في بيتـنا ذبابة
في بيتـنا ذبابة
أ.د/
جابر قميحة
إنها
عادتي - من شهور طويلة - أن أخصص عدة ساعات من صباح كل أحد لصحيفة " آفاق عربية.."
فأجلس إلي مكتبي بمسكني, وأكتب مقالي الأسبوعي. وطريقتي في الكتابة أن أصوغ المقال
في مسودة أولا, ثم أبيضه, أي أنقله من
المسودة بخط أوضح وأجمل . فإذا كان الموضوع
واضحا في ذهني بكل محاوره, كتبت المقال مباشرة مبيضا دون مسودة, وأرسله
بالفاكس إلي
الصحيفة, والمقال يشغل - في العادة - أربع صفحات «فولسكاب», أي قرابة ألف كلمة.
وأنا أحرص دائما علي أن اكتبه بالحبر
الأسود, لا بالقلم الجاف, حتي يكون الخط أوضح,
ولأن قلم الحبر له أصالته, وثقله, واتزانه, مما يتفق مع مكانة «آفاق عربية» عندي
.
وقد تعود الأستاذ بدر محمد بدر - أكرمه
الله - أن يتلقي بالفاكس مقالي بأوراقه
الأربع بعد الظهر, وقبل العصر.
معذرة يا قارئي العزيز إذ أطلت في هذا
التقديم, وأخٍلُص منه فأقول: كان كل أحد يمضي جميلا حميدا ما عدا هذا
الأحد الأخير .. جلست إلي مكتبي في العاشرة صباحاً, وشرعت أكتب مقالي الأسبوعي الذي
سينشر في «آفاق عربية» في عدد الخميس .عنوان الموضوع (يا حكام العرب
أطلقوا أسراكم), وكان الموضوع واضح المعالم والمحاور في ذهني, لذا لم
أجدني في حاجة
إلي مسودة, وبدأت أكتب المقال مباشرة.. كتبت العنوان.. وعدة أسطر. وفجأة حطت ذبابة
علي يدي, ثم انتقلت إلي أوراقي, وكلما
طردتها عادت من جديد, ولم ينفع معها الهشّ,
والنش. وتكرر الطرد .. والعودة .. والذبابة لا تبالي.. وتذكرت ما قاله العرب قديما
إذ جعلوا الذبابة مثالا للشجاعة,
فقالوا: فلان أشجع من ذبابة, وقالوا لأن الذبابة
تحط علي عين الملك, وذي السلطان, فإذا ما ذبّها (أي طردها) عادت من
جديد, لا تهاب,
ولا تبالي.
وشعرت بمسحة من الثقة والسكينة , لأن هذه الذبابة رفعتني - دون أن
تقصد - إلي مرتبة الملوك والسلاطين. ولكن سرعان ما أفقت من وهمي, وعدت
إلي واقعي,
فإذا بي لست بملك ولا سلطان, ولكني حامل قلم, وواحد من رعايا الكلمة وخُدّامها.
وأشعر بمرارة الواقع في حجرة مكتبي, وأنا أري الذبابة تعود من جديد
لتقف علي ظهر
كفي اليمني التي تحمل قلمي, ورأيتها تزحف في هدوء لتمتطي رأس قلمي كأنها تريد أن
تملي عليه شيئا من «منطقها الذبابي»
ليسجله قلمي في غفلة مني, فتلوث به منطقي
الإنساني!!.. وتذكرت أن المقال عن حكام العرب, ومر أمام عيني - في سرعة
مذهلة -
شريط ضم عشرات من أدعياء التنوير, وحرية التعبير أو التدمير.
ويثور الدم
في عروقي.. وأصرخ بيني وبين نفسي:
-
هوّ أنا ناقص.. ما هذا.. ذبابة لكعاء
..
وحكام وأدعياء .. كل هذا مرة واحدة?!!
وهززت يدي بشدة .. طردت الذبابة.. ولكني
صُعقت وأنا أري نقاط الحبر تفترش الصفحة التي كتبت منها ثلاثة
أرباعها.. آه فقدتٍ
الورقة صلاحيتها.. عندها تذكرت «حكومة الحزب الوطني , في مصرنا المخروسة » فاستعذت
بالله من الشيطان الرجيم .
وعلي ورقة أخري كتبت العنوان (يا حكام العرب أطلقوا أسراكم..(
وأفاجأ بصاحبتنا تعود لتقف علي ظهر كفي اليسري التي أمسك بها طرف
الورقة حتي تثبت
علي المكتب . ورأيتني أصرخ في زوجتي التي كانت تقوم بعملية الطبخ وتعد الغداء:
-
الحقيني يا هانم.. الذبابة مطلعة روحي.
وتأتي علي عجل, وتسألني عن مكان الذبابة,
ودون أن تقصد, وفي توهج حماستها سقطت علي الورقة - وهي تشوح بيمينها - نقاط من
الماء, أصابت العنوان, فمحتٍ «حكام
العرب», وأصبح العنوان مضحكا (يا... أطلقوا
أسراكم). وألُقي بالورقة في «سلة المهملات». وآتي بورقة جديدة للمرة
الثالثة.
-
خلاص.. شفتها..
-
خلصيني منها.. الله يكرمك.
وفي هدوء سحبت العدد الأسبوعي»
من صحيفة «قومية», وبرمتها بشدة برما حادا متقنا حتي صارت الصحيفة القومية
كالعصا الغليظة القصيرة التي يستخدمها
«أمننا المركزي» في فض المظاهرات. ووقفت
زوجتي, وأنا جالس إلي مكتبي, وهي تواجهني, وبيني وبينها قرابة متر, وهي
ترفع «عصاها
القومية» بمحاذاة أذنها اليمني. كانت ساكنة كأن علي رأسها قبيلة من الطير. وبدأت
تتكلم بالإشارة , وعيناي معلقتان بها
وبعصاها, رفعت سبابة كفها اليسري إلي فمها,
فترجمتُها- هسْ .. لا تتحرك.. ولا تتكلم.
ثم أشارت بالسبابة نفسها إلي كتفي
اليسري, ففهمت منها أنها حددت «موقع» الذبابة.
وبسرعة الضوء انقضّت الهانم "بسلاحها" على كتفي اليسري. فأحسست أن أذني اليسري قد
دبّت فيها النار, وأنها
تعزف نغما صاخبا كتصريحات حكامنا.
وتذكرت فاتورة الكهرباء التي دفعنا فيها قرابة
مائتي جنيه في استهلاك الشهر الماضي, وذلك لأن عيني اليسري شهدت
بُعيـْد هجوم الهانم ومضات من البرق المتقطع.
وصرخت ورفعت يمنايَ إلي وجهي..
-
النظارة.. أين النظارة...??
واكتشفنا أن النظارة قد أخذت مكانها في إحدي خانات
المكتبة, وحولها فتات من زجاجها, يبكيه «شمبرها », ورأيت «الهانم» تهتف
في
سعادة:
-
الحمد لله.. أخيرا قضيت عليها..
-
والنظارة.. وودني اللي لسه
بتصفر.. من أثر ضربتك التي أصابتني في
الطريق..
-
معلهش .. كله يهون.. من أجل
القضاء علي هذه الذبابة اللعينة.
وأنت تعلم أن كل انتصار.. لازم يكون معاه
خسائر.
-
لكن هل أنت متأكدة أنك «هزمت» الذبابة?
-
طبعا.. لقد ضربتها ضربة لو
وُجهت إلي كلب لقتلته.
وابتسمت , وأنا أردد بيني وبين نفسي «من يدري»? ربما
هُزمَت هذه الذبابة في معركة, ولكنها لم تهزم في حرب!!.
يا خبر?!!
الساعة الثانية الآن, ولم أكتب حرفا
واحدا من المقال.. والقليل الذي كتبته منه
أفسدته الذبابة.. ورن جرس التليفون .. إنه الأستاذ بدر يستعجلني إرسال
المقال.
- حاضر يا أستاذ بدر.. ادع لي ربك ينصرني علي
«أعدائي»
- ربنا يبارك فيك.. احنا
في الانتظار.. ربنا يبارك فيك.
وخطر لي خاطر.. نفذته علي عجل.. أخذت
أوراقي وأقلامي.. وغادرت حجرة المكتب إلي حجرة السفرة.. وطلبت من زوجتي
- أخذا
بالأحوط - أن تغلق حجرة المكتب.. وأخذت مكاني في حجرة السفرة, وكأن الله قد استجاب
لدعوة الأستاذ بدر الرجل الطيب, فرأيت
قلمي يجري سيّالا علي الورق, مسجلا قبلاته
علي صفحاته الناصعة, ياه!!! الحمد لله.. انتهيت من ثلاثة أرباع المقال,
ولم يعد
أمامي إلا صفحة واحدة, ومن شدة اعتزازي بما كتبت كنت أضع كل ورقة انتهي منها تحت
سابقتها, كأنها ثروة تملكها بخيل لا
يهنأ له نوم إلا باحتضانها.. وتنفست الصعداء,
وأنا أكتب السطور الأخيرة من مقالي «يا حكامنا العرب..» افعلوها "حتي تتحقق الوحدة
الوطنية الحقيقية, في ظل العدل والحرية,
والديمقراطية والسلام الاجتماعي ".
ووضعت
الورقة الأخيرة تحت سابقتها.. أخيرا..
ها هو ذا المقال بأوراقه الأربع أمام عيني..
لقد انتصرنا بحمد الله في «معركة الذبابة» .. ونظرت الي عنوان المقال باعتزاز "يا
حكام العرب.. أطلقوا أسراكم".
وناديت زوجتي لترسل الورقات بالفاكس إلي «آفاق
عربية», وفجأة رأيتها.. هي بعينها.. تأخذ مكانها علي العنوان .. ومن
عجب أن تقف فوق
حرف العين كأنها نقطة سوداء, فأصبح حكام العرب «بالعين» حكام الغرب «بالغين», ثم
انتقلت إلي الحاء فصارت خاء, وأصبحت
حكام : خكام «بالخواجاتي» علي طريقة «شوف
خبيبي» و" صاخب المخل"..
آه إنها هي لأني رأيت انحناء يشبه الانكسار في جناحها
الأيسر.. ربما من ضغط الهواء الذي سببته ضربة «الهانم» التي كسرت
نظارتي, وأضاءت
عيني, وجعلت أذني اليسري ذات وعي موسيقي. لا تعجبي يا زوجتي لضربتك الطائشة فهي
تتسق مع مقال يتحدث عن حكام العرب..
ورأتني زوجتي وأنا أتأمل حركات الذبابة,
فرأيتها تضم أصابع يدها اليمني, وتحركها هابطة صاعدة في هدوء شاعري, ففهمت أنها
تريد أن تقول:
-
صبرك حتشوف أنا حاعمل إيه.
وخرجت , وعادت في هدوء, وفي يدها
علبة مبيد الحشرات الطائرة, ووجهت للذبابة الواقفة علي «حكام العرب» في الورقة
الأولي من المقال.. وجهت «بخات»
متواصلة, لم يقطعها إلا صراخي: كفاية.. كفاية.
ونظرت إلي الذبابة فوجدتها غارقة في بحر من المبيد الحشري السائل, ورأيت ورقات
المقال الأربع قد حققت «الوحدة الشاملة»
فصارت ورقة واحدة, عاليها كسافلها, وفوقها
كتحتها, وتلاحمت الكلمات والسطور وأصبحت الورقات ذات لون أسود مشرب
بصفرة, رأيت
الدنيا تميل أمام عيني, وتدور..وتدور, ولست أدري لماذا تذكرت " الهريسة.."
ودق جرس
التليفون .. إنه الأستاذ بدر - أيوه .. يا دكتور!! أين المقال?! الساعة
الآن
الرابعة مساء..
-
آه .. نعم.. أصل الدبانة.. والهريسة .. وصاخب المخل
-
الله ? ..
ما هذا?! المقال فين يا دكتور?!!
-
معذرة يا أستاذ بدر.. بعد دقائق أكون
عندك.. سأكتب المقال في مكتبك.. ولكن طهّروه من الذباب!