انتقام

انتقام

قصة: سهيل أبو زهير *

[email protected]

     باتت العيون غزيرة بالدموع ، وكلما تحركت يميناً أو يساراً انبعث منها لمعان غريب .

لم يكن بكر الصغير يرى هذا اللمعان حزناً على أبيه الشهيد … أحسن أن تلك العيون التي تجمعت في حيهم بعد سماعه خبر اغتيال أبيه جاءت تهنئه .

      دخل على أمه … كانت قد أغمي عليها والنساء يحطن بها من كل جانب … كل واحدة على جانبي الصف تحاول أن تمسك بيده لتواسيه وهو في طريقه إليها ، لكنه كان يتفلت منهن مندفعاً نحوها … أسقط جسده عليها وراح يجتهد في إيقاظها .

-         إنها تنام في يوم فرح! . هكذا كان يتمتم ، ثم شرع يمسح بيده على وجهها الشاحب.

     إحداهن همست في أذن صاحبتها:

     فهْمه كبير … يفهم كل شيء … انظري … انظري إليه … إنه لا يبكي .

     وبعد أن فشل في إيقاظها … وقف منتفضاً … دفع صدره إلى الأمام … رفع رأسه إلى أعلى مسدلاً ذراعيه على جانبيه وصرخ صرخة أوقف بها كل النساء إلا هي :

-         ماذا جرى لها؟! … هل تسبب أحد في حرق السكر عندها؟ … الطبيب قال يجب أن لا تغضب فمن أغضبها؟ .

     أمسكت المرأة القريبة بذراعه وراحت تحاول تهدئته:

-         بكر يا حبيبي ، أمك نائمة فقط …  … تعال معي .

     استدار معها … تقدما خطوة … خطوتين … سمع أنينها … توقف … أصغى ليتأكد … تلفت إليها … كانت ترقبه بعينيها … تسمر مكانه وراح في تفكير عميق:

-         عيناك لا تلمعان كما العيون …هل هما نائمتان حقاً؟ .

     وضع كفه على فمه … تعجلت المرأة رجوعه إليها فدفعته نحوها … رآها تفتح ذراعيها بعد أن أسندتها النسوة إلى الحائط القريب… أقبل ببطء شديد أخذت تستحثه بأناملها ، وابتسامة عريضة مصطنعة على شفتيها الذابلتين … أقبل إليها … تقدم أكثر، وما إن وصل إليها حتى جثا على ركبتيه … نظر في عينيها طويلاً … مسحهما بإبهاميه … رفعهما إلى عينيه … كانتا جافتين.

     تذكرت زوجها حين مسح دموعها بإبهاميه يوم استشهاد ابنهما الآخر "عمر" في ساحة المسجد قبل خمسة أشهر ، فسالت الدموع من عينيها ؟

     تجلد بكر … خاطبها بصوت فيه نبرة الرجال :

-         الآن تبكين؟ … لماذا الدموع؟ … لقد أخبروني أنه لم يغضبك أحد … كدت أحضر لك الطبيب لولا أني سمعتك تهمسين باسمي.

-         لا … لا يا حبيبي … لا أريد طبيباً . قالتها وراحت تمسح دموعها ، ثم ضمته إلى صدرها.

     شخص ببصره أسفل جيدها … جال بعينيه في ثنايا عينيها

-    تحسبينني صغيراً يا أماه … لقد علمتُ أن أبي شهيد … أقسم أنك تغارين عليه من الحور العين … كلكن مخادعات …لا زالت الغيرة تأكل عقلك … اطمئني … أما أنا فلن أحرق قلب إحداكن.

-         تململ بين ذراعيها … نهض سريعاً … ألحقت به يديها ، لكنه تفلت منها … ألحقت به عينيها ترقبانه حتى غاب.

     أخذ يطوف حول بيتهم … ضرب رأسه بسقف القرميد:

-         ملعونة يا وكالة الغوث.  قال ذلك في نفسه ووضع كفه على رأسه يتحسسه .

     أسرع الخطى حتى وصل مشارف مدينته … نظر إلى أعلى فلم يجد الشمس … أطرق إلى الأرض … تذكر أنه يقف بين جبلين .

     أشاح بوجهه نحو خيط رفيع أبيض من العربات يسير منحدراً عن أحد الجبلين يظهر مرة ويختفي أخرى فلا يراه … يعود ببصره إلى البداية ليرقبه.

أقبلت خالته عليه معاتبة:

-         أنت هنا؟

     التفت إليها سريعاً ، وقد كادت الشمس تغيب … قام مسرعاً … أسند رأسه إلى كتفها ، وأجهش بالبكاء.

     نظرت خالته وفاجأها بكاؤه … أحس باستغرابها، فاستدار ليخفي عينيه عنها:

-         لقد قتل أبي يا خالتي … قتل أبي … كيف سآخذ بثأره؟ … كيف أصل لقاتله وقد أغلقوا الدنيا أمامي … العار يلاحقني يا خالتي.

-          ما زلت صغيراً يا حبيبي.

-          الثأر لا يتركني صغيراً.

-          غداً تكبر وتحمل السلاح كما يفعل الرجال … الآن هيا تعال معي … تعال .

     أمسكت بيده … سار معها متباطئاً … خشيت عليه أن يعاود الهروب مرة أخرى ، فهمست في أذنه:

-         أخشى أن تجتاز المنطقة (أ).

فجأة توقف بكر … ضرب جبهته بكفه ونظر بين الجبلين … عاد بناظريه إلى طريق العودة ثم أطرق إلى الأرض وهو يقول :

-         أ،ب،ج،د  …. أ،ب،ج،د … أ،ب،ج،د  ….

     بلغا منزله … كان الوقت متأخراً وكان بكر مرهقاً … ألقى جسده على فراشه وراح يغط في نومه.

انقضت الأيام الثلاثة بين مهنئ ومعزٍّ … كان الجميع يشدون على يديه، ويحثونه أن يحتمل كالرجال.

     في اليوم الرابع توجه إلى مدرسته في الرئة الأخرى من الوطن … بادره الجميع بالتعزية والسلامة من السفر .

سأله المدرس عن مكان سكناه ، قال:

-         في (أ) .

     ضحك الطلاب جميعاً … ظن بكر أنهم يسخرون منه فانتفض من مقعده وأخذ طريقه نحو الباب باكياً … أسرع المدرس خلفه… ناداه … توقف بكر وظل ينظر إلى الجهة الأخرى .

     وصل المعلم إليه … وقف أمامه ممسكاً بذراعيه وراح يهزه برفق:

-         لا تغضب يا بكر … إنهم يمازحونك …فقط هم لم يفهموك. أطرق قليلاً ثم قال : ولا أنا.

     تعجب بكر من قول معلمه ، ونظر إليه نظرة استغراب فقال :

-         وما (أ) يا بكر؟

-         هكذا سمُّوها.

     تبسم المعلم مستذكراً معلوماته القديمة ، فربت على كتفه :

-         لكن (أ) آمنة يا بكر ، إذاً فأبوك قتلته خفافيش الظلام !

     حينها تذكر بكر أنه يوم اغتيال أبيه شاهد رجلاً غريباً يقف على رأس شارعهم الضيق … تفلت من معلمه وراح يعدو حتى غاب عن ناظريه.

     في الصباح سمعوا بعرس جديد لشهيد جديد … قالوا : إن مجموعة عدوة كانت متربصة على أول الطريق هي التي اقتنصته… 

         

* كاتب وشاعر من فلسطين