حافة السرير

قاسم الكيلاني

حضن أمين ولده الصغير يحيى بلهفة شديدة ، فندت من عينه دمعتان

 احرقتا قلبه قبل عينيه ، مسحهما بكم ردائه قبل أن يراهما ولده الصغير،ثم طبع على خده قبلة أفرغ فيها شحنة كبيرة من مخزون الحب والشفقة التي امتلأ بها قلبه ا لمثقل بالمر ض، وبالهم على مستقبل أولاد صغار ضعاف كزغب القطا أكبرهم يحيى الذي لم يتجاوز الثانية عشرةعاما ،لم يراوده مثل هذا الشعور المتشائم قبل مرضه الأخيرالذي جعله طريح الفراش ،وإنما هو هاجس عارض يرد على قلب المؤمن في حالة ضعف بشري مايلبث بعدها أن يثوب إلى إيمانه ويقينه، وهو يعلم حق العلم أن المستقبل بيد الله وأنه ليس بيده حول ولا قوة. رفع الولد رأسه فا رتجف قلبه المرهف حين رأى عيني والده غارقتين بالدموع ؛ وهو ينشج بصوت خافت ضعيف .مسح رأس ولده ملاطفا له : لا تخف يا بني فأنا بخير. وأراد ان يقشع غمامة الحزن  التي التفت على قلبه الصغير فأشار بأصبعه الى الجدار

 ( انطر يابني الى الجدار نظر الولد الى الجدار. الوالد : ماذا ترى ؟  الولد : لوحة مكتوب عليها آية قرآنية

- اقرأهايابني . تبسم الولد : إني أحفظها واقرؤها كلما دخلت الى البيت وكلما خرجت . ثم أخذ يقرؤها بصوت ندي جميل : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لايحتسب ) اهتزت قلب والده طربا لهذا الصوت الندي البديع الذي كثيرا ماانعش قلبه غبطة وسرورا وهو يستمع إليه  يراجع أجزاء القرآن التي كان يحفظها في حلقة الشيخ صالح .استمروالده بملاطفته : يابني اجعل هذه الآية في قلبك قبل أن تجري على لسانك، ولتكن رفيقتك في حياتك  تستشعر معناها؛ وتطبق محتواها، فإنها كنزلا يفنى وزاد لاينفد . هز الولد رأسه : حاضر ياأبي . ثم قبل والد ه قبلة حانية شعر أبوسعيد بنشوة غامرة تمنى أن لايفيق منها. ضمه.إلى صدره ضمة مودع أحس بدنو الرحيل. اشتد عليه المرض ؛فنقل إلى المستشفى كان إلى جانبه ولده سعيد ممسكا بيد والده وقد وضع رأسه على حافةالسرير وهو يتلو آيات من القرآن الكريم يرفع رأسه بين الحين والآخرينظر إلى وجه أبيه ويمسح جبينه برقة ولطف : - كيف أصبحت ياأبي . يقتح الوالد عينيه المتعبتين  : الحمد لله بابني . ثم يغلق عينيه وفي صدره حرق من الهم والأسى. مالبث أبوسعيد أن أسلم الروح إلى بارئها وهو في شرخ الشباب   

بكى سعيدبكاء مرا يقطع نياط القلوب، فبكى الحاضرون لبكائه كان منهم الشيخ صالح الذي حز في نفسه أن يرى هذا الولد يتيما وهو لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، لفه الشيخ صالح بين ذراعيه ومسح على رأسه

رأسه حانيا عليه :  لاتبك يابني رحم الله أباك لقدكان أخاعزيزا ورجلا فاضلا. قرر الشيخ في تلك اللحظة أن يتولى  رعايته والاهتمام به كولد من أولاده .

قبل سعيد يده ونشج باكيابكاء طفل تجرع كاس اليتم وهو بعد في ميعة الطفولة  لم يكن لعائلة أبي سعيد من يعيلهم ويتولى الانفاق عليهم مم دفع أمه – مكرهة - أن تخرج يحيى من المدرسة وترجو من الشيخ صالح أن يجد له حرفة يتعلمها ليسد من أجرته جزءا من حاجات العائلة سعى له الشيخ صالح عند أحد النجارين من معارفه الطييبين فاستجاب النجارله طيبة نفسه به وبخاصة لما علم أن الغلام يتيم و أن له اهتماما كبيرا بحفظ القرآن وتجويده فكان يزيد في أجرته بين الحين والآخرلما يرى من جده ونشاطه في العمل  وكان يبهجه ويدخل السرور على نفسه حين يسمعه يردد في الدخول والخروج قوله تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب .كان جالسافي الارحين سمع طرقا على الباب : من الطارق . جاءه

صوت الشيخ صالح : أنا الشيخ صالح ومعي ضيف .فتح  الباب وكان متلهفا مسرورا : أهلابك شيخي وبمن معك .كان مع الشيخ عضو من جمعية رعاية اليتيم كان قد أخبره عن حالة أهله البائسة . تفرس الرجل في وجه سعيد ثم سأله : كم تحفظ من القرآ ن ياسعيد ؟ سعيد :أحفظ عشرة أجزاءقال الرجل مندهشا : ماشاء الله  هل تسمعني شيئامماتحفظ.تنحنح سعيدثم شرع في القراءة: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لايحتسب لايحتسب ..  ظل يقرأحتى قال له الرجل : حسبك .  أعجب به الرجل وشكر له قراءته الجميلة المطربة بصوته العذب الندي ودعاله بخير . أجرت له الجمعية منحة مالية  في كل شهر  خامر يحيى سرور غامر  حين ظهر له بركة الآية التي أوصاه والده بحفظها والعمل بها  ظل يحيى  يتردد على حلقة الشيخ صالح بين المغرب والعشاءوأيام الإجازة وفي نفسه عزم لايفترواصرارلايلين على حفظ القرآ الكريم وفي الوقت نفسه بذل وسعه وطاقته لتعلم حرفة النجارة فحذقها ومهرفيهاحتى أصبح صاحب المحل لايستغني عنه لإتقانه وإخلاصه في العمل وكان بين الحين والآخر يزيد في أجرته  ترغيبا له بالعمل عنده ويعطيه نسبة من المال في كل صفقة يعقدها فظهرت عليه آثار الغنى واليسار وهو بعد لم يتجاوز الثامنة عشر  من عمره وحاز على إعجاب الناس لما رأوا من صدقه وأمانته وإتقانه لصنعته فكانوا يتواصون بالتعامل  معه وكان لايفتر وهو يتقلب بنعم الله الجزيلةعن ترديد الآية القرآنية : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاويرزقه من حيث لايحتسب.) وبز أقرانه في حلقة الشيخ صالح  فحفظ القرآن  أتقنه  وشهد له الشيخ بالسبق والتفوق حتى كان يستعين به أحيانا للإشراف على حلقات تحفيظ القرآ ن . جاءه الشيخ صالح يوما ووجهه يشرق بالبشر والسرور : ( أبشر ياسعيدفقد رشحتك الجمعية لتمثلها في مسابقة القرآن الكريم على مستوى القطر.غلب عليه الفرح فدمعت عيناه سروراوغبطة وأقبل على الشيخ يقبل يده : ( شكرا ياشيخي  على هذه البشر ى التي كنت أن أنتظرها بفارغ الصبر .) دخل المسابقة وكله يقين بأن يحصل على درجة متقدمة حاز على الدرجة الأولى وعلى جائزة مالية كبيرة وعندما تقدم لإلقاء كلمته باعتباره الفائز الأول بدأ كلمته بقوله تعالى : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لايحتسب . ) وتمر الأيام ويتزوج من ابنة النجار الذي كان يعمل عنده ولم يمر عليه زمن طويل حتى عهدله النجار بإدارة المحل لكبره وعجزه عن تصريف أموره فنجح نجاحا باهرا واتسع نطاق عمله ففتح عدة محلات في أماكن مختلفة  اشترى بيتا جديدا وبدأ بنقل اثاث البيت القديم كان أول شيء حمله معه اللوحة القرآنية احتضنها ثم نظر إليها فتمثلت له صورة والده مبتسما وهو يردد : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب .)

قبل اللوحة قبلة حارة أودع فيها كل مكنون الحب والوفاء لوالده رحمه الله تعالى .  

توافد الأهل والأصحاب على دار أم حسين ليعودوها من مرض ألم بها ، وقد عزمت على السفر لإجراء بعض الفحوصات والتحاليل الطبية في مشافي العاصمة .في ليلة سفرها اجتمع خواص أهلها في جلسة لطيفة محببة تخللها مزاح بريء ونكات ظريفة للتسريةعنها وللتخفيف من وطأة المرض عليها  ، كان أخو

زوجهاأبوعبده هو الذين تصدرهذه الجلسة وأدارها بأسلوب ساخر ممتع  كانت ضحكاتهم قوية مدوية  ضحك لها حتى الجيران لما سمعوها وإن لو يعرفوا أسبابها .

في نهاية الجلسة فجر أبو عبده قنبلة من المزاح الثقيل : شدي حيلك أم حسين ترى إذا ظليت مريضة يمكن أبوحسين يتزوج عليك وخاصة إذا تأخرت وطابت لك القعدة بالعاصمة  ) انفجرت أم حسين غاضبة : والله أخوك لو دار الدنيا مايلاقي مثلي يكفي إ ني متحمله عصبيته بعدين أخوك شايب مثل تالي الليل مين تقبل بيه ) أدرك أبوعبده أنه قد جعل من نفسه هدفا لسها م لسانها الجارحة فقال معتذرا : ترى أنا أمزح معاك ماتاخذين الموضوع بجد )أجابته بحدة : هذا الموضوع ماينمزح بيه الزلمة مالو أمان  مايصدق المرة تمرض حتى يتحجج بمرضها ويروح يتزوج . ) سكت أبوعبده على مضض ثم قام هو وزوجته من المجلس واستأذن بالإنصراف .باتت أم حسين بشر ليلة فقد كدر خاطرها كلام ابو عبده وداخلها شك مريب وساءلت نفسها : هل ممكن ابو حسين يتزوج علي لاني مريضة لا لا أبو حسين مايعملها بعد العشرة

الطويلة ) طردت من فكرها شبح الريبة والشك واستسلمت لنوم عميق . نزلت في العاصمة في دار ولدها الكبير حسين الذي كان متزوجا وموظفا في إحدى الدوائر الحكومية  أجرت التحاليل اللازمة وأعطيت العلاج المناسب  فزايلها المرض وتحسنت صحتها وطاب لها المقام في العاصمة وراق لها ماؤها وهواؤها وخلب لبها حدائقها وبساتينها وأسواقها الفخمة الكبيرة فنسيت كل شيءإلا نفسها نسيت بيتها وزوجها وأولادها  ولم تعد تكترث بالمكالمات التلفونية من زوجها وأولادها وهم يطلبون منها أن تعود بل لم تعد ترد عليها مضى عليها في العاصمة مايقرب الشهر شعرت بها كأنها أيام معدودات وهذا شأ ن أيام السعادة والهناءة تمر علينا مرالسحاب لطيفة خفيفة ولم يدر في خلدها وهي ترفل بثياب الصحة والعافية والحبورأن الأيام تخبئ  لها مفاجآت منغصة  ستكدر عليها صفو سرورها وراحتها خر جت كعادتهامع ولدها في يوم إجازته لتروح عن نفسها  ولتملأعينيها من جمال حدائق العاصمة وأسواقها  رن جرس الهاتف نظرت إليه

فرأت رقما غريبا لاتعرفه أغلقته ثم عاود الرنين مرة أخرى ترددت قليلا ثم أجابت : ألو مين يتكلم ، إيش تقول إنت فاعل خير ) تلعثم لساتها ثم احتبس فلم تقدر على الكلام لبرهة من الزمن ثم

صرخت صرخة اقشعرت لها أبدان الجمع من حولها  وداخلهم  خوف مريع شعروا كأن قلوبهم  توشك أن تقفزمن صدورهم سقط الهاتف من يدها وأخذت تولول، وتلطم و جهها بعنف بالغ  وتصرخ بصوت مرتجف مريع : ( هذا جزائي يا خاين العشرة ).  ثم جثت على ركبتيها فكانت تضرب الأرض بيديها تارة وتضرب رأسها تارة أخرى ثم استلقت على الأرض مغشيا عليها تجمع الناس عليها من كل صوب وقد ارتسمت على وجوههم علامات التعجب والاستغراب شق الجمع شاب عشريني انكب عليها وهو يصرخ : أمي شوصار عليك خبريني ) هزها وضرب وجهها برقة ولطف لعلها تفيق . ارتفع من بين الجمع صوت رجل ينادي : (ياجماعة بعدو عنها خلوها تتنفس ) ثم صوت آخر : مين عندو قنينة عطر خلوها تشم العطر وإنشاء الله تفيق .) ردت امرأة عجوز : شمموها بصلة أحسن من العطر  ) ضحك الجميع حين أجابها شاب بنبرة ساخرة: ( الجدة تفكر حالها بسوق الخضرة منين نجيب لها بصلة بهل الوقت) تقدمت فتاة متبرجة لم تترك لونا من ألوان الطيف إلا لطخت به وجهها فتحت حقيبتها وأخرجت زجاجة عطرصغيرةهزتها ثم  رشت على نفسها أولا ثم رشت رشة خفيفة على أنف أم حسين  فحركت رأسها ثم أخذت تئن أنينا  متقطعا ثم أخذت تهذي بصوت مرتفع : ( التلفون شوف التلفون  أبوك ، خبر أبوك ) ذعر الشاب فقد خشي أن يكون حدث مكروه لأحد من أهله رفعهاعن الأ رض على عجل وأجلسها على كرسي بجانب أحد المحلات التجارية فجاءت امرأة من الحضورفوقفت إلى جنبها تخفف عنها وتهدئ من روعها   أخرج هاتفه ثم طلب رقم والده  ليستطلع حقيقة ماروع أمه وأفقدها صوابها قبض على الهاتف بعصبية ويده ترتجف مخافة أن يسمع من أهله مالايسره ارتفع صوته حتى أسمع من حوله : ألو كيف حالك يابا شو صاير عندكم في حدا ميت  أو مريض ) سكت برهة ثم تابع بصوت ينم عن السرور والاطمئنا ن : الحمد لله طمنتونا لكن مبن خبر أمي بخبر سيء كان راح تموت لما سمعته) ارتفع صوت قهقهة عالية من التلفون ثم جاءه صوت أخيه وهو يضحك : مزحنا مع أمك باسم فاعل خيرن وقلنا لها إنو زوجك راح يتزوج عليك عساها تخاف وترجع للبيت .) رد عليه حسين بغلظة : الله يسامحكم كان ماتت من هل المزحة )أغلق الهاتف ثم أسرع نحو أمه ليطمئنها فترتاح نفسها ويهدأ بالها  قامت إليه بقلق بالغ : صحيح يابني أبوك راح يتزوج ) رد عليهابلهجة ساخرة : كانوا يمزحون معاك الزلمة عايف حاله لاجيزة ولا هم يحزنون ) ردت عليه المراة التي إلى جانبها باستهجان : الله يعين أمك  يابني الموضوع ماينمزح بيه الضرة مرة ولوكانت

قحف جرة ، أنا مرة حلمت إنو جوزي متجوز علي  فقت من النو م وأنا أرجف من الحمى) أسرعت الخطا   

إلى بيت ولدها لتحزم حقيبتها وتسافر على أول وسيلة نقل تقلها إلى بيتها الذي أوشك أن ينهار بسبب مزحة .كان باستقبالها في محطة الحافلات ولدها الذي ماأن رأته حتى أخذت تعنفه وتؤنبه على مزاحه الثقيل  الذي أوشك أن يودي بحياتها قبل يدها معتذرا ثم حمل  حقيبتها  وا نطلقا إلى الدار ما أن اقتربت منها حتى شعرت كأن صاعقة نزلت على رآسها فقد هالها أن أنوار العمارة التي تسكنها مضاءة بالأنوار الباهرة وقداهتزت با لزغاريدالتي دوت في أ ذنها  كقصف الرعد والناس يدخلون ويخرجون ترتسم على شفاههم ابتسامات الفرح والسرور فاشتعلت في قلبها نيران الشك مرة أخرى وأ وهمتها نفسها المرتابة بأن زوجها قد تزوج عليها ودليل ذلك هذه الأنوار والزغاريد المدوية بل  أيقنت عندما رأت زوجها على باب العمارة وهويرتدي بدلة أنيقة وهو يسلم على الزائرين ) نظرت إليه بغضب معنفة : أبوك متزوج وتضحكون علي وتقولون إنكم كنتم تمزحون هذا جزاء تربية إلكم ) رد عليها مستغربا : امي الحفلة إللي بالعمارة في بيت أبو خالد  إبنه خالد نجح في الثانوية والناس إجت تبارك له ) أفاقت من صدمتها على صوت زوجها : أهلا بأم حسين أهلا بالغالية صدقت إنو تزوجت عليك ) نظرت إليه نظرة عتاب ثم شعرت بارتياح لذيذ وكأنها كانت تحت تأثير كابوس مرعب.