أغنية لطائر الحب والمطر..
أغنية لطائر الحب والمطر..
أحمد ضحية
كنت
متكئا على عصاى عندما غفوت على الكرسى .. انتبهت اثر تحطم العصاة بعد ان تحول جوفها
الى دقيق ناعم . بفعل السوس والارضة .. تماسكت فى اللحظة الاخيرة , متجنبا السقوط
عبر ثقب الليل . كانت الارضة اللعينه قد كررت ذات فعلتها مع سقف واثاث البيت , قلت
فى نفسى يجب ان اجد حلا , والا تحول البيت كله الى رماد .
اتت( ْايمى) تحمل قمرية , مدتها لى : ( احد الاطفال الاشقياء حطم جناحها ..)..
امسكتها برفق وودت لو بقيت ايمى .. كبرت كثيرا , وصارت (ملظلظة ).. تذكرت طفولتها
الشقية . والتصاقها الدائم بى . كانت دائما تتسبب فى الكوارث التى تنسب الى فى
خاتمة المطاف . فانال بسببها العلقات الساخنه , دون ان اقول الحقيقة فاشى بها ....
وددت لو اقول لها شيئا الان , فلم استطع .. اشعر احيانا ان خالتى تعلم خفايا عقلى
وقلبى , تجاه ابنتها .. حاولت ان انسى , فتشاغلت بالقمرية الصغيرة .. حدثت نفسى
(حديثة عهد بالطيران على ما يبدو ..)..
تابعتها بنظراتى وهى تتسرب بجناحيها فى الفضاء اللا متناهى : تتضائل , تتضائل ,
تتضائل ...ثم تغيب فى الافق الشفقى الوريف ..
شربت الشاى من يدى ايمى , ورحلت فى عينيها الى اخر المساء .. كانت الشمس مجرد هالة
خابية , خلف السحب الغائمة .. تشتت بين عينى ايمى وايغال المساء ...
وقع خطى الليل الثقيل , يبعث فى النفس نوع غامض من الرهبة والتحفز .. عوالم من
البوح والتردد تتداخل , لتتلوى فى داخلى شيئا من اشواق و مشاعر لم تفصح عن نفسها
بوضوح ..
كان الوقت متاخرا . طلبت منى خالتى اصطحاب ايمى للتسوق .. احسست بنفسى سعيدا كطفل
غرير يوهب حلو ى او لعبة يحبها .. طلبت منى ايمى ان نسير على اقدامنا . بحثت فى
جيوبى عن حلوى لاهديها لها .. عثرت على بقية احلام طفولية ولم اعثر على حلوى ..
ونحن بمنتصف الطريق , احسست بها تودقول شىء بعد نفاد صبر طويل , واحست بى كذلك اود
قول اشياء لفها صمت سحيق , مذ كنا صغارا ...
تمدد الطريق على المسافة الالتوائية النادرة الا هنا.. استوعبته , بنظرة خاطفة
واشتعل احساسى فى صحن عينى ايمان .. كنت اغوص فيهما عميقا , عميقا .. وكانت السماء
مورقة , ووريف عينيها يورق سحبا ملبدة بالغيوم .. كانت سماء عينيها لا تعكس سوى ما
اصطحبنا من احاسيس عميقة منذ كنا صغارا , تلك الاحاسيس السرية , الصاخبة عميقة
الغور ..
اتتنى العيد المنصرم توفى بالوعد الذى قطعته على مذ عالجت جناحها المكسور .. كانت
بعد صغيرة لا تعتقد بالتئام الجرح . وانسداد الشرخ الشرشفى فى قبة السماء , التى
غيبتها اخر مرة ..انفقت زمنا فى معالجتها , ثم اطلقتها للريح , ومنذها اصبحت تنفق
اياما من كل عيد معى .. تهبط على النافذة حين تجد غرفتى ممتلئة بمن احب واكره ..
وحين تخلو الغرفة الا منى , وعلاقتى المتجددة بها . تهبط على راس مخدتى او عند حافة
السرير .. اقبل جناحيها .. اذيب لها السكر فى الماء ..انثر لها الحب .. نثرثر معا
.. اضحك , ثم ترحل , لتات فى عيد اخر .. سبعة سنوات ولم تتغيب ابدا , لا ادرى ما
الذى اخرها هذا العيد عن المجىء !؟!..
الطريق الملتوى كثعبان يشعل فى النفس احاسيسا متداخلة .. اطلقت عربتان السباب
بينهما , وانحرفتا على نحو مفاجىء ووقعت مقدمة احداهما على حفرة .. كنت احيط خصر
ايمان باحدى يدى وجذبتها بالاخرى , تحسبا لاى خطر . حين انقشع الخوف عن الطريق
الالتوائى .. لم انتبه الا وهى على صدرى .. استعدت حواسى المغمدة فى الدفء ..
مذ كنا نرتدى السراويل بعد وبيننا علاقة مبهمة . يفهمها الجميع ولا يجرؤن على
تسميتها . اتذكر كيف كنا نتركهم يتحدثون بتكرار ممل عن احداث القرية : القادمين
والذاهبين .الذين توفوا مؤخرا . الذين اغتيل احدهم برصاصة طائشة . والذين بعد لم
تدلقهم مدن البترودولار , على دروبنا المنهكة .. المغتربين لاجل انثى تضمد جراحات
ايامهم . وتلملم شظاياهم لتصوغ منها انشودة طويلة لا تحكى كالمعتاد احزان المغترب
..نعم اذكر كيف كنا نهرب لنزهو بعيدا عن عوالمنا البهية , سنين من الحب المكبوت !!
والمشاعر البريئة ...
سكبت على مؤخرة العربة المقعية على الحفرة ذكرياتى الطفولية . وانا انسحب من المكوث
بين شسوع عينى ايمى .. احتوانا الشارع كاشياء صغيرة اعتادت اهانته كل يوم باحذيتها
.. كان الشارع قد اخذ يخلو شيئا فشيئا الا من بعض السابلة والمارة المتفرقين , على
مسافات متباعدة هنا وهناك .. مسحت السماء ببصرى. كانت قد شنت فى الاونة الاخيرة
حملات لا هوادة فيها على مدينتنا , قلت لايمى : ( نزر كارثة اخرى , بيوت المدينه
المتهالكة لم تعد تحتمل ؟!..) نظرت الى وابتسمت اين كنت بالامس . انتظرتك طويلا
؟!) .." كنت هائما اغزل فى القلب مخلاة لحب جميل " ... تضرج وجهها بحمرة لامست سواد
الليل فى الكبد ..وسادت فترة من الصمت الحميم .... اه لوتدرين ايمى كم اشتاق ضحكتك
المطله على عوالم تدفن نفسها بالصمت , اسرنى العشق واتسع جلبابه وفاض , وتمددت فى
شوق وحنين ..بدات خيوط المطر ترفو اثواب الهواء الطليق . ثم تدلت تتكوم على الارض
.. لم تعد رزازا بل وابلا لاسع الوخز
ثرثرت فى اذنى العيد الماضى وقلت لها : ( مدينتنا تكره الغرباء ! ) فعبست , فاضفت
انت لست غريبة ) فغردت وانطلقت من غنائها تنبؤات الزمن الات . كانت تود ان تفعل
شيئا لاجلى . هكذا احس بها كل عيد , وكنت مسكونا بايمى . لا ادرى لماذا تاخرت هذا
العيد ؟!..
على حين غرة اشتد المطر .. ارسل مواويله المرعبة ..سحبت ايمى الى مظلة على حافة
الطريق.. كان الشارع قد خلى تماما من المارة , والليل ينذر بالتوغل فى خفاياه ..
اخذ المطر يعبث بوجه ايمان , فتطاولت بقامتى لاحميها . تجرا على ظهرها فخلعت سترتى
. وامرتها ارتدى خذى هذه لئلا تصابى بالبرد ) ( لكنك... ) .. اصررت , فتعنتت,
فكشرت لها عن انيابى . استسلمت وهى تضحك فى غبطة .. " تبقى على حماية الجبهة
الامامية
".
تطاولت اكثر لاحمى وجهها . لم اشعر بوقع حبات المطر على ظهرى , كانت عيناها تتموجان
باحساس دافق , تهيجت مكنوناتى كلها , وتراكمت فى داخلى شعلة من الاحاسيس والمشاعر
الفياضة . رعدة قوية اهتزت لها المظلة . جعلت ايمان تندفع عميقا عميقا لتختبىء فى
صدرى !!..
تنبهت الى شىء يحط على كتفى . ازحت وجهى عن تنفس ايمان المنتظم .. افلتت ايمان بزعر
.. كانت القمرية تفرد جناحيها على كتفى . مددت لها يدى فهبطت على راحتها . مددتها
لايمان .. كان الفرح يطل من عينى القمرية .. طارت من كف ايمان لتحط على كتفى ..
غلفنا الصمت للحظة .. كان المطر قد توقف منذ وقت ليس قصيرا .. حنت ايمان راسها فى
حياء . غردت القمرية كما لم تغرد من قبل . ثم طارت .. تابعتها بنظراتى وهى تتسرب
بجناحيها الفضاء اللامتناهى .. تتضائل اكثر فاكثر ..غابت تماما واحتوانا الطريق..