي شعرت فيها أن كلمات الحب التي كانت تعطّر بيتنا في أيامنا القريبة الذاهبة ستذهب هباء .. وأن حبها له الكامن في حناياها ، وفي جزيئات قلبها عاد أشد ما كان نيراناً .. ماذا تقول ؟ ... إنها إن ارتأت البقاء في بيتها إلى جانب زوجها فسيلفحها هجير العشق المتوقد فيها للضيف .. هذا الهجير الذي حسبته انطفأ رماده إلى الأبد . فعاد أقوى ما يكون .. وستقتل صاحبه أيضاً في الوقت الذي لن تسعدني بعده أبداً .
وإن اختارت من تحب فسيكون زوجها الذي منحها حبه وحياته نهباً للضياع وفريسة للشقاء ! إنه تعرف مدى شغفه بها وتعلقه بحبها ! لن يمكث على ظهر الأرض إلا يسيراً .. ويحها ما تفعل ؟
هذا ما قرأته على وجهها ... أما والدي فقد قال لها :
يا ابنتي : إنه زوجك وحليلك الذي أحبك... وأحبك ، وما ذاك إلا غريب أقل قدراً وعلماً ومكانة بين الناس ، فلا داعي للحيرة ، ولْينصرف ذاك الغريب الذي دخل حياتكما فكاد يقلبها .
لم تجبه . بل أشاحت بوجهها عنه ، فكيف يكون حبها الأول الذي ملك لبها أقل الناس ؟! لا لا.. إنه خير من على ظهر الأرض ... هكذا شعرْتُ ... فناداها هو نداء المتمكن من ربح جولته :
هيا يا دريّة هيّا .
وكأنها ارتاحت لندائه وتشجيعه ، ففتحت فاها لتنطق بالحكم المدمّر الذي يقطع أعصابي ويشل حياتي .. فوضعت أصابعي أمام وجهي لأحول قدر الإمكان من هول ما سأسمع كما تطمر النعامة رأسها في الرمال خوفاً من مصيرها بين فكّي أسد مفترس .
إلا أن القدر كان أرحم بي من نفسي .. فقد انتفضت من نومي مذعوراً ، والحمى ترتع في جسدي