الغرفة رقم 19

زبيدة هرماس

- شعرت فوراً أنني بحاجة إلى علاج، وإلا ما كنت هنا.

- حسناً، الرغبة في العلاج والشعور بالمرض عنصران مهمان لتقلع عن الإدمان.

- سرطان الرئة والحنجرة يطاردانني، اطلعت على مواضيع صحية حول الموضوع على الانترنت، صدقني يا دكتور أنني كنت أشاهد أفلام الرعب الحقيقية وأنا أقرأ عن نوع المرض الذي هاجمني، شعرت أنني أنا بطل هذه الأفلام، ولولا أن ثمن الفحص في عيادتك باهظ لأتيت عندك فوراً لتطلع على أزمتي النفسية الخانقة، هل يمكن أن تقول لي لماذا لا ترحمون المرضى وتخفضون أثمنة الفحص؟

- أعلم أنه ليست لديك تغطية صحية.

- وكأنني لست شاباً نافعاً، ولا يحتاجني أحد، أشعر أنني جئت قسراً إلى عالم لا يرغب في استضافتي، هذا ما أشعر به الآن، وهذا ما يزيد من أزمتي وعذابي، هل جربت أن تكون غير مرغوب فيه في حفلة أو مجلس؟ أن تكون غير مرغوب فيه في رحاب الحياة العريضة أدهى وأمر يا دكتور.

ابتسم الطبيب النفساني وقال:

- بودي مساعدتك مادياً، ولكن كما تعلم فهذا عمل مؤسسات وليس عمل أفراد، إذ لا يمكن لفرد أن يحل مشاكل الناس المادية، اشتكى الجدار من الألم فقال للمسمار، لم تؤلمني؟ فأجاب المسمار: سل من يدقني، هل فهمت يا نور الدين؟

- الذي فهمته جيداً هو أنني من يحمل كل الألم، كل الوجع، أنا الجدار والمسمار معاً، أحب البناء وكأن هناك من يقطع أوتار يدي.

- سأحاول مساعدتك وتخفيض الثمن لزيارتين متتاليتين، بمقدورك حكاية مشكلتك من الأول.

- أشكرك، أبي كان يعمل سائق تاكسي، يحصل على أجرة لا بأس بها، استطعنا توفير ما اشترينا به شقة صغيرة، أختاي تدرسان في الكلية وأنا أدرس وأشتغل في آن واحد لإنعاش دخلنا، أمي تطرز الملابس التقليدية وتغطي جزءاً لا بأس به من مصروف البيت، تغمرنا سعادة كبيرة، خصوصاً حين نجتمع في المساء على مائدة العشاء للتواصل والحديث المشترك.
سكت نور الدين قليلاً ثم بكى بكاءً مريراً وهو يغطي وجهه بكلتا يديه وقال:

- فجأة انهار كل شيء، كل شيء.. وتحول بيتنا إلى غابة موحشة، أصحبنا كأننا ذئاب تعوي أمام قطيع من جيراننا الفقراء تلفهم قطع القصدير الصدئة لفاً، وكأنهم خرجوا من شركات التعليب، أنت لن تعرف ما معنى أن تتحول من شقة في عمارة إلى كوخ في غابة من المواسير والأزبال التي تعاقب بها كل يوم لأنك جزء من الوطن، الكوخ القصديري هو أوفى من ينقلك إلى الطبيعة القاسية من حولك، يجعل البرد يسكنك في زمن الشتاء، كما يجعل الشمس فوق رأسك كأنك في يوم الحشر، لا تملك إلا أن تخرج للجلوس في العراء قرب أريج الحدائق، ليست هذه مشكلتي الآن يا دكتور، هذا السرطان الذي هجم علي هو الذي زاد من كربتي، إنني أحب أن أعيش وأخاف من الموت خوفاً كبيراً، كلما مررت بجوار مقبرة وأنا أتسكع في الطرقات هائماً على وجهي، أتخيل أنني سأكون من سكان ذلك العالم الصامت المرعب، تلك الديدان المتوحشة وهي تلتهمني تحت التراب الخشن.

توقف نور الدين وقد ازدادت عيناه احمراراً، فدفع له الطبيب مناديل الورق وقال:

- تشجع يا نور الدين وحاول أن لا تبكي كثيراً، بهدوئك تساعدني على فهم معاناتك.

التاكسي

- بدأ كل شيء ينهار عندما استقل رجل أعمال من المشرق سيارة تاكسي والدي من المطار إلى الفندق، هناك طلب منه رقم هاتفه ليساعده على التنقل داخل المدينة والتعرف على أسواقها، لكم كان والدي سعيداً بهذه الصفقة، خصوصاً حين ناوله مبلغاً مهماً من المال وقنينة عطر فاخرة، ما زلت أذكر أن أبي وضعها في بهو البيت ليستعملها الجميع بالرغم من أنها رجالية بنكهة الصندل، لقد قضى معه عشرة أيام لم نكن نراه فيها إلا ليلاً حين يعود من الفندق، مسروراً متهللاً ومغموراً بكرم الضيف السخي، لقد أصر والدي على استدعائه إلى بيتنا المتواضع قبيل مغادرته لأكل الكسكس المغربي والذي أحبه كثيراً أثناء مقامه في بلادنا، أذكر أن البيت كان أشبه بمكان حفلة تزينت بقدوم السيد جلال، لقد جاءنا بكل تواضع ومعه كيس فاخر جداً، هل تعلم ماذا كان بداخله يا دكتور؟

- ما الذي كان بداخله؟

- نرجيلة ضخمة متقنة الزخرفة، بديعة المنظر، لامعة الشكل، كان يستعملها طيلة مقامه بالغرقة رقم "19" في الفندق!.

- وماذا في ذلك؟

- لقد فتحها بنفسه مسروراً وأخبرنا أن السلك اللولبي المحيط بشقها الزجاجي من الفضة الصافية، شغلها أمامنا وهو يمازحنا ويضحك ملء فيه، ثم دفع الخرطوم إلى والدي الذي استحيا منه وجذب دخانها نحو صدره، فاستلقى على ظهره وهو يسعل لدرجة الاختناق، لكم ضحكنا يومها ضحك الأطفال، لم نكن حتى عهد قريب في المغرب نعرف هذا النوع من التدخين، ولم نكن نراه إلا في بعض الأفلام على الشاشة الصغيرة.

تنهد قليلاً ثم أردف وهو يفتح الأزرار العلوية لقميصه وقال:

- هذه الهدية يا دكتور، حفرت قبورنا واحداً واحداً.

- لماذا؟

- أدمن عليها والدي منذ ذلك اليوم، افتخر بكونها تحفة باهظة الثمن تسلمها من رجل يمتلئ ثراء وحيوية وفكاهة، بعد مدة أصبحنا في البيت ننافسه عليها، حتى أمي الفاضلة التي كانت تطرز وتبدع، لم تعد تفعل أقل من الجلوس إليها طيلة اليوم وعيناها محمرتان، أما أنا فقد أسرفت عليهم جميعاً حين أحضرت لهم نكهات الفراولة والمشمش لتغيير الذوق والمتعة، لم يعد بمقدور أختيَّ أن تحصلا على نتائج جيدة كما كانتا من قبل، الذي يمزقني أكثر يا دكتور، هو أنني أنا من جعلهم يخلطون أريجها الدخاني بالمخدر، لقد أدمنا جميعاً لدرجة الجنون، معاملة جيراننا تغيرت، وأهلنا صاروا يعاملوننا بجفاء، ترهلت عضلاتنا واتسخ بيتنا، لم يعد بمقدور أحد من عائلتي الصغيرة أن ينضج بيضة على النار، كما أن خلافات كبيرة نشبت بيننا لاختلال مهام كل منا داخل البيت وخارجه، هذا هو ما جعل أبي يخرج إلى مقهى المقامرين ليدمن على الشيشة التي غزت الأسواق رويداً رويداً، إنه هو من أحضر لنا مرض السل في أول الأمر، ثم بعد ذلك عمتنا العدوى.

انفجر نور الدين باكياً وهو يردد: "نعم، نعم هكذا عمتنا العدوى".

- استمر يا نور الدين، أنت شاب قوي العزيمة وأنا أحاول تفهم مشكلتك.

- علمت بعد ذلك من خلال الفحص يا دكتور أن سرطان الحنجرة والرئة يطاردانني، وأن الورم في مرحلة متقدمة قليلاً، ليت بلائي اقتصر على السل وحده.. ها..ها ليته اقتصر على السل فقط ولا شيء غيره.

استدرك الطبيب النفساني بنبرة حزينة:

- لقد اطلعت على فحوصاتك، علمت فوراً أنك بحاجة إلى جرعات أمل.

- الأمل؟ ههه.. هذه الكلمة تعذبني، أنا الآن أراني كهلاً عمر سنين طويلة واقترب رحيله، أتراني قادراً على عمل أعول به نفسي؟ هل تعلم أنني بعت بذلتي التي أعتز بها لأوفر ثمن زيارتك؟، لا أحب أن أرحل إلى ذلك العالم الغامض وأنا بعد في الثلاثين أرجوك يا دكتور، صدقني، أحب أن أعيش.

- سأصف لك أولاً بعض المسكنات، وإنني أقترح عليك أن تتصل بالسيد جلال الثري ليتحمل نفقات علاجك، ربما فعل ذلك.

- منذ أن ابتلي والدي بلعبة القمار وهو يراسله على عنوانه فيرسل إليه مالاً، ثلاث مرات وهو يكرمه، ثم قطع.. قطع أخباره عنا، أنا مثلك يا دكتور أعتبره هو المسؤول عما أنا فيه.

- أنت أيضاً مسؤول يا نور الدين، وشجاعتك في تحديد مكان الداء تخفف المشكلة.

- كثيرون أيضاً مسؤولون، تركوني أموت في شبابي وحدي، وربما لن يدفعوا ثمن كفني لأوارى الثرى بكرامة.

نظر إليه الطبيب وهو يخفي إشفاقه وقال:

- أنا أستقبل العشرات من الشباب أمثالك، أخالهم كهولاً إذا لم أعدل نظارتي جيداً.. إن مهمتي يا نور الدين هي أن أزرع الأمل، وهذا ما أفعله معك الآن، أتمنى أن تستطيع زيارتي في الجلسة اللاحقة وقد تحسنت معنوياتك.

ابتسم نور الدين ابتسامة باردة ثم ودع الطبيب.

الرسائل

لم تتحسن حنجرة نور الدين، كان منهك القوى في الكوخ القصديري بعد شهور من المعاناة، تمدد قليلاً ثم قام ليرشف شيئاً من الشاي بالنعنع، فشعر أن ما ألم بحنجرته أصبح ألماً حارقاً، وتخيل أن الشاي خرج إلى مكان آخر بجسده الذي ازداد سوءاً، رمى بالكأس نحو الأرض حتى تناثر زجاجه من حوله، ثم حمل ورقة وكتب: "أيتها الحكومة، مؤسسات جنون البقر، مؤسسات جنون البشر، مؤسسات فنون الحفر، منظمة الأمم المتحدة، جمعيات رعاية المكفوفين والعرجان والصم والبكم والمرأة، مجلس الأمن، ضيف الموت السيد جلال، أبناء السيد جلال، المزارع في حقول التبغ، المصنع الذي يرعى لفافات التبغ، اليونسيف، إلى أصحاب الأكلات السريعة والبطيئة، إلى أبي الأب، إلى أبي سائق التاكسي، إلى أبي المقامر، جمعيات رعاية مرتبات الأثرياء الكبار، جمعيات حفظ الخضر والفواكه في البرادات لشهور، برلمان الأطفال الصغار، جمعيات التنقيب عن النفط والقحط، جمعيات التنقيب عن تراث الأجداد والأنداد، جمعيات الفن والموسيقى والشباب والرقص، أصحاب الموت السريري والحصيري، إلى وكالة الطاقة النووية، إلى صاحب الأربعين نووية، جمعيات حماية المستهلك، جمعيات منتجي الخضر والفواكه، جمعيات حماية موردي المخدرات، جمعيات ضد العنف، جمعيات ضد السلم، أصحاب التاكسيات المسالمة والمدمرة، جمعيات المدافعين عن الثوم والطماطم، جماعات المدافعين عن حقوق الحيوان، أصحاب التأمين في البحر وحماية صيد القروش المفترسة، جمعيات حفاري القبور، منظمات نسج الأكفان، أصحاب آلات زرع الألغام وأصحاب آلات كسحها، معهد رصد أضرار الهاتف المحمول وآلات التجميل، جمعيات الدكاترة الأصحاء والمرضى، جمعيات الغناء على الليل والنجوم والسحاب والضباب، البرلمانات العالمية، جمعيات أفلام الرعب والحب، جمعيات المتسكعين في الطرقات، مؤسسات محو الأمية في العالم، مؤسسات محو الإنسان في العالم، مسعفي الكوارث والفيضانات والحرائق والزلازل، سفارات العالم وقنصلياته، أرباب المطاحن وأرباب المخدرات، أصحاب الفضيلة والرذيلة، أصحاب القنابل القاتلة، أصحاب القناديل المضيئة، أصحاب نور الدين الطفل البديع، أصحاب نور الدين الشاب القتيل، أصحاب نور الدين في العالم الآخر، انتبهوا فكل شيء قد احترق!.. احترق!!!

تحامل نور الدين على نفسه وحاول إخراج رسائله من تحت باب الكوخ القصديري البئيس، تلقفها الأطفال وهم يضحكون، فهم تعودوا على الضحك من أوراق نور الدين الأحمق، وبعد يومين، جاء البوليس يسأل عن إرهابي مفترض كتب رسائل تحمل رائحة الانفجارات والحرق والموت، خرجت فتاة صفراء السحنة، نحيلة الجسم، وأخبرتهم أن الإرهابي المفترض قد انتقل قبل ساعات إلى العالم الآخر!