صمت المثّال

صمت المثّال

ماجد رشيد العويد

رأى الرجل الصورة، ونطّ قائلاً: عاش السلطان... عاش، عاش.

لم تكن الصورة بالطبع للسلطان المذكور آنفاً وإنما كانت لغيره، فثبت أن الرجل معتوه، وربما فاقد الذاكرة، ولوحظ عليه وهو يقطع الشارع أنه يلتفت كثيراً يميناً وشمالاً فاغراً فمه، وتبدو عليه الدهشة. وكان كلما اصطدم بأحدهم، صاح: عاش، عاش، عاش.

على أنه فجأة بدا يرى الصورة، من أمامه ومن خلفه، ومن فوقه ومن تحته، أو لعله هكذا اعتقد، ولكن يقينه كان ثابتاً في أن الصورة يجب أن تعيش، وأن تتخذ لها ركناً من كل حائط على طول الديار من البحر إلى النهر. وبإيمانه هذا رآها باسمة في قوة، وهي تتخذ مكانها المبارك من البلاد. ولما كان لا مفر من تحيتها انطلق ثانية يصيح وبصوت جهوري: عاش، عاش. عند هذه اللحظة، اصطدم بجدار أثار غضبته فانطلق يسب الطين الذي بني به. أثناءها كانت عيناه، اللتان غارتا في محجريهما، حمراوين ربما من الصدمة، ثم ما لبـث أن رفعهما فرأى الصورة في جلالها ومهابتها، فارتعدت فرائصه، ووقف شعر رأسه وتلعثم لسانه، غير أنه ما لبث أن استجمع ذاته وتتالت منه الاعتذارات للصورة الباسمة، حتى أنه قال في علانيته وسرّه: قبح الله العجلة، ثم حرك رأسه المائل باتجاه الأرض يميناً وشمالاً وبدت على شفتيه ابتسامة بلهاء وتابع سيره وهو يقول: قبح الله العجلة.

بدا له الشارع طويلاً لا ينتهي، وعميقاً بلا قرار، مزيناً على الجانبين بالصورة الآخذة في التناسل، حتى كأن المكان غرق في بحر من الألوان والبسمات، وتلك النظرات الحادة...

اختار واحدة بالطول الكامل والمجسم وبالألوان، رُصّعت أطرافها بشرائط من الذهب الخالص، نظر إليها نظرة متأملة فبدا له الشارب وقد زينته بعض الشعيرات البيضاء فقال في سره: إنه الوقار والحكمة ثم نظر إلى المجسم بكليته فأبصر عباءة تلفه بالكامل فقال في سره: يا لروعة التراث!!. أما الكفان فقد أحكما قبضتهما على العباءة من الوسط فقال علانية: يا للقوة!! أمعن النظر فرأى الماء يسيل غزيراً من على جانبيه. شرب كثيراً من بعد عطش ثم قال: حقاً إنه ماء فرات مستساغ. عند ذلك رفع يديه بالدعاء وتابع سيره.

في الطريق إلى بيته شاهد رجلاً أغبر كأنما خرج تواً من قبره، حاول أن ينفض ما تراكم عليه من الغبار إلا أنه تراجع في اللحظة الأخيرة، ثم استوى بدوره في الشارع، وأجال في المارة نظرات سريعة وخاطفة وصاح: يعيش، يعيش، ثم تابعا سيرهما رفقة وكأنهما يعرفان بعضيهما منذ زمن بعيد. سأل صاحبنا الرجل الأغبر:

ـ أين كنت؟

أجابه، وقد عدّل من هيئته، وكأنما يملؤه شعور بالفخار:

ـ كنت أضع جماعتي في وضع التهيئة فتتوحد الأصوات في كلمة "يعيش" فنسحق بها أعداءنا. أما علمت أن المتربصين يريدون شراً بنا؟

ـ ولكن لماذا أنت ممرغ بالتراب هكذا؟

ـ وكيف تسألني مثل هذا السؤال؟ ألا تعلم أنه يجب علينا أن نقدّم فروض الطاعة، ثم ألا تعلم أنه قدس اللهُ سرّه يحب أن يُبجل؟

ـ بلى أعلم ولكن ما دخل هذا التبجيل بالتراب الذي يملؤك من أعلاك إلى أسفلك؟

ـ وكيف لا؟ كان يجب علي أن أتمرغ بالتراب، لقد جثوت على الأرض ثم مرّغت جبهتي ثم كامل وجهي. كنت أقدم له التحية الواجبة لمثله من السلاطين. وأنت ألا تفعل هذا؟

وهنا أحس صاحبنا بأنه كمن وقع في كمين، وليتدارك أمره قال:

ـ بل أفعل أكثر من هذا، لقد قلت إنه معصوم، وإنه لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه. وكيف لا؟ ولكن  ألا ترى أننا لسنا في وضع نخاف فيه الخسارة، نحن أقوياء بما فيه الكفاية. ثم    اعلم أن الصورة مزينة بشرائط من الذهب تجري في عروقها روح سماوية.

كانا كل منهما ينظر إلى الآخر نظرة مملوءة بالريبة، ولذا فقد ظهرا وكأنهما يتربصان ببعضهما.

تابع سيره إلى بيته يعبر الجسر فوق ماء متلاطم يخبط بعضه بعضاً، كما نفسه والبلاد. ألقى نظرة على الماء وأخرى إلى السماء التي بدت حيناً صافية رائقة، وبينما هو كذلك، وعلى غفلة من نفسه صاح: عاش، عاش. وما إن وصل إلى نهاية الجسر حتى تلفّت يمنة ويسرة، وفجأة اصفرّ لونه، وانتفخت أوداجه، واضطربت الحروف في فمه، ثم انطلق يركض متحولاً عن الإسفلت إلى الطرقات الترابية.

*    *    *

بدت حالته تزداد سوءاً، منذ بدأ بنحت مجسّمه الذي أعجب به لاحقاً، كانت الصخرة من أمامه كتلة هامدة بلا حياة تحتّها الريح ويد الزمان. وبوحي من إيمانه المكثف والمتصاعد بمنحوتته، ومع كل مرحلة من مراحل التشكيل، كان يهزّ الصخرة ويعبث بها من جوانبها كافة، ثم يصيح: أخرج، وعش. كانت تلك هي الفكرة التي آمن بها، وبأن من رحمها سيخرج ثم يفيض منه العالم. ومع كل نفثٍ للكلمة " عش " كان يحس بالروح تنبثق من حبيبات العرق المتلألئة على جبينه، حتى أحس أو هكذا اعتقد أنه يلامس الروح ملامسة، ثم يقبض عليها، ثم يدفع بها إلى رحم هذه الصخرة الرجيمة التي تفجرت عن عيني صقر تعلوهما جبهة عالية. عينان من نار تعلوان أنفاً قُدّ من الرّوع، فوق فم لم يعرف الابتسام يوماً. كل هذا في جمجمة على غير جنس، وعلى غير مثال.

مع ضربة الإزميل الأخيرة بدا له التمثال حاد الملامح، ينطق بالجبروت كلُ ركن فيه. وهنا شعر بأنه بعث في الفراغ سيدَه ومالكَه.

قالت له نفسه بعد أن انتهى من عمله:

ـ ولكن أنت من نحته، فكيف تكون عبداً له؟

ـ لأني عبد شهواتي ورغباتي والتمثال غاية المنى على هذا الصعيد هل فهمت؟

ـ وهل غاية مناك في أن تكون بوجوده بلا فائدة؟

ـ ليس الأمر على هذا النحو. أنا أمثل الفكرة وهو يمثل القوة، وهكذا سأظل مسيطراً عليه.

لم يتمالكا هو ونفسه أمرهما فانفجرا مغيظين، تسيل من جنباتهما اللعنات. كانت اللحظة بينهما غاية في التوتر، وكاد أن يحطم ما صنع لولا تلك الرغبة المجهولة التي تملؤه. وهنا قال للتّمثال:

ـ انهض وكن كما أردت لك أن تكون.

*    *    *

برغم الحجم الهائل للمنحوتة فقد أصر المثّال على جرّها بمفرده إلى المكان المخصص لها. كان هذا الإصرار من باب التبجيل لسيد على غير مثال، يشع جمالاً وينطق حكمة. غير أنه وبعد مضي الوقت، لم يفلح في جرّه إلى حيث يجب أن يكون. وحاول مرة واثنتين وثلاثة.. أنهكه التعب وقذف به الجوع إلى الأرض مستلقياً على ظهره يلهث مثل كلب أجرب. وبينما هو في استلقائه بين لاهث تارة ومحدق في السماء تارة أخرى، فاض منه إلهام لا يدري إلى اليوم مبعثه، ولطالما تساءل أهو من النفس أم من الروح أم من العقل أم منها جميعاً. لكن، وهذا هو المهم، قفز قفزة واحدة فإذا به يستوي واقفاً على قدميه بكامل قوته وعافيته، ترقص من الحبور ملامحه. ألقى على التمثال نظرة فرح ممزوجة بالطاعة والتبجيل، ثم نادى بصوت يملأ الآفاق:

ـ سأجرّ إليك الساحة، بل ومدخل المدينة أيضاً أيها المبجل، ثم لتحلّ علي من بعد ذلك بركتك.

بإلهامه هذا راح يرقص في تلك الأرض المنبسطة. غير بعيد منه لاح النهر فانطلق إليه، ثم ألقى بجسمه في مياهه سابحاً في لهو ومرح.

*    *    *

في زمن قصير ـ لم يملك أهل المدينة والمثّال حسابه ـ أفاق الجميع ليروا أن مدخل المدينة قد تحول إلى الجهة الأخرى من النهر، فاستبشروا خيراً بهذا التحول المعجز، ومنّوا الأنفس بالرفاه. أثناء ذلك كان المثّال يضع اللمسات الأخيرة على الساحة وعلى مدخل المدينة بحيث يتوافقان مع الحجم المعنوي والروحي للحجر الذي نطق فوعى وأوعى، وبصر وأبصر. وشارك الناسُ المثّالَ في أعمال التزيين.

إلا أن التمثال لم يسترح في المكان الذي جاؤوا به إليه، فعمل على تغييره بعد أن دبت الحياة في أوصاله. وبقدميه الرهيبتين حطّم، وهو يمشي، كل ما يعترضه فحوّل المدخل الجديد للمدينة مع حي بأكمله إلى أنقاض. هذا عدا عن العديد من الجثث التي قضت، ثم استلقت على الأرض استلقاء عبادة، غير آبهة بالمصير الذي انتهت إليه. فهي وإن ماتت وتحولت إلى جثث متفسخة باعثة رائحة واخزة إلا أنها في موتها هذا إنما تبعث مزيداً من السنين في حياة التمثال المبارك الذي انتهى به مسيره إلى أعلى سنام من البلاد. وأما، بقية الناس فأصابهم عته شديد. وشيئاً فشيئاً تحوّلت " عشْ " الآمرة إلى " عاش " المنطوية على نفسها، والمتخمة بصنوف من العزلة والخوف. وما لبث المثّال بهذا أن انتحر بصمت أبدي خالد.