سطور من المحنة

ثائر معتوق

[email protected]

       صحيح أن أم صابر لم تكن الوحيدة التي عاشت ظروف المحنة التي مرت ببلدها ، جراء الأحداث الدامية التي تولت كبرها السلطة الغاشمة ، ولكن ـ مما لاشك فيه ـ أن محنتها سطرت أحداثها بحروف سوداء قاتمة على صفحات شبابها الندي ، بل تركت عليها ندوباً وأخاديد عميقة ، ومن شبه المستحيل إزالتها بمرور الزمن ، فعندما اقتيد زوجها إلى السجن إبان تلك الأحداث  التي عصفت ببلدها ، ذلك الزوج الذي كان من المشاركين فيها بصورة أو بأخرى ، نظراً لكونه من الشباب الملتزم بدينه ، فقد كانت هي الأخرى مشاركة فيها من خلال تحملها جزءاً لا يستهان به من المعاناة ، لم لا ؟! وهي التي لم يمر على زواجها من أبي صابر سوى بضعة أشهر ، وهاهو يغيّب وراء الأسوار ، أسوار سجون طالما وصفت بقولهم : الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود ، ذلك لانعدام الرحمة من معجم جلاديها ، ناهيك عن قلوبهم وأفئدتهم ،  أولئك الذين تربوا على القسوة والظلم ، وقمع كل من خالفهم في الرأي ، خاصة مع الذين أخذوا في الأحداث الأخيرة ، أولئك الذين  قالوا : لا للظلم ، لا للفساد بشتى صنوفه وأشكاله ، لا لارتهان الشعب والوطن ، فكانت هذه الـ ( لا) كفيلة بل كافية لسحق عظامهم وهم أحياء ، وتقطيع أطرافهم بمناشير من حديد أمام أعين ذويهم ، ناهيك عن أصناف  التعذيب الأخرى التي راح يتفنن فيها هذا النفر الذي باع نفسه للطاغوت ، الذي زودهم بهذه الخبرات الجهنمية من دول ظالمة لها اليد الطولى في هذا المضمار كان لهم الفخر بإعلان التبعية لها والدخول في حلفها .

    أجل لقد شاركت أم صابر في  هذه الأحداث منذ اندلاعها ! وربما قبل اندلاعها ، ومن أول يوم أصبحت فيه زوجة لأبي صابر ! ذلك الزواج الميمون ، الذي كانت أول فصوله أخذ العهد والميثاق بأن يكون زواجهما لبنة صالحة من كيان هذا  المجتمع الذي شابه الكثير من الأوشاب ، زواج يضع شرع الله نصب عينيه ، مهما كلف ذلك من غال ونفيس ، وهاهي ذي وحيدة في بيتها المتواضع ، المكون من غرفتين صغيرتين وملحقاتهما ، ذلك البيت الذي بناه زوجها من كد يده وعرق جبينه ، ليكون عشاً للزوجية ، ذلك الحلم الذي يراود كل شاب رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً ، بعيداً عن جاهلية هذا القرن التي كانت لها تبعاتها الثقيلة على كل شاب ملتزم ، نعم ، إنها تعيش وحدها بعد أن غاب معيل الأسرة التي تتكون من أم في مقتبل العمر ، وجنين في شهره الرابع لا علم لوالده به ، لأن التحاليل الطبية أثبتت وجود الحمل بعد أيام قليلة من اعتقاله ، وبدأت فصول المعاناة ، فقد حاولت الزوجة المسكينة جاهدة البحث لإيجاد عمل يجنبها وجنينها ذل المسألة ، وحاجة الآخرين ، لإكمال مشوار الحياة على قسوته ومرارته ، ومن تكن هذه نيته يفتح الله له ، ويغنه من فضله ، ويتحقق ذلك لها بالانتقال إلى بلد آخر يسكن فيه بعض أقاربها ، وبرفقة أخت لها في الله ، لها الظروف ذاتها ، مع بعض الفروق اليسيرة ، فبينما لدى الأخت الأخرى طفلان صغيران ـ ولد وبنت ـ أصبحت هي في المقابل أماً لطفل لم يكمل عامه الأول بعد ، ويجمع بينهما العمل في التدريس والسكن في بيت مشترك قريب من بعض ذوي  الفضل ، أولئك الذين لم يقصروا في تقديم الخدمات اللازمة لهما ، وقد حظيت الأختين باحترام كل من لقيهما ، وعلى وجه الخصوص الجيران ، وزميلات العمل ،كما أخذتا دوريهما في مجال الدعوة والتوعية في مجتمعهما الجديد ، فكانتا بذلك مثالاً يحتذى في الإخلاص والتقوى والعفة والطهارة ، ونموذجاً مشرفاً للداعيات إلى الله تعالى ، ولا عجب بعد ذلك من أن نجد عدداً ليس بالقليل من تلميذاتهما يرتدين الحجاب الشرعي تأثراً بهما ، ويلتزمن طريق الهداية ، وتمر الأيام والسنون ثقيلة حيناً ، خفيفة حيناً آخر ، ثقيلة بسبب انقطاع أخبار الزوجين السجينين ، خفيفة عند تسرب بعض الأنباء عن إفراجات قريبة عن معتقلين لهم الظروف التي للزوجين ، فتعيشان على أمل أن يكون زوجاهما من المفرج عنهم ، إلى أن كانت السنة السادسة عشرة ، حيث كان أبو صابر ممن أفرج عنهم في هذه المرة ، وراحت الزوجة الوفية أم صابر تعد نفسها للقاء بعد طول غياب ، وراحت تحدث نفسها طارحة بعض الأسئلة التي كانت تلح عليها من مثل : هل بقي أبو صابر على صورته التي في مخيلتها ؟ أم تغير؟ هل بقي ذلك الشاب الوسيم الممشوق القامة ، ذا الأنف الشامخ ، والوجه الذي لا تفارقه الابتسامة ؟ هل ستصفو لها الأيام برجوع شريك العمر فتستأنف حياتها من جديد ، هل .. وهل .. تلك الأسئلة التي لم تجد لها جواباً لطول العهد واتصال البعد ، ومر السنين ، وأي سنين ؟ إنها سنون تنوء الجبال الراسيات عن تحمل ما مرّ فيها من أهوال ومعاناة ، سنون لا يعلم قسوتها إلا من عاشها لحظة لحظة وكانت ساعة اللقاء وكانت المفاجأة ، فإذا هي تقف أمام شبح إنسان ! أو قل هيكل عظمي لرجل عجوز مصاب بالسل الئوي وبعض الأمراض الأخرى ، فإذا بالشاب الذي كان  قبل دخوله المعتقل في مقتبل العمر في سنيه التي لم تجاوز السابعة والعشرين ، يبدو لناظريها في الخمسين من عمره ،لم تتمالك أم صابر نفسها ، فأجهشت بالبكاء ، وراحت تذرف الدموع ، فاختلطت عندئذ دموع فرحة اللقاء ودموع الأسى والحسرة على شريك العمر ، الذي نالت من جسده سياط الظالمين ومقاريضهم وسجونهم ما نالت ، لكنها ـ بالتأكيد ـ لم تنل من عزيمته أو من إيمانه الراسخ في صدره رسوخ الجبال الراسيات ، فهو يعرف سلفاً خطورة الطريق التي سلكها .. وأفاقت من ذهولها على صوت أبي صابر الذي راح يهدئ من روعها ، ويدعوها إلى احتساب ذلك عند الله ـ كما فعل هو ـ فراحت تسأل نفسها ، أيعقل هذا ؟ أحقيقة ما رأت أم هو ضرب من الخيال ، أم هو كابوس لعلها تفيق منه  ؟ وجاءها الجواب : نعم يا أم صابر ، يعقل كل العقل! فحين يعرف السبب يبطل العجب ، فالظروف التي عاشها أبو صابر في معتقله لا يتحملها إلا طويل العمر ، ففي كل يوم جديد في هذا المعتقل اللعين ، والسوء في ازدياد على مرّ الأيام والساعات والدقائق بل واللحظات ،  فقد مر وإخوانه بظروف لا سبيل إلى شرحها وتوضيحها في الوقت الراهن ، ظروف يشيب لها الولدان .. لذا فلا غرابة من أن تجدي أبا صابر يقف أمامك على هذه الحال ، ولا يأخذك العجب عندما تعلمين أنه لا يستطيع رفع يديه ليحك رأسه ، وحتى اللقمة يحتاج إلى من يضعها له في فيه ، واستعادت الزوجة الصابرة رباطة جأشها ، محتسبة أمرها عند الله ، وراحت تحمد الله على كل حال ، فهو وحده سبحانه الذي يصرّف الأمور ، نعم لقد أفاقت أم صابر على حقيقة مرة ـ ولكنه قدرها ـ فأبو صابر يحتاج إلى من يعيله ويخدمه ، ناهيك عن تحمل تكاليف العلاج الباهظة التي لا بد منها ، لعل الله يأذن بالشفاء ، ولكن ما السبيل إلى ذلك ؟ وكيف ستوفق هذه الزوجة المسكينة بين هذه المهام مجتمعة ؟  وهي التي بادرت إلى ترك عملها إبان الإفراج عن زوجها ، ظانة أنها سترتاح بعد عناء تلك السنين ، في ظل زوجها الذي عهدته ـ قبل دخوله السجن ـ يكفيها مؤونة العمل ، أو حتى التفكير في متطلبات الحياة ، مهما كانت باهظة التكاليف ، لم لا ؟! وهو الرجل الناجح في عمله ، ما السبيل إذن ؟! ما السبيل ؟! أتبادر إلى البحث عن عمل في بلدها  ؟ وأي  جدوى من العمل في بلدها ؟ وما المرتب الذي ستحصل عليه ؟ فعملها لن يوفر لهم شيئاً من هذه المتطلبات ، ولن يسد شيئاً منها ، ويكون قرارها بالعودة إلى بلد الغربة من جديد ، علها تعود إلى عملها الذي تركته منذ شهور قليلة ، وكذلك محاولة عرض زوجها المريض على بعض الأطباء المختصين ، علها تجد له علاجاً ، وتتخذ قرارها الصعب أمام دهشة الجميع ، وخلال شهور قليلة ، وبمساعدة بعض الطيبين ـ الذين لا يخلو منهم زمن ـ تستطيع استقدام زوجها ، وعرضه على ثلة من الأطباء المختصين ، ولكن النتيجة هي هي ، فحالة أبي صابر في تأخر بصورة مستمرة ، ولا أمل في شفائه ، إلا أن يأذن الله بذلك من عنده ، ولكن هذا كله لم يقدم أو يؤخر شيئاً عند أبي صابر ، الذي كانت صلته بربه قوية ، لم لا ؟! وهو الذي سلم أمره لله في أموره كلها ، لذا لا غرابة من أن تسمعه يردد في كل حين : رضيت بقضائك يا رب العالمين ، اللهم ألهمني الصبر على البلوى ، وثبت إيماني بك يا خير مسؤول ، يا أرحم الراحمين ، علمك بالحال يغني عن السؤال .

        ويبقى بصيص من أمل في مركز للعلاج بالأعشاب الطبية ، البعيدة عن الكيماويات ، وتستمر هذه الحالة شهراً كاملاً ، ويلمس أبو صابر تحسناً طفيفاً في حالته ، فتسعد الزوجة ويسعد الولد لذلك أيما سعادة ، ولكن هل سيكتب لأبي صابر الشفاء ، ويعيش في هذه الحياة بعض الأيام الهانئة الرخية مع زوجه وولده ؟ ما الذي يخبئه القدر لهذه الأسرة التي عبست في وجهها الحياة ؟ ...

وفي أحد الأيام في وقت الظهيرة ، وبعد أن تناولت الأسرة طعام الغداء ، وتجاذبت أطراف الحديث في وضعها الراهن ، باحثة عن بعض الحلول لأوضاعها ،  وبعدها توجه الجميع لأخذ قسط من الراحة ، وبينما كانت أم صابر بين اليقظة والنوم ، سمعت زوجها يردد بعض آيات الذكر الحكيم ، مركزاً على آيات بعينها ، إنها آيات الجنة والنعيم ، وما أعد الله للمتقين في الدار الآخرة ، فلم تلق لذلك بالاً ، فمن عادة أبي صابر مراجعة سور القرآن الكريم وآياته ، فهذا ديدنه في كل حين وآن ، وكان آخر ما سمعته منه قوله : إلى الجنة إن شاء الله .. وقبيل أذان العصر استيقظت الزوجة لأداء الصلاة ، وعندما التفتت إلى أبي صابر لتوقظه ، لمحت على وجهه ابتسامة قلما شاهدتها على وجهه بعد خروجه من السجن ، وأحست بالسكينة تظلله ، لكنها أحست بشيء غريب ، إنها لا تسمع لأنفاسه صوتاً ، هزته برفق فلم يتحرك ولم يستجب لندائها ، وسرعان ما نادت ابنها ليرى ما حل بأبيه ، واتصلت بالجيران ولكن .. لكن ماذا ؟ إن أبا صابر قد فارق الحياة ، وتلك الآيات التي سمعته يرددها ،كانت آخر عهده من الدنيا ، فقد مضى على موته قرابة الساعتين ، كما أفاد الطبيب الذي قام بفحص الجثة  ..

        لك الله يا أم صابر، أجل !  لقد رحل أبو صابر من جديد ، رحل إلى جوار ربه ، وبدأت رحلتك يا أم صابر من جديد ، في هذه الحياة ، فعيشي على أمل بلقاء زوجك الصابر المحتسب ، وإلى لقاء في عليين إن شاء الله ، فلست وحدك التي وقع عليها ظلم الظالمين ، ولن تكوني الأخيرة،  وعزاؤك أنت وأمثالك قول الله تعالى ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين )