من نوادر بوعلي

هبة الله

ذات مساء.. جلس الحاكم بوعلي وزوجته الحسناء.. يشاهدان التلفاز باهتمام وإصغاء.. وكانت إحدى القنوات الفضائية تعرض برنامجا وثائقيا يحكي قصة تاريخية.. عن حاكم متسلط باغتته على حين غرة المنية.. فأخفت زوجه المصون نبأ وفاته الميمون.. ووحدها صورة الحاكم الملعون ظلت تتسلط على الشعب المغبون...

لكن.. ومع مرور الأيام ظهرت في البلاد علامات كثيرة أدت إلى فضح المكتوم وإحباط مخطط الزوجة الشريرة.... فسرعان ما عمت الفوضى البلاد.. وتسلط المتنفذون من الساسة والقواد.. وفقد الأمن وتفتت الجيش إلى فصائل وميليشيات.. تحكمها نزاعات وصراعات وخلافات.. فانتشر الفساد في الأرجاء وكثر الظلم وعم البلاء.. واغتنت طائفة يسيرة من الشعب على حساب تعب وجهد وعناء الفقراء... فانقسم المجتمع بين غني لئيم متسلط لا يرحم.. وفقير مسحوق مدحور مقموع مذلول منبوذ...

وارتفعت نسبة البطالة وانتشر التخلف والجهالة.. وصار مألوفا رؤية الناس  يفترشون الأزقة والطرقات ويأكلون الزبالة..

و... و.... و... إلخ

نظر بوعلي إلى زوجه وملامح الدهشة والحيرة بادية في وجهه.. وقال: مالي أشعر وكأن هذا البرنامج يتحدث عن هذا البلد دونا عن كل البلدان؟!! إن كل ما ذكر من بلاء موجود لدينا وأكثر..!!! لكن الفرق الوحيد أنني موجود.. ما زلت حيا أرزق.. لا مجرد صورة على الحيطان...!!!...!!!!.... ردت الزوجة بهدوء واتزان :

 ربما كنت حيا ترزق.. لكنك والموتى سواء.. فقد ارتضيت أن تلبس رداء أبيك البالي مع بعض الترقيع.... وتجتر أسلوبه وسياسته العوجاء في توزيع المناصب والترفيع.. ولم تقدم نفسك لشعبك إلا في إطار صورة مهلهلة خرقاء تلهث وراء السلام والتطبيع.... ولو كان لك ياعزيزي أي وجود، لما تسلط بارونات أمنك وتخطوا في غيهم كل الحدود... في حين مازال شبح والدك متمكنا من نفوس جميع المواطنين، وصورته مازالت مرفوعة في كل الساحات والميادين، تقول للقاصين والدانين: أنا قائد هذه البلاد وحاكمها برغم أني ميت منذ عشر سنين...

هنا انتبه بوعلي لنفسه.. فغصت الكلمة في حلقه.. وانتقع لون وجهه وجحظت عيناه ووقف شعر رأسه... ثم راح يتأتئ ويقول: تقصدين أنني ميت؟؟!! ... أنا ميت!!..

الآن فهمت لماذا لم يعد أحد من الرؤساء يعبّرني أو يعيرني أي اهتمام.. ومهما تنطنطت وتفلسفت وتجملت في الفعل والكلام فإن أحدا لا ينظر إلي باحترام... والكل بات ينبذني  ويزدريني ويتجاهلني وكأني نكرة بين الأنام أو يتيم على مائدة اللئام...

... ولهذا السبب بات إخوتي والمقربين من أفراد عائلتي وطائفتي يتجاوزونني ويتصرفون بحسب هواهم ومصالحهم دون الرجوع إلى مشورتي.. حتى كبار قادة جيوشي وحاشيتي ومسؤولوا الأمن في دولتي صار كل منهم زعيم عصابة وقسموا البلاد فيما بينهم وراحوا يتكالبون على نهب ثروتي وثروة عائلتي .. ولم يعد لي وجود ولا هيبة إلا في الصورة المعلقة قسرا على جدران المكاتب وفي ... وفوق... وعلى.. وتحت.. وعند.. وبجانب... .

أجل.. الكل يعلم أني  ميت إلا أنا...

ثم قام بوعلي يركض مذعورا في أرجاء قصره ويصرخ... أنا ميت.. أنا ميت.. أنا ميت... أنا شبح.. أنا غير موجود....

وبينما هو كذلك إذ جاءه أحد حجابه محملا بأنباء سيئة.. قال الحاجب: لقد استباح عدونا اللدود  الحدود.. وحلق فوق أراضينا وألقى القنابل فقتل عددا من مواطنينا.. و....

صمت بوعلي مبهوتا والحاجب يقص عليه كيف رجعت طائرات العدو سالمة دون أن يعترض طريقها أي عارض ، وفكر برهة ثم أجاب: عجبا.. ألا يكفي الشعب كل تلك العصابات التي تفتك به من الداخل؟؟ أيفتك هذا العدو الغاشم بشعب مات حاكمه وتركه وحيدا بلا سند ولا يستطيع الدفاع عن نفسه...!!!

والله لو كنت حيا لعاقبت كلّ أولئك الجبناء....