الخابية المشقوقة
ياوز آجار /تركيا
كان عبد الحكيم يحبّ الاطلاع على الحكم الكامنة في الأشياء والأحداث من حوله، ولهذا كان يعمل الفكر في كلّ شيء، ويسأل ويستفسر عن أسبابه. وكان جدّه رجلاً حكيماً كثير المعرفة، واسع الاطلاع، يردّ على جميع الأسئلة المختلفة التي كان يطرحها حفيده من حين لآخر، كلّما استطاع على ذلك.
وفي الآونة الأخيرة، كان عبد الحكيم يكثر من إعمال الفكر والنظر في مراتب الوجود المختلفة وطبقاته، ابتداءً من الذرّات وانتهاءً إلى المجرّات، وحالات الناس المتقلّبة المتداولة ما بين الصحّة والمرض، والسعة والضيق، والفرح والحزن، والبسط والقبض...الخ.
وعندما يرى أناساً مصابين ومعاقين، ومرضى بأمراض شتّى كان يحزن عليهم كثيراً، ولكنّه ما كان يستطيع أن يفعل شيئاً سوى الدعاء لهم بالشفاء والصبر.
ويوماً كان حزن جداً لما شاهد عصفوراً مسكيناً يهرب بسرعة مذهلة محلّقاً في السماء لينجي نفسه من طير جارح يطارده ويهاجم عليه. وأبدى رحمته وعطفه عليه بأن حاول منعه من ملاحقته. إلا أنه تذكّر بعد قليل أن الله تعالى أرحم بمخلوقاته منه؛ حيث سبقت رحمته على غضبه، و(جعل الله الرحمة في مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً، وأنزل في الأرض جزءًا واحداً، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها، خشية أن تصيبه) (البخاري). ولكنّه لم يتمالك نفسه من التفكير في حكمته تعالى بذلك الحدث. فانتهى إلى أنه لعلّ قابلية طيران العصفور تنكشف وتزداد بمطاردة هذا الطير الجارح. وحينما ضرب الزلزال الكبير بمدينة "أرزنجان" لتركيا تهدّمت كثير من البيوت والمباني، وأسفر عن عديد من الموتى والمصابين والجرحى، مخلّفين وراءهم الأطفال الرضّع، والأرامل الثكالى، والشيوخ العاجزين عن الحركة. وكان من بين المصابين سامي، صديقه المحبوب إليه، حيث جرحت رجله اليمنى تحت أنقاض بيتهم المهدّم المسوّي بالأرض، فأخذوه إلى المشتشفى ليقرّر الأطباء بقطع رجله؛ إذ أصيبت بحديد مصدّأ، فأدت إلى الغنغريا. فظلّ عبد الحكيم بجانبه يؤانسه ويحشِد له ويساعده حتى خروجه من المستشفى، كرفيق حياة له.
وكذلك كان يحزن على شابّ بِحيّهم يدعى حيدر؛ إذ كان منذ الولادة أعمى البصر لا البصيرة، إلا أن ذاكرته كانت قوية جداً بحيث تمكّن من حفظ القرآن الكريم كاملاً، وهو ابن أحد عشر سنة. فكان عبد الحكيم يتعجّب من ذلك، ولما سأله يوماً "كيف حفظت القرآن الكريم من الفاتحة حتى الناس، وأنت مكفوف البصر هكذا؟" كان ردّه كذلك: "الحمد لله على نعمه التي لا تحصى! كأن الله تعالى أخذ منّي عيني، فعوّض عنهما بذاكرة قوية، فحفظت القرآن الكريم بالاستماع إلى أبي – رحمه الله وأخلده في نعيم جناته – والأشرطة القرآنية بأصوات مختلفة، وخاصة بصوت الشيخ السديس – حفظه الله -".
وكان عبد الحكيم يوماً مع جده الحكيم، وأمّه الحنون، وأخواته العزيزة في حديقتهم الواسعة يزرعون بذور الوردة والذرة والثوم والنعناع. وبعد انتهاء عملية الزرع جلسوا على الأعشاب ليستريحوا، ما عدا جدّهم، حيث استمرّ في شغله. وبعد حين، قالت أمّهم مولّية وجهها نحو أولادها:
- نحن دفنّا الآن تلك البذور تحت التراب، ذلك المصنع الإلهي العجيب، وكأنها ماتت، ولكنّها في الحقيقة لم تمت، بل ستمرّ من خلال بعض العمليات الكيميائية تحته لتنبعث من جديد عندما يحين موعدها. ما موت الأثمار والبذور والحبوب - في الحقيقة - إلا مبتدأ الحياة الجديدة لتلك النباتات كأزهار وأثمار وخضارات. أليس كذلك؟
- بلى!
- كذلك الإنسان، يميته الله تعالى بعدما أحياه، فيدفنه الناس تحت التراب، ثم يتفسّخ جميع جسده إلا عظم واحد هو بمثابة بذرة للإنسان لا تبلي أبداً، وهو عجب الذنب، كما جاء في حديث الرسول – صلّى الله عليه وسلّم: "...ينزّل الله من السماء ماءً، فينبتون كما ينبت البقل، ليس من الإنسان شيء إلا يبلي إلا عظماً واحداً، وهو عجب الذنب، ومنه يركّب الخلق يوم القيامة"، (البخاري)، وكما قال الله تعالى: (والله أنبتكم من الأرض نباتاً، ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً (نوح: 17-18).
وهنا تدخّلت فاطمة، الأخت الكبيرة الدارسة في كلية الطبّ، وقالت:
وقد تبيّن اليوم بفضل علم الأجنة الحديث أن عجب الذنب هو الشريط الأولي ( Primitive Streak)؛ حيث إن هذا الشريط الأولي هو الذي يتكّون إثر ظهور الجنين بكافة طبقاته، وخاصة الجهاز العصبي، ثم يندثر هذا الشريط، ولا يبقي منه إلا أثر يسمي عظم العصعصي أي: عجب الذنب.
تمتّع عبد الحكيم بما قالت أمّه وأخته كثيراً، وأشبع – ولو قليلاً – روحه المولعة بالمعرفة والعرفان والحكمة، إلا أنه لم يرو غليله بعد، لذلك طلب إلى أمّه ليشربوا شاي الظهر في الحديقة تحت ظلال الأشجار الوارفة، حتّى يتمكّن من طرح السؤال الملحّ في نفسه لجدّه. فرضيت الأمّ باقتراح ابنه. ثم ذهبوا جميعاً يشربون الشاي، ويتجاذبون أطراف الحديث. ولم يمض كثير من الوقت حتى طرح سؤاله المثير على جدّه:
- جدّي، ما الحكمة الكامنتة في كون مراتب الوجود مختلفة؛ حيث هناك عالم الجمادات، وعالم النباتات، وعالم الحيوانات، وعالم الناس. والناس مختلفون غير متساوين أيضاً؛ فبعضهم أغنياء، وبعضهم فقراء، وبعضهم سالمون أصحّاء، وبعضهم مرضى أو معاقون، وبعضهم أقوياء، وبعضهم ضعفاء...الخ. ومن الناس من ينجح في أداء دوره بهذه الحياة الدنيا؛ لأنه يتمتّع ببدن سليم، وقريحة متّقدة، وقابليات كثيرة. ومنهم من يفشل في أداء دوره؛ لأنه ينقصه تلك الأمور المذكورة. أفلا يحقّ للجماد أن يقول: "لم لم أكن حيّاً"، وللنبات أن يقول: "لم لم أكن حيواناً"، وللحيوان أن يقول: "لم لم أكن إنساناً"، وللفقير أن يقول: "لم لم أكن غنيّاً"، وهكذا؟!
بعدما أنهى جدّهم الجرعة الأخيرة من الشاي باشر بالرد على السؤال:
- أريد أن أقصّ عليكم قصّة لعلها تساعدنا في الحصول على الجواب الشافي لهذا السؤال. لا أعرف ما إذا سمعتم من قبل قصة "الخابية المشقوقة"؟ استمعوا إلى هذه القصة اللطيفة لتروا كيف أن النقائص الظاهرية تتحوّل إلى فوائدَ، والأخطار إلى فرص، والمآسي إلى نجاحات إذا أحسن استخدامها.
كان هناك في غابر الزمان غلام لملك، يدعى حِكْمَتْ. بسبب معنى اسمه أم بسبب أمر آخر لا يُعلم، إلا أنه كان ذكياً ونبيهاً جداً، بحيث يحمل الماء على ظهره بخابيتين كبيرتين من بحيرة باردة في منطقتهم إلى قصر الملك كلّ يوم.
لم يكن هناك فرق ظاهر بين الخابيتين، غير أنّ إحداهما كانت سليمة، كاملة، رائعة لا ينقصها شيء، بحيث تقوم بوظيفتها على الوجه المطلوب. أما الخابية الأخرى فكانت مشقوقة من بعض جوانبها، الأمر الذي يؤدّي إلى تسرّب الماء منها شيئاً فشيئاً أثناء الإياب إلى القصر. وبسبب ذلك كان يصل حكمت بالخابية المشقوقة إلى القصر ونصفها فقط مملوء بالماء دون النصف الآخر.
كانت الخابية السليمة تفرح وتفتخر بنفسها؛ لأنها تقوم بوظيفتها على أحسن وجه. أما الخابية المشقوقة فكانت تحزن وتغضب على نفسها؛ لأنها لا تنهض بوظيفتها كاملاً بسبب الشقوق الموجودة في نفسها.
كانت هذه الرحلة رحلة طويلة ومرهقة جداً. ولكن حكمت لم يفتر من عمله، ولم يفته ولو يوم واحد؛ إذ هو شاعر بواجبه، ومفتول الساعدين في الوقت ذاته. فاستطاع بهما أن يحمل الماء بِهاتين الخابيتين من البحيرة إلى القصر سنتين كاملتين تماماً، على أن الخابية السليمة مملوءة تماماً، أما الخابية المشقوقة فنصفاً.
كان يوماً من تلك الأيام، خرج حكمت ليقوم بعمله المعتاد، ولسعات الشمس تضرب بشدّة على ظهره. وما أن وصل إلى جانب البحيرة الباردة حتى ربض على ركبتيه، فقبض بملء يديه من الماء، فشرب حتى شبع. وبعدما مسح عرق جبينه قال متمتماً:
- ما أعذب طعمَ الماء البارد وأحلاه في نهار القيض!
ولكنّ الآن حان موعد عمله. فهبّ من مكانه، وملأ خابيتيه بالماء على حذر. ثم علّقهما من طرفي العصا، فحملهما على كتفيه. ثم استعدّ ليبدأ رحلته الطويلة المعهودة.
وأثناء العودة إلى القصر قرّرت الخابية المشقوقة في نفسها أن تفاتح حكمت في أمر ضعفها هذا؛ لأن الضرر الذي يلحق بحكمت بسببها هي أصبح لا يتحمّل حسب رأيها، لذلك قالت:
- إني أخجل منك وأعتذر يا حكمت!
سأل حكمت مستغرباً قولها:
"لِمَ تخجل منّي؟!
ردَّت الخابية المشقوقة قائلة:
- لأنني أحمل الماء منذ سنتين إلى قصر سيدك، ولكن نصفي فقط مملوءٌ بالماء؛ وذلك لأنه يتسرّب دائماً من جوانبي المشقوقة أثناء الإياب. فهذا يعني أن ضعفي يسبّب لك أن لا تحصل على القيمة الكاملة لعملك المرهق.
انتاب حكمت حزن شديد على إثر قولها، وبعدما فكّر مليّاً قال لها:
- أريد منكِ أن تنظري غداً من حولك، أثناء الرحلة، لتشاهد الأزهار الجميلة.
وفي اليوم التالي، بدأ حكمت رحلته اليومية المعتادة. وهذه المرة، ألقت الخابية المشقوقة نظراتها يمنة ويسرة، فوقعت على كثير من الأزهار البرية الواقعة على الجانب الأيمن من الطريق. فالطبيعة كانت رائعة في ثوبها الربيعي، لذا متّعت عيونها بالنظر إلى الأزهار الأخّاذة المختلفة في الألوان والأشكال، وفرحت قليلاً.
ولكن ما مضى وقت حتى عادت الخابية المشقوقة إلى سابق عهدها من الحزن والأسى، بمجرّد وصولها إلى القصر، حيث تسرّب الماء على عادته من جوانبها المشقوقة، فاعتذرت منه مرّة أخرى.
وهذه المرّة قال حكمت للخابية المشقوقة مسلّياً إياها:
- ألم ترَيِ الأزهار الجميلة طوال الطريق؟
- ألم تلاحظ أن تلك الأزهار كانت في جانبك فقط دون الجانب الآخر من الطريق؛ وذلك لأنني كنت أعرف ضعفك منذ البداية، فوظّفته في عمل صالح، فقمت بزرع آلاف البذور من الأزهار في الأرض التي بجانبك كلّ يوم، وسقيتِها أنتِ بمائكِ أثناء الإياب من البحيرة، وأخيراً أصبحت هذه البذور - بسببكِ أنتِ - أزهاراً تأخذ بالألباب، ثم جمعتُها فوضعتها على طاولة سيّدي. فأنت مصدر هذا الجمال الذي يملأ قصر سيّدي.
استحسن الجميع القصّة، وأعجبوا بها إعجاباً، وحاولوا استخراج معانيها بأنفسهم. وساعدهم في ذلك جدّهم معلّقاً على القصّة:
- هذه قصةٌ اخترعها أحدهم، إلا أنها تنطوي على معان عميقة وهادفة. فإن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، ووهب له نعمة الوجود، النعمة الكبرى على الإطلاق، فجعله مرآة كلية شاملة لأسمائه الحسنى، لتنعكس إليها هذه الأسماء على مستويات مختلفة. ويعرّضه لتحوّلات الحياة وتقلّباتها المتنوّعة طوال حياته، ليبتليه ويظهر له جماله وجلاله في الأحداث والأشياء. فيمرّضه حيناً، ليتعرّف على اسمه "الشافي"، ويجرّعه مرارة الجوع، ليتعرّف على اسمه "الرزاق". فهو سبحانه وتعالى يبتلي الإنسام دائماً بشكره وصبره.
- وبناءً على هذه الحقيقة تركب الأشياء طبقاً عن طبق، وتتعرّض الأحياء لحالات شتى في صور الآلام والمصائب والمشقّات والبليات، فتتجدد بتلك الحالات أنوار الوجود في حياتهم، وتتباعد عنها ظلمات العدم، وإذا بحياتهم تتطهّر وتتصفّى وتترقّي؛ ذلك لأن التوقّف والسكون والعطالة والدعة والرتابة، كل منها عدمٌ في الكيفيات والأحوال. حتى إن أعظم لذة من اللذائذ تتناقص بل تزول في الحالات الرتيبة.
استحضر عبد الحكيم في ذاكرته أيام العطل التي قضاها بعيداً عن أصدقائه، كيف كانت مملّة، فصدّق في نفسه ما قال جدّه.
- إن لكلّ موجود في هذا العالم موقفاً معيّناً بين الموجودات، كما أن له أجراً محدّداً، وكمالاً مقدّراً: تتحرّك العناصر – بإذنٍ وأمر من خالقها – لتؤدي وظائف جليلة حتى ترتقي إلى درجة المعدنيات، كأجر لها في طريقها إلى الكمال؛ وتنشط ذرات المعدنيات قائمة بوظائفها لتصعد إلى مرتبة النباتات الحية؛ وتنطلق ذرات النباتات مؤدّية وظائفها لترتفع إلى مرتبة الحيوانات اللطيفة؛ وتندفع ذرّات النباتات والحيوانات ملبّية أمر ربّها لتحظى بالعروج إلى درجة الحياة الإنسانية. أما ذرات جسم الانسان فتتوزّع في أنحاء مختلفة من بدنه، وتمرّ من خلال مصافّ عديدة لتتنقّى وتتصفّى حتى يرقى أخيراً إلى ألطف مكان، وأعزّ موقع، وأعلى مقام في جسم الإنسان، ألا وهو الدماغ والقلب.
لم يكن قد فكّر عبد الحكيم هذا الموضوع من تلك الزاوية أبداً، فاستحسن تلك الحكمة ونقشها في ذهنه.
- إنه ليس لأي موجود، سواء كان جماداً أو حيّاً، أن يعترض على الله ويشتكي له مستاءً من مرتبته من الوجود وموقفه من الحياة، بل يجب عليه القيام بالشكر والحمد دائماً، أداءً لحق مراتب الوجود التي منحها إياه. لأن جميع مراتب الوجود الممنوحة للموجودات إنما هي هبة من الله تعالى، فلم تصنعها بنفسها، ولم تشترها من أية شركة أو مصنع مقابل أجرة، فهي إذن ملك الله سبحانه وتعالى. ومالك الملك يتصرّف في ملكه كيف يشاء.
وهنا أراد جدّهم أن يدعم ما قاله بمثال محسوس حتى يتبين الموضوع أكثر، فأردف حديثه قائلاً:
- فمثلاً: لا يحقّ للمعادن أن تشكو قائلة: "لِمَ لم نصبح نباتاتٍ؟" بل حقها أن تشكر فاطرها الجليل على ما أنعم عليها من نعمة الوجود كمعادن.
- وكذا النباتات ليس لها حق الشكوى، فليس لها أن تقول: "لِمَ لم نصبح حيواناً؟" بل حقها الشكر للّه الذي وهب لها الوجود والحياة معاً.
- وكذا الحيوانات ليس لها حق الشكوى قائلة: "لِمَ لم نكن إنساناً؟"، بل عليها حق الشكر لما أنعم الله عليها من الوجود، والحياة.. وهكذا.
- أما الناس فليس لهم حقّ الشكوى بأيّ جهة كانت؛ وذلك لأنهم يتمتّعون بمكانة مرموقة بين الموجودات مهما كان حالهم في الحياة؛ إذ لم يبقوا معدومين، ولم يصبحوا جمادات ولا حيوانات، بل لبسوا نعمة الوجود، وذاقوا طعم الحياة، وتربّعوا على عرش المقامات بين الموجودات.
- ترى لو أن رجلاً أُصعد على قمة منارة عالية ذات درجات، وتسلَّم في كل درجة منها هدية ثمينة، ثم وجد نفسه في قمة المنارة.. أَيَحقّ له أن لايشكر صاحب تلك النعم، ويبكي ويتأفّف ويتحسّر قائلاً: "لِمَ لم أقدر على صعود ما هو أعلى من هذه المنارة؟!!" ترى كم يكون سلوكه هذا فظّاً غليظاً لا يليق بكرامة الإنسان، وكم يسقط في هاوية كفران النعمة!
حرّك الجميع رؤوسهم تحريكاً يدلّ على التصديق والموافقة.
وبذلك ختم جدّهم حديثه، فجمعوا الأغراض، ثم ذهبوا إلى البيت. كأن العواصف التي كانت تعصف بذهن عبد الحكيم هدئت بعد هذه المحاورة أو المحاضرة الممتعة. وعندما ذهب إلى غرفته ليقيل (قيلولة) همس في نفسه هكذا: "ينتج مما قال جديّ أن من يقتنعون ويرضون بمرتبتهم من الوجود التي منحها الله إياهم دون أي مقابل، وبموقفهم من الحياة الذي مكّنهم فيه، ويؤدّون دورهم بالأدوات والقابليات التي متّعهم بها، دون أن يلتفتوا إلى قصورهم وعجزهم ومرضهم وفقرهم وضعفهم...الخ، فأولئك هم الفائزون المفلحون حقّاً، وأما من لا يقتنعون ولا يرضون بمرتبتهم وموقفهم، ويفترون عن عملهم وواجبهم تجاه الله سبحانه تعالى وأنفسهم والناس، متذرّعين بذرائع أوهن من بيت العنكبوت من القصور والعجز والمرض والفقر والضعف...الخ، فأولئك هم الخاسرون حقّاً".

