في قصر المرايا
في قصر المرايا
فاضل السباعي (لوس أنجلوس)
بعد انصراف آخر أصدقاء الليل، وهو في المقهى ما يزال، رأى رجلاً يتقدم نحوه وقد علت وجهه بسمةٌ عريضة، سرعان ما عرف فيه واحداً من رجال السلطة المحنكين.
- اسمي "ش"!
أجابه:
- ولا أظن أنك تجهل أن اسمي "س" بفارق ثلاث نِقاط.. لصالحك!
- ولو، يا أستاذ "س"، أنت كاتب معروف ومرموق!
- وتعلم أني لست من الموالين.
- لهذا جئت إليك.
- وماذا تريد مني في آخر هذا الليل؟
- أن أعرض عليك أمراً على درجة من الأهمية.
- أف! عمرها السلطة لم تتذكرني بخير.
- رهان.. إن كستبه استحققت مكافأة تمكنك من امتلاك بيتٍ فخم واقتناء سيارة فاخرة.
- ...! ...! ...!
- ذلك إن استطعت – وأنت الكاتب القدير – أن تنجز عملاً قصصياً من ألفين وخمسمائة كلمة، خلال خمس ساعات!
فأطلق "س" ضحكة تردد صداها في أرجاء المقهى العتيق.
- لا تضحك هكذا، يا أستاذ "س"، فليس الأمر سهلاً كما قد يخطر في بالك.
- أنا لم أضحك فرحاً بالمكافأة التي تغريني بها، ولكني أضحك لغرابة الرهان!
- لعلك تضحك ثانية إذا ما أفصحت لك عن تفاصيله: أن تبدأ بكتابة القصة في منتصف ليل وتنتهي منها عند مطلع الفجر! وإن لي أن أختار بنفسي واحداً من اثنين: إما موضوع القصة التي ستكتبها، وإما تعيين الليلة التي يجري فيها الرهان.
تبسّم "س":
- دع موضوع القصة لي!
- فإن نجحت، حصلت على ألفِ ألفٍ من عملتنا الوطنية الحبيبة.
- أهكذا تبددون أموال الخزانة العامة!
- كلا، إنها "ملعوبة"، ذلك أنك إن لم تنجح..
قاطعه:
- لعلك تقول أدفع لك مثلها، أو ضعفها! ولكنكم تعرفون أني لست ممن يملكون.
- إن لم تنجح لم يترتب عليك سوى خسرانِك سمعتك الأدبية أمام جمهور القراء!
تعجب "س":
- يا له من رهان غريب!
- لا غرابة واستغراب. نحن نريد إسكات الأصوات الأخرى بكل وسيلة نملكها.
- أترونني إلى هذا الحد "قذى" في عيونكم! لقد ظللتم تقدمون للناس باقاتٍ من الشعارات البراقة، وتفرشون لهم الأرض بالورود. والآن ترغبون في تدمير سمعة كاتب تعترف أنت بأنه معروفٌ ومرموق، وقديرٌ أيضاً... ما غيركم؟ ألا تؤمنون بتفتُّح الأزاهير في المجتمع؟
- هذه ليست أزاهير. نحن نرى كل واحد منكم أشبه بحبّةٍ في عنقود "الزَّنْزَلخْت" السامّ!
- أراك تبالغ في استفزازي، يا أستاذ "ش"!
- لأني أريدك أن تستجيب للتحدي.
أعلن "س" بعزم:
- قد قبلتُ الرهان!
واندلعت هنا، من فم "ش" الواسع، ضحكةٌ مجلجلة، على حين كان "س" يحس بأن نفسه قد امتلأت ثقةً، وأن صدره شُحن عزيمة، وأن رأسه قد أُترع أفكاراً وخواطرَ عظميةً، يستطيع بها أن يؤلف كتاباً شبيهاً بـ "كليلة ودمنة"، يُندد فيه – ولكن على لسان الإنسان – بغطرسة الحكام ويشفق على ظلم المظلومين.
سأله "ش".
- نبدأ الليلة؟
استجاب "س".
- فلنبدأ الليلة!
- دونك العقد: ألفان وخمسمائة كلمة. خمسُ ساعات. ألفُ ألف، أو خسارةُ السمعة.. وقِّع هنا. (مقدماً له قلمه).
- أوقع بقلمي!
وقّع "س" بكبرياء. وقرأ، في أثناء ذلك، الصفة التي يتسمى بها الطرف الآخر: "مسؤول الأمن الأدبي"!
- والأدب أيضاً جعلتم له "رجال أمن"! فأنت من يرفع الوضيع ويضع الرفيع، في عالم الأدب في البلد!
- كم تأخرت في معرفة ذلك! قد تم توقيع العقد.. لنبدأ، هيا.
- إلى أين؟
- إلى "قصر المرايا"!
- وما "قصر المرايا" هذا! أنا لا أكتب في القصور. تعودتُ الكتابة في بيوت ٍ يطردني منها أصحابُها كلما عنَّ لهم طلب الزيادة. الوحي لا يتنزل عليّ إلا في بيت تعبق فيه رائحة الفقر والإبداع، أو في المقاهي العتيقة التي ينتشر في فضائها دخان السكائر والتنباك المعسل.
رماه "ش" بنظرة:
- أستاذ "س"، لا تُثر لنا المتاعب. توقيعك لمّا يجِفّ حبرُه بعد. ليس يليق بهذا الرهان العظيم إلا قصرٌ تقضي فيه الهزيع الأخير من الليل، وعند الصباح يدخل القصرُ التاريخ!
وقبل أن يفكر "س" بالاعتراض، كان المقهى، ذو الجدران المغشاة بالهباب، قد تحول إلى قصر منيف، وجد نفسه في إحدى قاعاته الرحيبة، و "مسؤول الأمن الأدبي" يصافحه بحرارة، ويقول:
- قد حل منتصفُ الليل. موعدنا مطلعُ الفجر.
وغاب عن عينيه، متوارياً.
***
أُسقط في يد "س". قصرٌ باذخ، لعله من عصور القياصرة والأكاسرة. قناديلُ تَشِعّ ضياءً، وثرياتٌ تتفجر فيها الأنوار.
الورق، أين الورق يكتب فيه؟ والفكرة؟ بحسبه أن يروي ما جرى بينه وبين الرجل من حوار، بعباراته، وطروحاته، وما تضمنه من الأهداف والمرامي.
اتخذ مجلسه على إحدى الأرائك. لم يجد راحة. غادرها إلى القاع. قعد، تربع، وشرع يكتب على طريقة الأجداد. خط بقلمه: "بعد انصراف آخر أصدقاء الليل، وهو في المقهى ما يزال..". يصوغ ذلك ببساطة... ولكن كيف أمكن أن يتحول مقهى متواضع إلى قصر تصدح فيه الفخامة، وتصرُخ الأبّهةُ بكل أشكالها؟!
يتابع الكتابة.
ولكن الأنوار تبدو ساطعة جداً، وإنها لتتزايد حدةً حتى تكاد تُعمي بصره، فكأنها "عينُ شمس" تبهَر الحدق. قام يتلمس الجدران أملاً في تخفيفها، ولكنه لا يرى الجدران إلا مرايا تزيد في توهج الأنوار.
من بعيد ترامت إلى سمعه أصوات، أصوتٌ مبهمة. أصاخ السمع: بدت له وكأنها لغط بين أناس يتصايحون.
الصدر مُترعٌ بالأحاسيس الموارة، والأفكار تتلاحق، والقلم في يده مرهف معطاء. يريدون تحطيم السمعة، ويا له من هدف! يرفضون أن تتفتح الأزاهير في خميلة الوطن، ويا لها من حريةٍ في التعبير والإبداع.
الصخب واللغط يزدادان اقتراباً، وهو لا يتوقف عن الكتابة، تُداخلها، الآن، أصواتُ حيوانات يختلط فيها العواء والخوار والزئير، فكأنها سنفونية تعزفها وحوش في غابة, وما يعرف من أين تأتيه الأصوات: أمتسللة عبر النوافذ، أم منبعثة من وراء الجدران من تحت الأقدام؟
فجأة، غاضت الأصوات وانطفأت الأنوار، دفعة واحدة. وفي الظلمة التي اعتنقته، والوحشة التي ألمت به، خُيّل إليه وكأن إعصاراً يطويه.
في هذه الظلمة الظلماء تراءت له أشباحٌ ذات وميض، أخذت تتخايل له في السكون، متحركة متراقصة، لا يصدر عنها صوت، وهو يبحث، يلوب، عن ضوء، وإن كان خافتاً، يتيح له أن يكتب أسطره الأخيرة.
لاح له، هناك، بصيص من نور. الفجر يوشك أن يُسفر. وعلى ضوء غبش الفجر الوليد، سطّر آخر الكلمات.. ثم انفجرت في أعماقه صرخة مكتومة: قد كسبت الرهان!
***
طلع الفجر.
وبرز له، فجأة "مسؤول الأمن الأدبي"، ماداً نحوه ذراعه.
- هاتِ القصة، يا أستاذ "س".
- لن تحظى بها.
- تكون قد خسرت الرهان!
- خسرتُ رهانك أنت.
- خسرت الألف ألف، و...
- ولكني كسبت رهاني.
- ليس بيننا سوى رهان واحد.
- كان الرهان الذي انتويته، أن أتخلى لكم عن ألوفكم المسمومة، وأُخيب أملكم في خسراني السمعة، وأن أثبت لكم أن الأزاهير قادرة على أن تتفتح في ليلكم الحالك، مع كل ما خططتم له من أنوار تُعمي العيون، وأصواتٍ تخرق الآذان، وأشباحٍ لا تُخيف إلا الواجفة قلوبهم!
- ولكن سمعتك الأدبية، يا أستاذ "س".
- سوف تتعزز.
- في العقد الذي وقعناه، أن تُقدم لنا عند مطلع الفجر القصة موضوع الرهان.
- سوف أقدمها للنشر، فتقرأها الجماهير العريضة... وفيها أروي كل ما دار بيني وبينك من حوار، كنت أنت فيه الأعلى صوتاً، وكنت أنا الأثبت جَناناً.
وقام يغادر المكان.. ليلتقي بالأصدقاء مساءً، حيث تفوح روائح الدخان والتنباك المعسل.