رجل الثلج و رجال النور
رجل الثلج و رجال النور[1]
ياوز آجار /تركيا
إن الأردن من البلاد التي لا ينزل الثلج فيها إلا نادراً وقليلاً.
فيوماً من الأيام، ظهرت بوادر نزول الثلج في أجواء الأردن، وما مضى وقت حتى بدأ يتساقط على المناطق الجبلية، إلى أن وصل إلى القرى النائية والمراكز المدنية، لتمتلئ شوارع عمان وأزقّتها بالثلوج البيضاء، والمياه الجارية، مما أدّى إلى تعطّل السيارات، وانسداد الطرق.
وخلال ساعتين، غطّى الثلج الأرض تماماً، وكان الطقس بارداً، إلا أن القلوب كانت تنبض بالفرح والطرب، والأنفاس ترتعش بالدفء، والعيون تتمتّع بالنظر إلى جمال الطبيعة المرتدية ثيابها الخلابة.
ولا يذهبنّ بكم الظنّ إلى أنّ هذا الجوّ قد أزعج الناس. لا شكّ أنه بدت على ملامحهم آثار الحيرة والقلق والتوتّر؛ إذ ليس للأردنيين خبرة كافية في التعامل مع الثلج، ولكنّ ذلك لم يستطع أن يخفي سرورهم الفائضة من عيونهم الملتمعة.
إنه كان مشهداً رائعاً جديراً بالمشاهدة: لقد غطّت حبّات الثلج الكروية سطح الأرض، وكأنّ الله تعالى خلع ثياب الطبيعة البنّية، فكساها ثياباً بيضاء، فتحولت إلى مشهد رائع تمثّلت فيه بدائع الصّنعة لله – سبحانه وتعالى - من ناحية، ومن ناحية أخرى، كأنها صارت آية موحية من صحيفة الشتاء لكتاب الكون، تنطق بلسان حالها، فتشعر بالإنسان بزوال كلّ شيء وفناءه، وبقاء مالك كل شيء فقط.
ونحن بدورنا كطلاّب أتراك يدرسون في الأردن، أردنا أن ننطلق إلى الخارج، غير أنّه لم يجرؤ لهذا أحد منّا في بداية الأمر إلاّ علي ومحمد. ولما شاهدنا فرحهما وخوضهما في اللعب بالثلج، التحقنا نحن بهم أيضاً. ولم يمض وقت حتى أخذ يجتمع حولنا أطفال حارتنا وشبابها.
طرح صديقنا سَدَاتْ علينا فكرة صنع رجل ثلج، لنبرز لهم مهارتنا، وليؤدي ذلك إلى تقوية المحبّة والصّداقة بيننا. فاتّفقنا على ذلك مع الشباب، ثم توزّع الجميع لجلب قطع الثلج. وأخيراً أصبحت هناك قطع كبيرة من الثلج، مما يكفي لتكوين رجل ثلج. كانت قطع الثلج المجموعة مستديرة وثقيلة في الوقت ذاته، بحيث لا يقدر الإنسان على حملها بوحده، فلذلك تعاونّا فيما بيننا، ووضعنا قطع الثلج فوق بعضها البعض. وكانت أيدينا وشفاهنا ترتجف، وأسناننا تصطكّ من البرد.
وبعد حين، شرع علي وأحمد ينحتان قطع الثلج وينظّمانها وكأنهما نحّاتان ماهران، فيقصّان من طرفها، ويضيفان في طرفها الآخر، حتى تحوّلت إلى شكل رجل ثلج سويّ. ومن شدّة استواءه وتنظيمه، بدا وكأنه رجل حقيقي؛ وذلك لأنه كان له أنف من الجزر، وأذنان من الحجر، وعينان من الفحم. فضلاً عن ذلك، فإننا أحضرنا من البيت جبةً وطربوشاً، فألبسناهما رجل الثلج، ثم زرعنا في صدره أزراراً من الفحم أيضاً، ليصبح كأي إنسان عادي متكامل الجسم والأعضاء.
أخذ رجل الثلج بألباب الأطفال والشباب، حيث أعجبوا به إعجاباً شديداً، حتى الكبار كانوا يتفرّجون عليه من شبابيك بيوتهم معبّرين لنا عن إعجابهم وتقديرهم. ولم يكتفوا بهذا القدر من الإقبال عليه، بل خرج بعضهم من بيوتهم مع أطفالهم الصغار وفي أيديهم آلات التصوير والفديو، ثم اقتربوا منه للتصوير أمامه، فالتقطوا صوراً، تخليداً لتلك الذكرى. ثم تفرّقوا إلى بيوتهم وهم وأطفالهم مسرورون جداً. وبعد ذلك، التقط صديقنا محمد صورنا أيضاً، وبذلك تمّ المشهد.
استغرب صديقنا عبد الله أكثر منا إعجاب العائلات والشباب وانبهارهم برجل الثلج إلى هذه الدرجة. يبدو أن الأردنيين لم يسبق لهم أن رأوْا رجل ثلج على تلك الطريقة؛ الطريقة التركية!
ولما لاحظ عبد الله اهتمام الشباب والأطفال به، أراد أن ينتهز هذه الفرصة الذهبيّة. فلذلك دعا أحد الشباب الذي يدعى صالحاً إلى جنبه، فطرح عليه هذا السؤال – وقد شدّ انتباه الشباب الآخرين أيضاً -:
- ما هذا يا صالح؟ - مشيراً بيده إلى رجل الثلج -.
فردّ صالح مبتسماً دون أن يعرف أن عبد الله سيجعل من هذا السؤال سلّماً للارتقاء به إلى موضوع:
- فما رأيك؟! إنه رجل الثلج بالطبع!
واستمرّ عبد الله قائلاً:
- أرأيت يا صالح، – وقد سدّد نظره إلى عينيه - لو قال لك أحد: "إن هذا الرجل الثلجي قد تكوّن بنفسه صدفة واتّفاقاً، أي: باجتماع قطع الثلج المتناثرة المبعثرة في أماكن مختلفة، أو أنه تشكّل بنفسه بلا صانع ولا فاعل؛ قطعة جاءت من هنا، وأخرى من هناك، وهكذا... فتجمّعت هذه القطع في هذا المكان المحدّد، واتّفقت على أن يأخذ كلٌّ منها مكانه المناسب في جسم رجل الثلج، وأخيراً أخذت هذا الشكل" أفتصدقه؟
عندما كان ينتظر منه الجواب، كان يجيل نظراته في الوقت نفسه بوجوه الشباب. فأجاب صالح بحزم، ومِنْ فِيهِ يخرج البخار من البرد:
- كلاّ، لا يمكن تصديق ذلك؛ لأن قطع الثلج جمادات، ليس لها عقول لتفكّر بها، فتقوم بفعل شيء، فضلاً عن أن تصنع شيئاً كهذا.
تدخّل شابّ من الأتراك يدعى ممدوحاً ليوجّه الحوار إلى جهة معيّنة مقصودة، فقال:
- نحن نادراً ما نتّفق على فعل شيء بسيط كلعبة كرة القدم، ونحن أصحاب عقل وشعور وإدراك، فكيف تجتمع الأسباب الجامدة وتتّفق - قطع الثلج المنتشرة هنا وهناك - على صنع رجل ثلج ساحر كهذا، وليست لها عقل ولا إدراك.
وبعد هذه الملاحظة اللطيفة من ممدوح، سيطر عبد الله على الموقف من جديد، فأردف حديثه قائلاً:
- أنتم قد تتّفقون على فعل شيء؛ لأنكم تعرفون بعضكم بعضاً، أما قطع الثلج المتنافر والمتباعد بعضها عن البعض الآخر، فهل بينها تعارف وعلاقة ودية، أو لها خيوط غير مرئية مع الأخرى لتتصل بها من خلالها، وتتصوّر بهذه الصورة الرائعة؟!
- أيّها الأصدقاء، كما لا يمكن أن يتصوّر تكوّن رجل ثلج بسيط جامد بلا صانع ولا فاعل؛ كذلك كلّ شيء في هذا الكون، ابتداءً من الجمادات وانتهاءً إلى الأحياء، يشبه هذا الرجل الثلجي، فلا يمكن اعتقاد وجود شيء بلا صانع ولا خالق.
كان الشباب ينظرون إلى وجه عبد الله بنظرات متسائلة، فلاحظ من الدلالة المرسومة على وجوههم أنهم لم يدركوا الموضوع حقّ الإدراك، فلهذا أشبع حديثه بمثال موضّح قائلاً:
- إنّ التمثيل – وما أكثر استخدامه في القرآن الكريم - يجسّد الحقائق المجرّدة، فيجعلها حقائق ملموسة، بحيث تستطيع الأفهام المختلفة المستويات استيعابها بسهولة، فلذلك أريد أن أضرب مثالاً: إن لكل كائن في هذا العالم علاقاتٍ وروابطَ مع عناصر العالم الأخرى وأجزاءه، بحيث كأن كلّ شيء منه، سواء كان حياً أو جماداً مثال مصغّر وفهرستة شاملة لجميع الكائنات الموجودة. لننظر إلى الإنسان مثلاً: إن كلّ ما هو موجود في الإنسان، فهو موجود في العالم بمقاييس كبيرة؛ وما هو موجود في العالم فهو موجود في الإنسان بمقاييس صغيرة، فكأنّ الإنسان عالم مصغّر، والعالم إنسان مكبّر. إذ هناك تشابه كبير جداً بين عناصر الإنسان وعناصر الكون؛ فللأرض عيون وينابيع وأنهار تمنح حياة - بإذن ربّها - لنفسها ولمن يعيش فيها وعليها من الأحياء والجمادات؛ وللإنسان دم تجري في عروقه كماء باعث على الحياة، وسوائل مختلفة كثيرة جداً بحيث تساوي نسبتها في جسمه %70، – سبعين بالمئة -؛ وكذا للأرض أحجار وصخور وجبال تقوم بموازنة الأرض كأوتاد الخيمة؛ وللإنسان عظام متنوّعة تمنعه من الانهدام؛ وكذا للأرض تراب وأعشاب وأشجار ونباتات مختلفة تضفي عليها زينة وبهجة؛ وللإنسان جلد وشعرات كثيرة من رأسه إلى أخمص قدميه تمنح له جمالاً، وتستر على عوراته وتواري سوءاته في الوقت ذاته، وهكذا... فالبنية المادية للإنسان أي: التركيبة البايولوجية له تتألّف من تلك الأجزاء والعناصر المختلفة المنتشرة في جميع أنحاء الكون بنسب متفاوتة، وهذه العناصر هي: الأوكسجين، والكربون، والهيدروجين، والآزوت، والمغنيسيوم، والصوديوم، والبوتاسيوم، والكلسيوم، والفوسفور، والكلور، والكبريت، والحديد، والنحاس والرصاص...الخ، فمن بيده جميع تلك العناصر هو الذي وحده يملك زمام كلّ شيء؛ ومن ذا الذي خلق مزرعة الكون هذه، فهو الذي زرع فيها تلك العناصر، ومن يملكها فهو الذي خلق الإنسان وما في جسمه من تلك العناصر. فكل جزء وعنصر له علاقات كثيرة، وروابط عديدة مع صاحبه وأخيه من الأجزاء والعناصر الأخرى بحيث يبدو العالم كأنه شيء واحد، ويحكمه نظام واحد.
- وقد أحسّ بعض العلماء بالوحدة المتكاملة لهذا العالم، فطوّروا نظرية دعوْها "نظرية كلّ شيء"، تحاول تفسير جميع الظواهر الفيزيائية بشكل كامل بربطها مع كلّ شيء. وإن دلّت هذه على شيء فإنها تدلّ على التوحيد، أي أحدية اليد العاملة في هذا الكون الشاسع.
- إذن فمن هو قادر على خلق جزء، فهو قادر على خلق كل أيضاً. ومن يعجز عن خلق شيء جزئي - كتفاح مثلاً - فليس له أن يدّعي حقّ التملّك لأيّ شيء.
وعندما وصل الحديث إلى هنا، أراد عبد الله أن يختم كلامه بخلاصة لكي تحفظها أذهان الشباب بعد هذا التفصيل، وكان تشوّقهم إلى سماع حديثه بادياً على وجوههم.
- وما أبله هذا الذي يتوهّم أنّ ذلك الكون هو نتاج "عناصر الكون الكلية" وهي جامدة عمياء صمّاء، أو هو من "خصائص طبائع الموادّ"، أو من عمل "الأسباب المادية"؛ وذلك لأن العناصر الموجودة في الكون والإنسان، لا توجد فيهما على درجة واحدة؛ وإنما توجد بعضها بوفرة (كالأوكسجين والهيدروجين)، وبعضها بدرجة أقلّ (كالمغنيسيوم والصوديوم)، وبعضها بمقدار ضئيل (كالنحاس والرصاص الخالصين). ولكي تظفر الأشياء والأحياء بالوجود لا بدّ أن يكون كلّ عنصر من تلك العناصر موجوداً فيها بمقادير وموازين حساسة ودقيقة جداً بحيث أنها تفقد خاصياتها، أو لا تظفر بالوجود أصلاً لو صار هناك خطأ في الحساب بالزيادة أو النقصان، ولو بمقدار ذرة واحدة.
- فكما لا يمكن تكوّن رجل ثلج انتشرت قطعه وأجزاءه في أماكن متفاوتة ومتباعدة بدون صانع نحّات ماهر منظّم؛ فكذلك لا يمكن تكوّن الأشياء والأحياء من العناصر الجامدة التي توزّعت أفرادها في جميع أنحاء الكون متفاوتة ومتباعدة، وبنسب مختلفة، بدون عليم، مريد، قدير، مقدّر، مبدع، بارئ، خالق، مصوّر.. وعلى وجه الخصوص ذلك الحيّ الرائع: الإنسان الذي خلقه رب العالمين في أحسن تقويم! ولم يزوّده بالهيكل المادي الرائع فحسب، - الذي يركع أمامه الماديّون دون خالقه - وإنما زوّده بروح من روحه، وبالقلب والعقل والحسّ، وباللطائف الأخرى أيضاً.
- ولو لم يسند خلق هذا الكون وعناصره إلى الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، لتمخّض عن محالات كثيرة جداً. لنكتف بذكر أحد منها فقط، وهو: إن لم يسند أمر الخلق إلى الله – سبحانه وتعالى - فلا بدّ أن يكون لكلّ عنصر، فرداً فرداً، علم محيط، وإرادة كلية، وقدرة لا نهائية حتى يسخّر العناصر الأخرى لأمره فتُجمعها – مثلاً – في جسم الإنسان. وهذا يقتضي أن يكون كلّ عنصر، فرداً فرداً، آمراً ومأموراً، حاكماً ومحكوماً، غالباً ومغلوباً في الوقت ذاته وعلى وجه الإطلاق؛ وذلك لأن كلّ عنصر تحت عنصر آخر من جهة، وفوقه من جهة أخرى، لا يستغني ولا يستقلّ أيّ منها عن صاحبه. وهذا بيّن استحالته؛ لأن الآمر ضدّ المأمور، والحاكم ضدّ المحكوم...الخ، ولا تجتمع الأضداد.
- ينتج من ذلك أن الطبيعيين والمادّيين الذين يظنّون أنفسهم أنهم ينكرون بوجود الخالق، في الحقيقة، ما أمرهم إلا أنهم يسلبون الصفات الإلهية من الله سبحانه وتعالى ويضفونها على عناصر الطبيعة، فيضطرّون إلى قبول آلهة بعدد العناصر بدلاً من إله واحد. فسبحان الله الذي قال:
﴿ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله؛ إذن لذهب كلّ إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض، سبحان الله عما يصفون﴾ (المؤمنون: 91).
﴿لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فسبحان الله ربّ العرش عما يصفون﴾ (الأنبياء: 22)
لقد تأثّر الشباب إلى حدّ بعيد بالأمثلة التي ضربها لهم عبد الله؛ وذلك لأنّه لم يسبق لهم أن سمعوا أحداً يستخدم مثل هذه التمثيلات الموضّحة، مما جعلهم يستوعبون بسهولةٍ المسائلَ الدقيقة التي يستعصي فهمها على الأذهان الصغيرة. ولهذا شكروا لعبد الله. ولأنهم جمدوا من البرد، بدأوا يتفرّقون إلى بيوتهم واحداً تلو واحد، وعلى وجوههم بسمة ذات دلالة، وفي عيونهم سعادة غامضة.
عبد الله وأصدقاؤه الأتراك ذهبوا إلى بيتهم أيضاً، وكانوا ينظرون من النافذة المثلجة إلى رجل الثلج والناس من حوله، حيث ما زال سكّان الحارة يختلفون إليه، وكان المارّون بسيّاراتهم يوقّفونها، ويلتقطون صوراً مع أطفالهم، حتى سمعوا أن أحدهم قال: "اتّصلوا بالتلفزيون الأردني، حتي يأتي ويصوّر هذا الرجل الثلجي". ولكنّهم لم يفعلوا ذلك.
وبعد يومين، بدأ الثلج يذوب ويزول؛ حيث ارتفعت الشمس في كبد السماء، وكانت ترسل أشعّتها بسخاء، الأمر الذي أدّى إلى ذوبان رجل الثلج رويداً رويداً. وقد رآى عبد الله صالحاً وأيمن يلعبان أمامه، وينظران إليه، فنزل إلى الأسفل، حيث أراد أن يشارك معهما في درس آخر من صحيفة الشتاء، فقال بعد إلقاء السلام عليهما:
- انظرا إلى رجل الثلج! قد أخذ بالذوبان، وكأنه يقول بلسان حاله: "كما ترون أيها الناس، أنّي أذوب تحت شدة حرارة الشمس، وما بي من حيلة، وسأذوب وأزول تماماً بعد بضع ساعات. كذلك سوف تذوب حياتكم، وسترحلون من هذه الدنيا الفانية إلى الدار الآخرة الباقية، وما بكم من حيلة، إذاً استعدّوا لهذه الدار بالأعمال الصالحة".
واصل عبد الله حديثه قائلاً:
- كما أنّ الشمس تذيب رجل الثلج، كذلك الزمان كلّما مرّ علينا يأخذ منّا شيئاً، ويذهب به، دون رجعة، ورغم أنفنا. وكأنّ اللّيل والنّهار بمثابة طرفي المقصّ؛ يرفعان وينزلان، فيقصّان من أيامنا المحكومة عليها بالزوال. أو الإنسان كشجرة لها جذران، واللّيل كالفأرة السوداء، والنّهار كالفأرة البيضاء تقضمان هذين الجذرين بأسنانهما الحادّة. لا شكّ في أنّنا فانون وزائلون، ألا تسمعان صوت رجل الثلج كأنه يقرأ لنا سورة (العصر) ويفسّرها عملياً: ﴿والعصر، إنّ الإنسان لفي خسر، إلاّ اللّذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحقّ، وتواصوا بالصبر﴾.
وبعدما تنفّس عبد الله قليلاً، تابع حديثه هكذا:
- لا ريب في أنّ ثروتنا – وهي عمرنا - سوف تذهب وتخرج من أيدينا لا محالة، كهذا الرجل الثلجي، إذن لا بدّ أن نبحث عن شيء ننجي به ثروتنا من الزوال والضياع، وهذا لا يتحقّق إلاّ بالعبودية لله تعالى، ونذر العمر في سبيل دينه ونشره؛ وذلك لأنّ الله تعالى باق وأبدي، ومن آمن بالباقي وأطاعه، وعاش من أجله في الدنيا، مؤتمرين بأوامره، ومنتهين عن نواهيه، فسوف يكون هو بالتالي باقياً وأبدياًّ؛ حيث أعدّ الله تعالى للمؤمنين جنّة في الدار الآخرة، وسينعمون فيها بالنعم الأبديّة، فضلاً عن أنّهم سيحظون بلذّة مشاهدة جمال الله سبحانه وتعالى. ومن لم يؤمن به، ولم يقم بالأعمال الصالحة، فكما أنّه سيخسر ثروته الفانية في جنّة الدنيا الزائفة، كذلك سيخسر ثروة أبديّة كالحياة الباقية، وجائزة خالدة كالجنّة في الدّار الآخرة.
إنّ صالحاً وأيمن أدركا بعقلهما وآمنا بقلبهما بكلّ ما قاله عبد الله، ولكن كان هناك شيء – وقد بدأ يشكّ فيه - يشغل بال صالح، وباح به بعدما تنفّس بعمق، حيث قال:
- إنّا سمعنا أنّ الأتراك قد ابتعدوا عن الدّين، وأقصوا الإسلام عن حياتهم، ودولتهم دولة علمانية، و...و...الخ، ولكن.. أنتم؟!
فهم عبد الله ما يرمي إليه صالح بكلامه هذا، ولكنّه استنكف أن يردّ على سؤاله، فقام مقامه أيمن الذي له معرفة سابقة منذ سنين بأولئك الشباب من الأتراك، ثم قال مشيراً بيده إلى رجل الثلج، ومبتسماً على وجه صالح المشرق:
- صالح! هذا رجل الثلج، وهؤلاء رجال النور!!
[1] - قصة حقيقية وقعت أحداثها في الأردن عام 2001.