رائحة في الذاكرة

رائحة في الذاكرة

ماجد رشيد العويد

مشى تظلله سماء رأد الضحى، وعبثاً كان انبساط الشمس فالاكفهرار فاض من الوجه وسال في الطرقات، فجأة تهمد الحياة وتطير الروح ظمأى إلى جسد آخر، أما ذلك ففقد آلية العمل وبعد ساعات سيبـدأ بثّه الكريه لما يحرق الأنوف ويمزق الأبدان الطرية، أزل يوغل في الأبد، وأبد يسرّح استمرار بدئه.

حلب في مركزها تضج بالنشاط، فمن كل فجّ ينبعث البشر، الأصوات تضرب الأصوات، والمال ينده المال، ولأن لا مجال لأن يعبث الموت بالديمومة فقد علت رايات يوم جديد، ومن خلال الكتل البشرية الدابة في الدروب حث خطاه من سائق إلى آخر.

أرقه الرجل المسجى في بيته، وأحاطت به الحيرة فعجز عن التصرف حتى تفتق ذهنه عن فكرة مثالية، ألبسه لباساً أنيقاً ومسح الوجه ببعض الدهون ليعيد إليه شيئاً من النضارة الراحلة، مط قليلاً من شفتيه ليصنع ما يشبه الابتسامة، عندما انتهى أجلسه على كرسي، وانطلق يبحث عن سيارة ينقله بها إلى الرقة.

بعد عناء انتهى إلى سائق قال له:

ـ عندي مريض مصاب بكسور في الساقين وأريد نقله إلى الرقة.

ـ وأين هو؟

ـ في البيت.. تنقله من هناك وأعطيك أجرك مضاعفاً.

ـ حسن، أركب.

دفع للسائق ضعف الأجر، ثبت المصاب بحزام الأمان وأوصى به قائلاً:

ـ إذا سمعته يئن، أعطه حبة من هذه الزجاجة، فإنها تخفف من أنينه وألمه، وحتى لا تتأذى أربطة الجبس، كن حذراً وأنت تقود السيارة.

ـ سأحاول.

انطلقت السيارة باعتدال، وحال خروجها من المدينة قال السائق للمصاب:

ـ سأحكي لك حكاية.. ما رأيك؟

ومع اهتزاز السيارة، كان يهتز رأس المصاب في انحناء متقطع.

ـ حسن سأبدأ.

منذ ستة أشهر، قمت بنقل ميت من الرقة إلى حلب، وكما تعلم فالطريق طويلة نسبياً، المسافة تستغرق ما يقرب من ثلاث ساعات، كان قد مضى على وفاته يومان، وكنا في شهر أيلول، أيامها كنت جالساً في متجر، وجاء الميت، أقصد الرجل الذي صار ميتاً في أقل من دقيقة، كان متعباً. طلبنا إليه أن يجلس ففعل وهو يفرك صدره، أحسست أنه يختنق من الإجهاد، فكررت بدوري الطلب إليه بأن يهدأ ويأخذ أنفاسه، أظن أنه لم يسمعني في المرة الثانية، ذلك أنه سقط على الأرض، وازرقّ وجهه وتقيأ من فمه فتات طعام تناثر على ثيابه، لحظتها استولى علينا الرعب، مهما حدثتك فلن أستطيع وصف تلك الرجفة التي انتابتنا آنذاك، ولا وصف الهلع المتطاير من العيون والمتفزر من مسام الوجوه. التاث الناس الذين تجمهروا يشاهدون سقوط رجل كان حياً قبل ثوان معدودة، المفاجأة غير المتوقعة دفعت بنا إلى ذهول مريع، فماذا نفعل وكيف نتعامل مع ما حدث؟ هذا بالضبط ما كنا نجهله، حتى اخترق صوت أجش صمت ورعب الجميع قائلاً: سأتصل بالمستشفى، وما أن استقرت عبارته في المكان حتى انفجر النسوة بالصراخ والبكاء، ومع اشتداد العويل رحنا نتحرك في كل اتجاه يدفعنا بصيص وعي انسلّ من قلب الدهشة، استدعينا طبيباً أجرى له إسعافات أولية ثم قال: إنه ميت.

توقف يلتقط أنفاسه، ويتابع ببصره اخضرار الأرض على الجانبين، علّق قائلاً: الربيع الآن في زهوه، فتمتع، أخذ ينظر أمامه ويراقب حركة السير وحجم الزحام، سأزيد من السرعة فالطريق خالية، صمت ثانية ليتابع بعد قليل:

ـ لم أتناول طعاماً مدة يومين، هذا من الصدمة، فليس هيناً أن ترى رجلاً يموت أمامك ويغطيه الفتات الذي تقيأه على أثر الاحتشاء، ولا يعود متصلاً بما حوله، أمر رهيب أن يتوارى الإنسان فيصبح خارج الأرض مطروداً من جنانها، باحتشاء يلغيه وجوداً وذكرى، أصعب منه أن يبرق في ذهنك بأنك ستكون في مكانه يوماً ما، ولقد راودني فيما بعد هذا فشغلت نفسي عنه بصغر سني، ونحالة بنيتي، وبإقبال شره على الحياة. بعد يومين استعدت توازني، انتقلت إلى المستشفى أسأل عنه، وعلمت أنه سينقل إلى حلب.. ولما كنت سائقاً وافقت على نقله بسيارتي، وضعته في المقعد الخلفي، جلس إلى جانبي أخوه وانطلقنا.

في الطريق إلى حلب وبعد أن قطعنا أكثر بقليل من نصف المسافة، هبت ريح قاتلة، ربما إلى اليوم لا أستطيع تمييزها ولا وصفها بتقريبها من رائحة أخرى عفنة ونتنة، إنها باختصار رائحة الموت، تصور أنك تدس أنفك في مستنقع ثم تسحب نفساً هائلاً وعميقاً، تصور ذلك وحاول أن تصف لي ما تشم، لا شيء بالطبع سوى عفونة مخمّرة تفجرت من خزين آلاف السنين من وضع الموت خارج القبور، تلك كانت الرائحة المرسلة من الجثة المسجاة في الخلف، نزلنا من السيارة، حاولنا أن نسحب هواء طلقاً يعوضنا قليلاً مما فقدناه من نعمة النسيم الطري اللين، غير أنه كان عبثاً في عبـث، فنحن في أيلول والجو سديمي مغبر، حرت، عدت إلى السيارة مخنوقاً بورطـتي، قلت لمرافقي:

ـ سأفتح النوافذ

قال:

ـ افعل.

قلت:

ـ رغم أن الجو سديمي، إلا أنه سيكون أرحم من رائحة أخيك الميت.

قال:

ـ افعل.

فتحت النوافذ، زدت من سرعة السيارة إلى الحد المفجع، كنت أندفع إلى قرار حزين، أنشد موتاً عاجلاً وخلاصاً سريعاً من هبوب ريح خانقة سامة، منجراً إلى حتف أعيه بقسوة.

توقف برهة، أشعل لفافة تبغ مجها بعصبية، مضت دقائق قبل أن يتابع: لحظتها لعنت شهامتي وإنسانيتي ، كانت الرائحة تتغلغل عبر مسامات وجهي، وعبر فتحاته كلها إلى دماغي، بتّ قاب قوسين أو أدنى من الانهيار، فقدت السيطرة على زمامي، بكيت بكاء مراً، ولجلجت في الحيز الضيق حتى كدت أقفز من السيارة، لقد نفر دماغي من ضغط الرائحة، ولما كان بقي ما يقرب من خمسين كيلومتراً فقد اتخذت والاقياء يدفعه الغثيان إلى حنجرتي، قراراً بالتوقف وإنزال الميت. توقفت وقلت للحي الذي بجانبي:

ـ انزل مع أخيك الميت فلم أعد أطيق رائحته ولا رائحتك أنت أيضاً.

وقال لي راجياً متوسلاً

ـ إلى من تتركنا في هذا الوقت من الظهيرة؟ قلت له:

ـ إكرام الميت دفنه، اذهب إلى هناك وادفنه.

ـ وكيف أدفنه بعيداً عن أهله؟ أكمل جميلك وسيكرمك الله.

تحت ضغط توسلاته خضعت، ركبت السيارة، وزدت من سرعتها، النوافذ مشرعة والجو السديمي يملأ المكان.

توقف السائق يغالب حالة من الغثيان، ممرراً إحدى يديه على كامل وجهه، مدّ بصره خـارج الزجاج ليرى بسوق الخضرة، عاوده هدوءه، نظر عبر المرآة إلى رفيق سفره وقـال:

ـ لابد أنك تسمعني أيها الرجل الطيب، لا بأس عليك سنصل الرقة بعد قليل، ومع اهتزاز السيارة يهتز رأس الراكب فيبتسم السائق ويقول لعن الله المرض، ما أصعب أن يصاب المرء بكسور في الساقين، أنت حتى لا تستطيع الكلام، لا تجهد نفسك سأتابع الحكاية، وأسليك إلى أن نصل ، وأكتفي منك بهز رأسك، وبإمكانك أن تستمتع بالنسائم الجميلة فنيسان معبّأ بـها.

ـ تابعنا إلى حلب يخترقنا العفن، وأصابني صداع قوي ما لبث أن انتقل عبر سطح رأسي إلى الجبين ثم تمركز بين العينين، وكلما قررت أن أرمي بالميت يتوسلني أخوه، هكذا حتى وصلنا مشارف حلب وبدا الجو صحواً، عند مدخل المدينة نزلت واستلقيت على الرصيف أئن من الرائحة والصداع دون أن أحس بلسع الحر، بعدها أقسمت ألا أنقل ميتاً ولو كان مدثّراً بالثلج.

صمت السائق، أشعل لفافة ثانية وراح ينقل بصره بين المرآة المثبتة أمامه، وبين الطريق الذي يمتد وسط الخضرة القائمة على الجانبين.

ـ نحن نقترب من الرقة، لا ريب اشتقت إلى أهلك، ولا شك أنهم في أمس الحاجة للاطمئنان عليك، ما أتمناه هو ألا يكون التيار الكهربائي منقطعاً، سترى عندها من فوق الجسر جمال الفرات وستنعشك مياهه.. هاهو قد لاح، فلم تغمض عينيك؟ افتحهما وتمتع، لا تستسلم لإصابتك فتقتلك.

استسلم السائق للصمت، ثم راح يغني وينقر بأصابعه على المقود ويهز رأسه طرباً، بينما السيارة تدخل المدينة.

ـ هل أذهب باتجاه اليمين؟

ومن خلال المرآة المثبتة أمامه رأى هزة رأسه فتابع باتجاه اليمين وهو يقول:

ـ لا عليك، لا عليك.

ظلت السيارة باستقامة تقطع الطريق المؤدي إلى خارج المدينة جهة الشرق، وهنا تنبه السائق إلى أنه بدأ يغادر العمار، فأوقف سيارته والتفت إلى الوراء قائلاً:

ـ إلى أين نذهب يا أخي؟

لم يرد، ولم يهتز رأسه الذي مال إلى صدره، كرر السائق سؤاله دون جدوى، فتخللته قشعريرة، اقترب من الراكب يجس بيده وجهه، حاول أن يعطيه دواءه، لم يستجب له، وأحس برودة تنتقل إليه من الراكب الهامد، فقال مرتعداً: لابد أنه مريض، أو أن حكايتي أثرت فيه فقتلته، وتذكر السائق الميت السابق وحر أيلول وشهامته الملعونة والرائحة النفاذة التي لا يزال يستعيدها بذاكرته، فأطلق صوتاً مملوءاً بالصراخ، ولاذ بالفرار في اللحظة ذاتها التي قام خلالها أحد المارة بسحب ورقة من جيب الراكب صاحب أربطة الجبس، كانت عبارة عن شهادة وفاة له، وإلى جانبها ورقة أخرى كتب عليها عنوان داره.  

الرقـة      1997