غالية والحذاء الرياضي

زبيدة هرماس

كان جناح المستعجلات بمستشفى الرحمة أشبه بسوق شعبي، يخترقه الممرضون والأطباء بلباسهم الأبيض والأخضر على زعيق سيارات الإسعاف الذي لم يتوقف، جروح ودماء في كل مكان، كأن الجميع في مجزرة، كان حسام يتأمل أمه وهي تولول لما أصاب ابنتها حين سقط سقف المعمل على العديد من العمال أكثرهم نساء، تملكه الذهول وهو يرى أخته مغمى عليها ولا يعرف وجهها، بل لم يميز جثتها إلا من خلال جلبابها الوردي الذي لا يفارقها منذ أن التحقت بمعمل الأحذية التقليدية في مدينة فاس العتيقة، هذا المعمل الذي يتواجد في حي مكتظ بالسكان، يخترقون الأكواخ التي يبدو أن معظمها آيل للسقوط، تضم ثلة من الكادحين الذين هرعوا اليوم إلى قسم المستعجلات، بينما هرع القسم الآخر منهم باحثاً عن صاحب المعمل الذي اختفى خوفاًَ من بطشهم، فلطالما تم تحذيره من سوء حالة البناية التي كدس فيها العشرات من العمال واتجه للسكن خارج المدينة في حي فاخر، كان يخفي عيوب الثقوب والشقوق بالقليل من الصباغة والجبص كلما أنذرته السلطات.

وقف حسام على رأس أخته وهو يضع يدا على قلبها ليتأكد من أنه لا يزال ينبض، ويضع اليد الأخرى على ذقنه المبلل بالدموع، لم يتمكن لهول ما رأى أن يدرك أن أخته فارقت الحياة، وأن يدها المشققة امتدت لترفع سبابة الشهادة وهي ملطخة ببقايا صباغة النعال التقليدية ولصاقها، جاء بعض الصحافيين لمعاينة الحدث فهرع نحوهم يبكي ويقول:

- تعالوا، صوبوا آلات تصويركم نحونا، وقولوا للعالم إن أختي تحتضر الآن، وإنني أنا المسؤول، أنا من كان سيكون مكانها، أنا من كان عليه أن يجلب لقمة العيش للعائلة، أنا من لم يرحمها يوماً، طلباتي وطلبات البيت جعلاها تشتغل أحياناً حتى وقت متأخر من الليل ودون أدنى ضمانات، ليبيع صاحب المعمل النعال التقليدية، وأحصل أنا على الحذاء الرياضي الباهظ الثمن حتى أضاهي به شباب الحي الذين يقفون يوماً طويلاً يتسامرون ويزجون الوقت منتظرين مثلي غيرهم لإطعامهم.. تعالوا... انظروا.. هذه هي أختي غالية التي تحملت نفقتي مدة ثلاث عشرة سنة كاملة، خذوا لي صوراً وأنا أقبل قدمها التي طالما دست عليها، ها هي تموت حافية القدمين وقد صنعت مئات النعال للآخرين، أنا منهم يا ناس، بل ربما أنت، أو أنت وأنت، تلبسونها في مناسباتكم مسرورين وهي تحمل نبضات قلب أختي غالية، غالية.. غالية.
جذبته أمه خشية أن يعرف أن أخته غالية قد فارقت الحياة، كانت رائحة الدخان القاتلة تنبعث من فمه الذي خربت أسنانه الأمامية وتدلى جزء وافر من شعره على كتفه، وتوسطت عنقه سلسلة صدئة تدلت منها جمجمة حديدية ثقيلة.