المقدس سره ..
المقدس سره ..
أحمد ضحية
كانت غاية احلام الديناصور ان يخرج من صلبه وريث لامجاده المزعومة , يحمل اسمه ويشير اليه الناس بالبنان , ابن الديناصور طلع .. ابن الديناصور نزل ..ابن .. قام , قعد , هبط ..) فعلى الرغم من زيجاته العديدة وغزواته التى لا تحصى , لم يرزق بمن يحقق له هذا الحلم !.فظلت نظراته الحالمة , تراوح فى عناق لا نهائى , لارض بعيدة . سرقت منه صبيته " الملظلظة " , الفارعة . ولم تترك له سوى بوح الخميرة وتباريح البنفسج , ونشيد الطلح ..( يغنى النشيد المموج كعشب الجبال القصية , ويشهد الارض البعيدة , على مسمار خلفه المسيح , احتمال النهوض الآخير ..) .. فالديناصور منذ عودته , من رحلته البعيدة تلك , استحال الى كتلة من القلق والتوتر الكلى , بفضل الشعرة السوداء اليتيمة , التى تبقت فى رأسه !!.. يقلقه اكثر ظهره الذى لم يعد يقوى سوى على الانحناء , بخاصة عندما يحضر ذلك الولد الاسود , الاجعد الممتلىء , اكسيره السحرى , الذى يجعل الديناصور اكثر قدرة على احتمال الناس والحياة وتاريخه السرى , مع( نوح) الكاهن الاسود الاجعد , المقعى امامه ككلب مشرد .. وهو يتزلف اليه " ايها الديناصور المقدس سره .. انا الوحيد الذى يعرف قيمتك .." .. فيخرج من تفاصيل الزمن الواطىء الى زمن وردى , , قطيفى تسرب من حياته المتنائية .. ايام كان يزحف متمهلا , عبر الدوائر الملونة , يغنى الكرز والكمثرى والثمار الحسية الاخرى , التى لا تنبت فى مناخاته الهرمة الآن !.. وقد تأخذه دائرة الى لحظة صفو عميقة الغور .. لحظة الفارعة , التى بهرتها شيخوخته الفتية , وتاريخه الذى لا يخلو من الكوارث !.. ( مثل تلك القصة التى اعطاها لها , ولم ترى النور ابدا !!!.. ) .. وكحركة النمل على جسم مشعر عار , شرع يحكى لها , من بين دبيب احاسيسه , عن الحراز والمطر , والتفاح والرمان . وقوس قزح وارض بعيدة , ذات ظهيرة وصيف , تحت شجرة حراز , وهديل ليمامتين يخلخل سلسلتيهما الفقريتين , ويحاصر توحدهما الراعش . " وبهطول المطر وتفتق الارض عن براعم النبات الوليد , واجتياح الدعاش لفضاء المكان , بالخدر اللذيذ , تراخت المفاصل وافلتت الصبية من براثن النظرة الحالمة , والرموش الوطفاء .. وغابت .." .. منذها لم يترك الديناصور نجمة دون ان يعدها .. بل اخذ يجمع الورق المتكوم , فى الشوارع الوسخة .. ولم يرتاح ابدا .. فقد منحها شيئا من ذاته . هو الوحيد وحدة الصحراء بأساها , ومشاعرها الناهبة ..
مغادرة الفارعة حياته , ازكت فى وجدانه الاحساس العميق بالتفاهة , للدرجة التى صار يرفض فيها ان يناديه احدهم دون ان ينعته بالتفاهة ..
سألته الفارعة ذات دفق يسربلها بالبلل :
* لماذا تصر على ان تدعى بالديناصور التافه ؟!..
*لأننى تافه ..
* كيف ؟!..
* لقد تدلهت بك انت الصبية , البضة و "جراد اب جركم " لا يأكل خريفين .. الست تافها ؟!..
* لا ..
* الجميع يعتبروننى فوق الشبهات , مع اننى فى واقع الامر تحتها تماما . الكاهن اتفه منى , ومع ذلك يصر على مناداتى ب " المقدس سره " , لأننى اخدعه واستغله لاغراضى الخاصة . فاوهمه بانه افضل عبقرى رايته فى
حياتى , وان ما يكتبه لا مثيل له .وفى زمن مضى عندما كنت مسئولا عن احد الملفات الثقافية , كنت استبعد الكتابات الجادة الجيدة .واستعدى الآخرين ضدى , خاصة الشباب . واجد متعة فى تحطيم نجاحات الآخرين , بل قمة سعادتى , تلك اللحظات التى اقلل فيها من شأن المبدعين كبارا وصغارا , وارى الاحباط يلتهمهم التهاما , فاستمد من ذلك قوتى , واحرص على الا اجمع حولى , سوى المتسكعين والعاطلين عن المواهب مثل الكاهن ..الست تافها ..
تأوهت الفارعة :
* لماذا تفعل بنفسك كل هذا ؟!..
كان الاحساس بالتفاهة ياكل خلاياه كالسرطان , وهو يستعيد استثماره لموت ذلك المغنى الشاب , معبود المثقفين المزعومين .. حين اصدر فى ذكرى تأبينه عشرة كتب , ودبج عشرات المقالات . وقضى ليال حمراء مجيدة , كتلك التى لا تحدث سوى فى الاحلام . يربح ارباحا هائلة من الكتب . دون ان يدع اسرة ذلك المغنى الفقير تطال قرشا واحدا !!..
منذ تلك اللحظة الاولى التى ولج فيها الكاهن عالم الديناصور , فى تلك العمارة المشبوهة المقعية على شفة النيل ككلب اجرب . لتاريخها الضارب فى القدم . حتى اصبح جزء من ذاكرة المكان النتن .. واخذ يهتم بتسوية هندامه , ويعدل فى مشيته , ليعطى الآخرين انطباعا مجهولا , كأفاق ومدعى عتيد !!.. ومع ان رأسه كان اكثر خواء من فؤاد " ام السرة " _ جارة الديناصور , الحيزبون الوحدانية الخرفة . التى اصرت ذات صباح مجنون , ان ( البعاتى ) زارها وطلب يدها للزواج , وطلبت من الديناصور ان يكون وكيلها !!!... _ الا انه كان يدعى معرفة كل شىء , وله رأى حتى فى شروق الشمس ! .. ويعتقد ان اكبر الفتوحات الادبية , مرهونة به وحده ! لدرجة ان ( التاريخ الفضائحى ) سكت عنه عندما قرن اسمه لاكثر من مرة , مع اسم الكاتب الكبير الديناصور .. فى قصة قصيرة واحدة , لا تتعدى الخمسة اسطر .. ومرت هذه الحادثة ومثيلاتها دون ان تثير رائحة الفضيحة والزنخ , اللتين تفوح منها , اى اسئلة سوى الهمسات الخائفة !..
حيثيات اول لقاء بين الديناصور والكاهن ظلت مثار دهشةوسخرية الجميع .فى آن !.. على الرغم من مجهوليتها , والاحتمالات العديدة التى حكى بها الرواة عن ذلك اللقاء التاريخى .. اذ بينما يؤكد البعض , ان الكاهن تعرف على الديناصور , عبر ( ورل ) من كائنات العقد الاوسط , ممن يرتادون تلك العمارة المشبوهة , يزعم آخرون ان الكاهن ومنذ طفولته البدائية , كان يحلم بحكم العالم . وهذا الحلم تبلور فى هوسه بالسيطرة على المدرسة عندما كان ( الفة ) _ انه يحب هذا الدور الملازم للتقرب من اساتذته زلفى !!_ وعندما اكتشف ضرورة تقليص هذا الحلم , قرر اختراق عالم التزوير والسمسرة . _ واخذ فى هوس جنونى يزور كل شىء , حتى اختام جمعيات الايتام والعجزة !!_ ولم يلبث ان وضع نظما ولوائح لازمة لما يفعل , فلقب فى اوساط العالم السفلى ب " القانونى " , وكلفه هذا اللقب الاعتقالات العديدة بدء بسجون الاحداث , والاصلاحيات مرورا بكوبر العتيق !! .. حيث اتجه هناك الى كتابة القصص البوليسية الفاشلة , التى كان يزعم انها اول كتب تحكى عن جريمة كاملة !! .. ما اثار حفيظة زملائه السجناء , الذين كان لهم رأى مختلف ..
يزعم البعض الآخر , ان الكاهن اتجه الى الكتابة , لاحساسه المتعاظم بالحرمان . ونتيجة لحالته الفصامية , ولرغبته ان يكون " شيئا مهما او محترما " , وهذه الرغبة هى التى تقف خلف ذلك اليوم المشئوم , الذى مضى فيه الى منزل الديناصور , محملا برزم الورق الذى نسج خيوطا عنكبوتية حول رغبة الديناصور . اصابته بالاختناق . وسحبته بعيدا الى اعماق زمن منقرض . حمله بعدها الاسعاف ليموت وحيدا !!..
فى اللحظة التى انفصلت فيها ذاته عن تلك الفارعة البعيدة , فى حميمية - كما بطلة تلك القصة التى لم يزج بها للنشر ابدا , ولم يسمح لاحد بقراءتها - تحقق حلمه الازلى بالوريث , وتنامى اليه وهو فى النزع الآخير صوت الممرضات والاطباء ( ابن الديناصور بالخارج ..) الى ان اخذته الدوائر الملونة , ليظل سبب الداء الذى اودى بحياته مجهولا , بينما يصر اقرباؤه على ان تلك القصص التافهة هى المسئولة عن اصابة الديناصور بالسكتة . واقرب اقرباء الكاهن يؤكد , انه ونتيجة لحقد عظيم بسبب جنوحه وفشله الاكاديمى , الذى اعتقد ان للجميع دورا فيه , قرر تصفية " الناس المهمين " ولانه كان بمشاعر صرصور وروح جعران , اتصل ذات مرة بفتأة لا يعرفها ولا تعرفه .. عبر لها عن حبه . وادت اتصالاته المتكررة , الى خلق ازمة عائلية , وانتحار الفتأة . ومع ذلك استمر فى تصرفاته ال... التى قرر كتابتها . وهكذا سرت فيه عدوى الابداع . ففى غياب احد اصدقاءه المزعومين , ذهب الى خطيبته , وقال فى صديقه مالم يقله مالك فى الخمر .. وعندما حسمته . تفرقت اوهامه بين اكداس الورق .. ولاذ بكتابة تقرير , من ذلك النوع الذى يدمنه كمخبر قديم . اثر ذلك اختفى الخطيبين فى ظروف غامضة !!. .. وفى قصة مشتركة بينه وبين الديناصور , ان الخطيبين شوهدا . عند منعطف درب فعوجلا بطعنات قاتلة . فى اماكن سرية وخطيرة ..
وفى قصة اخرى لم يكن احد قد تبقى حيا , اثر اطلاق نار, تناثرت اثره الجثث المنهوبة . واختفى مطلق النارخلف سراب احد المساجد , قبل ان يعالجه احدهم بطلقة رديئة التصويب !..
وفى قصة لم يكملاها لظروف الكاتب الكبير( الديناصور) الصحية , ان الخطيبة هوجمت من قبل احد الملثمين , وتحولت الى اشلاء والدم يسيل من احشائها . .
وهكذا استمر الكاهن فى التفاهة بعد وفاة الديناصور . لكن تلك القصة التى اودت بحياة الديناصور المقدس سره , لم تكن ضمن القصص المراهقة التى كتبها فى حياته , اذ اكد البعض انه استعارها من احدى المجلات الاجتماعية القديمة السخيفة ..
كان الديناصور اذن يحتمل تفاهة الكاهن , لاجل ذلك الاكسير , وتلك المشاوير الحميمة , وبعد موته احيل الكاهن الى دار العجزة , ليمارس المثاقفة العاجزة هناك ..
ويحكى للمسنين عن بطولات لم تحدث , ولانه لا يتوقع اى زيارة من اى شخص . اخذ يحكى عن اصدقاء وهميين , يتوسطهم الديناصور , الذى مضى فى سلام ونبتت على قبره شجرة حراز تزورها امراة فارعة كل عام , بصحبة صبى بعيون كابية ورموش وطفاء ....