خالديـة

خالديـة

عبد الباقي يوسـف

[email protected]

منذ سنوات أتردد إليه في الأماسي.. التي أضجر فيها، وعندما يراني خلف الباب يستقبلني بحفاوة ويصر على تقديم كل ما في بيته من طعام وشراب  ويجبرني على الأكل والشرب، كل مرة أرتب لقضاء ساعة أو ساعتين ، مثلاً في الشتاء أزوره السادسة مساءً وأمكث للثامنة، وفي الصيف أزوره في الثامنة مساءً، ولم يسبق لي أن زرته نهاراً إلا أيام الأعياد، ولكن بقائي غالباً يطول حتى ساعة متأخرة من الليل وأحياناً في فصل الشتاء عندما لا يتوقف المطر يمسك بي ويصر عل نومي في بيته فأنام الثالثة وأستفيق  الثامنة صباحاً أتجه من بيته إلى عملي مباشرة، وإذا لم أزره لأسبوعين يقوم بها وهو يحدثني بلهجة توبيخية.

لا أعرف سبب مضايقته للقيام بزيارتي وكل ما يجيبه: ( أنا في الخمسين وأنت في العشرين فمن تقع عليه الزيارة)؟ ويلفت انتباهي مضايقته الواضحة عندما أكون في بيته ويُطرق الباب من الخارج وأحياناً يجيب باستياء: أنا نائم يا حمار 0

لكن على الأغلب لا يزوره أحد، فهو يقيم في هذا البيت لوحده منذ ثلاثين سنة، لاأصدقاء له ولا أحد من أقربائه أو جواره يجرؤ على طرق الباب مهما كانت الدوافع حتى لا يسمع شتيمة، فهو يمكن له أن يشتم كائناً من كان دون أن يعرفه أو يراه ولمجرد أنه طرق  الباب، مثل أن يقول-عندما أكون موجوداً- للطارق قبل أن يراه أو يعرف هويته:/ابن الكلب لا تطرق هذا الباب مرة ثانية/ وقد سطر رجل مجهول هذه العبارة على بابه/لا تطرق هذا الباب يا حمار/ وصديقي نفسه لا يعرف من كتب هذه العبارة، لكنه يشعر بأنه كتبها نيابة عنه. يقول لي بأنه منذ ثلاثين سنة لم يزر أحداً من أقربائه مهما كانت المناسبة سلبية أو إيجابية، ولا أجد أي حرج من زياراته رغم نظرات الجوار الذين يجلسون على الأغلب في أمسيات الربيع والصيف أمام أبواب بيوتهم يحتسون الشاي ويبحلقون في المارة بنظرات استفسارية مزعجة، وعلى الأغلب يمعنون النظر إلي وأنا أتوقف مطولاً أنتظر أن يفتح /حسيب/ لي الباب لأنني أجد راحة هائلة لدى ناس غير عاديين وربما أغلب أصدقائي هم من هؤلاء، أفضل قضاء ساعات طويلة برفقتهم وقد لا أستطيع قضاء ربع ساعة فقط مع شخص /عادي/ أو /عام/ لا خصوصية لديه,وهكذا لا أحتمل زياراتهم إلى بيتي فأتحجج بعد دقيقة من جلوسهم بأنني على موعد هام وأصرفهم لأنني حقاً لا أحتمل ضياع ساعات مثلما هم يريدون ضياع وقتهم فقط حتى يموتون، لكن عند حسيب الذي لا يحتمله أحد ساعة واحدة، أجد راحة مذهلة ربما أكثر من وجودي في منزلي. مرة قلت لحسيب وأنا أخطط لعدم الزواج: ما رأيك بالحياة دون زوجة؟

أجاب وهو يبحلق في: ليس هناك أمتع من الحياة بدون امرأة وأولاد خاصة عندما لا يثق الرجل بقدرته على إعالة أسرة سوف تكبر مع السنوات.. أنا عشت سعيداً بدون مسؤولية لأن المرأة تحطم الظهر، كان علي أن أتحول إلى حمار لأحتمل هذا العبء المروع، ولم تتغير نظرتي حتى الآن لأنني عشت دون مشاكل وأعتقد بأنني سأموت دون مشاكل.  الآن أحس بحاجة إلى امرأة تخدمني فقط، لكن المجتمع متخلف لا يمنحني هذا الحق، وأنا أيضاً لا أستطيع أن أغريهن براتب كبير لأن ذلك فوق قدرتي، هذه هي الحقيقة، أتكاسل من جلي صحن أو غسل ثوب أو تنظيف البيت، هذه المسائل البيتية التي غدوت احتقرها تقلقني هذه المرحلة أكثر من غيرها وتكاد تخنقني الآن فأهملها يوماً بعد يوم، لكن القذارة ستأكلني وأنا مجبر على القيام بهذه الأمور التافهة0

قلت له: وهذه العزلة كيف تحتملها؟

ضحك وقد ضغط بكفه على كفي قائلاً: هي التي تحتملني، أنا جلبتها بإرادتي لتختطفني أو تعتقلني بالرغم، أنا أرغمت عليها البقاء معي، وهي المسكينة تحتملني لكنني بدون أصدقاء عشت في سلام، المبلغ الذي ورثته عن أبي ودعته في المصرف أعيش بفوائده، منذ عشرين سنة أقبض راتباً شهرياً من المصرف ,لست بحاجة إلى أن أكذب أو يُكذب علي، ولا أريد أن أكون ثرياً ولا أن ينصبوا لي أصناماً لا في حياتي ولا بعد مماتي ,ولا أن ينشروا صوري على أغلفة مجلات أو يجروا لقاءات إذاعية وتلفزيونية معي، أعيش لوحدي لا أريد شيئاً من العالم كله، أرفض كل شيء حتى الكتب والأغاني والكلام، لا أن أسمع ولا أن أُسمع, هل يشدك هذا النمط من الحياة، هل تعرف أن المشاكل كلها تأتي من الخارج0

قاطعته: والنجاحات أيضاً تأتي من الخارج

قال: عن أي نجاحات تتحدث

أن تكون ناجحاً هنا عندما تقنع نفسك بأنك ظفرت بكل شيء واسترحت: النوم- الكسل- الاستمتاع بالبقاء بالبيت- السهر- الابتعاد من الآخرين. هذه حرية حقيقية, حرية كبرى لا يحسها أحد غيري في هذه الجمهورية. الليلة أرغب بزيارته والسهر معه هذا الطقس الممثلج، وعدني منذ عشرة أيام بأنه سيكشف لي سراً خطيراً ما زال حتى الآن يحرقه وكان السبب الأول خلف اتخاذ قرار العزلة.

ابتعت خضاراً وفاكهة وبعض حلويات واتجهت إليه في السابعة مساءً، أخرجت حزمة مفاتيحي وطرقت بها الباب 00 تناهى صوته: هل هو أنت؟.

وضعت فمي في شقَي الباب: أجل هو أنا ألن تحفظ طرقاتي؟

سحب شق الباب إلى الداخل بقوة وأخذني بيديه محتفياً كأنني ابنه الضائع منذ ثلاثين سنة، وقادني إلى الداخل ,سحب وسادة أبركني عليها بالقرب من المدفأة، ولما لمحني أرتجف أخذ يدي بكفيه وصار يدفئهما على المدفأة تارة وينفخ عليهما م أخرى: لماذا تختفي.. هل عملك متعب. لماذا لا تأخذ إحازة ونسافر معاً إلى أي بلد آخر لدي نقود لا تلزمني سنصرفها ما رأيك هل توافق.. اجلس بالقرب مني أرجوك.. كدت أخرج للتو إليك، منذ أربعة أيام وأنا أنتظر مجيئك كل مساء. نظرت في عينيه المغلقتين مستفسراً عن سبب هذا الاهتمام الكبير بي ,لا أرغب في سرد التفاصيل الدقيقة التي يقوم بها، وأنا شارد بهذه الحالة انحدرت دموع من عيني عفوياً.

قلت له: هذا الاهتمام الغامض يؤلمني.

قال: لأنني أريد أن أفيك حقك.  

قلت بدهشة هازاً رأسي: أي حق؟

قال: لأنني أريد أن تأتي، فتأتي، أنت تحقق لي مسرة بحضورك

قلت: ولكنني أخاف بعض اللحظات هذا الاهتمام الزائد

قال: هذا كل شيء، قلت لك ما لدي.

مد يده يزيد السائل إلى المدفأة ثم حمل بطانية ولفها على كتفي قائلاً: حتى لا تبرد قد لا تشعر بأثر البرد لكنك ستعاني منه في المستقبل 0ثم تعاونا في إعداد العشاء عندئذ ومع مد اللقمة الأولى إلى فمي قلت: أنا مصر الليلة أن تروي لي قصتك السرية التي وعدتني بها المرة السابقة هل تذكر؟

كنت أعرف أن ثمة امرأة في هذه القصة ,وخطرت لي أحداث مثل أنه كان يخطط للزواج من امرأة، لكنها أعطته  جسدهاقبل الزواج  فلم يعد يثق بها، أو كان يحب واحدة فتركته، أو تعلق بامرأة فأخبره صديق بأنها على علاقات مشبوهة، كل هذه الاحتمالات خطرت لي فأصررت على معرفة  قصته أكثر.

سدد نظرة متأملة إلى شكل المدفأة وقال كأنه يحدثها: حدثت هذه القصة منذ عشرين سنة، السر الوحيد الذي ما زال يرعبني حتى هذه اللحظة وكان علي أن أبقى محافظاً عليه لأسباب ستعرفها بعد أن أرويها لك ,لا أدري لماذا أجدني مدفوعاً إلى قولها لشخص عزيز مثلك ولاأخفي بأنك تمثل الجزء المضيء  للحياة بالنسبة لي وأنني متعلق بك وهذا التعلق الذي يبلغ بي حد الألم يمنعني من مجرد لفظ /لا / وأنت تطلب شيئا ،قد تسألني عن السبب,أجيبك بأنني لاأعرف,ولكن أعرف بأنك تحمل أجزاء من كل العلاقات الحميمية التي فاتتني,تحمل جزءا من الابن,وجزءا من الأخ,وجزءا من الصديق الحميم,وحتى جزءا من الحب المفقود,ولذلك عندما تطرق بابي يوما ولاتراني ,اذهب إلى المصرف وإلى دائرة العقارات,ستجد مفاجأة خبأتها لك ربما لأشعر بأنك ستكون أقرب إلي حتى في موتي وستكون علاقتنا أكثر قربا وأنا في ذروة البعد عنك لاأعرف مالذي أصابني بذكره لعبارة الفراق فقلت:لاتقل هذا ,وكيف تكون قادرا على لفظ عبارات كهذه وأتا لاأتخيل حتى خروجك من هذه المدينة,لايعجبني الإستمرارفي اتجاه كهذا للسهر,قل لي القصة التي وعدتني بها.

بعد بريهات صمت تمتم بهدوء بالغ :  تعرف أن كل رحل على الأرض يريد أن يستقل من خلال الزواج حتى يمارس حريته الشخصية خارج سلطة الأب، أنا رأيت هذه المرأة ودامت علاقتنا خمس سنوات كنا نخطط فيها لحياتنا ونرسم المراحل والبرامج التي سنواجهها، خالدية كانت تسكن في حي شعبي وتزورني في الأعطال الرسمية عندما لم نذهب إلى الدائرة التي كنا نعمل موظفين صغيرين فيها 0في المرحلة الأخيرة اتفقنا على أن نتزوج لكنها في اليوم التالي غابت عن الدائرة، دام هذا الغياب أسبوعين فرحت أسأل عنها في الحي بحجة أنني سأبلغها قرار فصلها من الوظيفة، لكنني فوجئت بأنها متزوجة وتسكن في حي آخر مع زوجها00 لم أسأل عنها، وبعد مرور شهرين جاءت إلي في هذا البيت قبل ذهابي إلى الدائرة بربع ساعة وهي تعرض علي أن تعود علاقتنا

أنا كنت أريد مبرراً واحداً لهذا الفعل فلماذا وعدتني بالزواج وتزوجت بعد يومين من رجل آخر.

قلت: عندما تزوجت مات كل ما كان بيننا

قالت: لن ينتهي شيء ما دام قد بدأ

-   على أي أساس لن تنتهي علاقتنا وما الفائدة؟

أنا عازب وحضورك في بيتي سيسبب لكلينا إشكالات إن بدأت لن تنتهي بالفعل!!

جلست على الكنبة وقالت: هل صرت تكره حضوري.

- لا شيء لي عندك ولا شيء لك عندي، كنا نتحدث عن حياة كاملة عن مستقبل كامل لإنسانين،لكائنين،قولي لي ما الذي سنقوله،هل هناك غير مضيعة للوقت، عندما لا تأتين سأبحث عن غيرك ختى نرسم المستقبل.

نظرت إلي نظرة تحمل عبق السنوات الخمس الماضية وهي تقول: لكن أنت كلك تعنيني هنا .

-   وأنت لا تعنين لي غير الماضي الذي مات ولم يعد يصلح للحاضر.

هنا بكت خالدية وقالت: إذا لأصارحك الآن، أجل عندما كانت علاقتي بك كنت أخونك مع شخص آخر، كان هو ثرياً وكنت بحاجة إلى نقوده، كنت أجلس معه في الشهر مرتين فيعطيني ما يعادل راتبي ثلاث مرات ,كنت أستمتع بهذه النقود وعندما كان ضميري يؤنبني كنت أغيب عنه لكن بعد شهرين ولأنني بحاجة إلى نقود كنت أعودإليه مرغمة0 هذه هي الحقيقة التي أخفيتها عنك حتى يكون كل شيء واضحاً. كنت ألجأ إليه من أجل نقوده، لكنني كنت أجيء إليك من أجلك فقط ,من أجل حبنا. بعدما خرجت من هنا آخر مرة ونحن نرتب لاستعدادات الزواج ,  شككت بأنني حامل بسبب تأخر دورتي الشهرية، وفي اليوم التالي ذهبت إلى التحاليل بدل الدائرة ليخبرني الطبيب بنبأ الصاعقة الذي حول شكي إلى حقيقة لامفر منها , فأنا حامل وعلي أن أتصرف ، فكرت بك مليا ولكن كنت واثقة بأنك لم تكن لتساعدني في أمر كهذا ,ولن يكون بوسعك أن تغفر لي خطيئة كهذه 0اتصلت من هناك مع هذا الشخص وطلبت أن يأتي إلى مخبر التحاليل ليسمع ذلك بنفسه ويتصرف بموقف سريع  ،ويبدو أنه كان راغبا في علاقة كهذه لا لأنه يحبني , بل لأنه معجب بجسدي وقد استطعت تلخيص ذلك من خلال علاقته بي رغم حديثه عن الحب , لأن الحب الذي عشته معك علمني بأنه أسمى من أن يتعرض على يد المحب لأي شكل من أشكال التلوث , ويبقى محافظا على صفائه ونقائه مثل طائر حر ,  وهذا ما حدث فقد  جاء في اليوم التالي وطلبني للزواج لأنني هددته بأنني لن أحتمل العاقبة لوحدي وسأصارح أهلي بالحقيقة عندما يعاقبونني لبكون العقاب لكلينا وكان هو يعرف بأن أهلي سيرهقون دمه ودمي معاً لهذه القضية وفي أقصى سرعة تم الزواج0

كيف كنت تريدني أن آتي واخبرك بهذه الوقائع، وهل كنت ستحتمل هذه الخيانات حينذاك؟!

-   والآن انتهى ذلك على خير لماذا تنفخين في رماد النار التي انطفأت

- أنا أعرف لماذا جئت إليك، وهذا هو رجائي الوحيد حتى لا أخسرك مرة أخرى، هل تصدق بأنني لا أستطيع النوم، أشعر بإثم كبير نحوك، مثلاً كأنني تركتك مجروحاً 0بعد تفكيرمؤرق وصلت إلى نتيجة تخلصني من هذا العذاب، فمثلاً أنا خنتك مع هذا الرجل وحتى أعيد لك ثأرك، سأخونه معك وفي الوقت الذي سيكون هو فيه زوجي ستكون أنت عشيقي، والفرق شاسع بين الزوج وبين العشيق، هكذا سأتخلص من الألم، هذا ما توصلت إليه.

- هل أنت يا خالدية  تقولين هذا الكلام!!0 لقد سقطت خالدية عندما تركتني… والآن أي سقوط آخر هذا ,كيف لم أتصور أن حبي الذي كان بحجم العالم سيودي بمن أحب إلى هذا الهلاك وقلت بنظراتي وصوتي: خالدية هل أنا من  سيحيلك إلى عاهرة/

-   سأملأحياتك.. عندذاك سأمنحك كل حياتي

- أي حياة، أنا لست بحاجة إلى أن تمنحيني حياتك، حياتي تكفيني , لن أخون حبي الذي كان كبيراً ذات يوم حتى لا أشعر بأنني كنت أحمقاً وغبياً.  لن أدفع ثمن خطأ لم أرتكبه، ادفعي أنت لوحدك الثمن، يمكن ان تخونيه مع رجل آخر أو أكثر من رجل، أنا الآن خارج الموضوع لأننا لم نكو متفقين على علاقتك به، أليس هذا صحيحاً قولي هل أقول غير الحقيقة؟

-   ولكنك بحاجة إلى امرأة… كل رجل بحاجة إلى امرأة..

- صحيح/امرأة/ أما زوجة أو حبيبة أو عاهرة، وأنت لا تصلحين أن تكوني زوجتي ولا حبيبتي ولا أستطيع أن أعاملك كعاهرة، لأنك كنت حباً كبيراً، سأخدع نفسي.. أنا أعجز عن ذلك لست وصية علي, هذه هي مبادئي كيف سأعيش مجرداً من المبدأ، وفي حال إصرارك سأقدم استقالتي أو أسافر إلى مدينة أخرى أو دولة أخرى أو حتى قارة أخرى.

- أنت تحقد علي وتريد أن أموت حزناً.. ألا تنظر كم هزلت ألا ترى ارتجاف يدي، أقول لك بأنني أصارع الموت ألا تفهم، يجب أن تفعل ذلك ولو مرة واحدة في حياتي لأدافع بها عن نفسي ولنفسي : / لأن حسيب أصبح أيضاً مثل زوجي/ مثلما خنت حسيب مع هذا ها أنا أخونه مع حسيب 0

- لا لا أريد /أنت كنت حباً كبيراً/ لن أتنازل عن هذا المبدأ حتى لا أكون منافقا ، الآن سأذهب إلى العمل، هذا هو ردي الأخير. 

فجأة احتقن وجهها وسقطت على الأرض.. ناديتها، لم تجب، رششت ماء على وجهها ولم تتحرك، تحسست دقات قلبها، وعرفت بأنها فارقت الحياة، صُدمت بهذا الواقع، لم يعد عقلي قادراً على التفكير… مددت يدي إلى علبة الأقراص المنومة، ها هو مستقبلي الذي ضاع يتحول إلى جثة أمام ناظري , وفجأة وأنا انظر إلى خالدية والأقراص بيدي انتفض الماضي كله على جثة المستقبل الميت: خالدية هل سنموت ذات يوم؟

-   لا أصدق، وحتى لو متنا فإننا سنعيش هذا الحب الكبير في الموت، حبنا هو القيمة النظيفة الوحيدة لدينا.

-   خالدية حبنا هو أروع لحن في هذا الزمان تعزفه البلابل ويغنيه الربيع

-   هل سيموت كل هذا يا حسيب هل تعتقد ذلك كله

أفرغت علبة الأقراص بيدي، كانت خمسة أقراص ابتلعتها دفعة واحدة  وقد تركت ورقة كتبت عليها:/ هذا ما فعله بنا الحب/.وراودني إحساس بالانتصار لأنني سألتحق بها، أغمضت عيني وأنا أرى أن ما قالته خالدية كان حلماً، وبعد لحظات سأرى خالدية الحقيقة وسأظفر بها0 الحياة لم تعد تعنيني لقد تجردتْ من كل شيء عندما خسرتُ خالدية، لقد ماتت خالدية التي كانت كالقلب بين جوانحي، والآن سألتحق بها، أنا واثق بأنني أقوم بعمل صائب.

لا ادري ما حدث بعد ذلك، أو كم من الساعات مضت ولم يسبق لي أن دخلت واقعاً كالذي أنا فيه، ولم يعد الموت يرعبني من ذاك الوقت..لن أقول/لقد مت/، لكن أقول بقناعة/ لقد عشت/ هذا  سر أبوح به أمامك  بسرية تامة، رأيت عالماً غير هذا عندما دبّت الحياة في كرة أخرى وخطفتني من ذاك العالم المدهش السحري، في اللحظات الأولى لم أرغب في النهوض، حاولت المقاومة بكل الوسائل حتى أوهم نفسي بأنني ما أزال في ذاك العالم السحري ولكنها الحقيقة المروعة والواقع الصدامي، وعادت الحياة هذه تحتل حواسي وتعيد إلى ذاكرتي من جديد ذاك الكم الهائل من ذكرياتي فيها، رأيت رأسي على صدر خالدية وهي ممددة في الغرفة وقد شحب وجهها أكثر، عندئذ عرفت وأيقنت بأنني أمام إنسان ميت، أجل كانت ميتة تماماً، يا له من منظر مروع/خالدية حقاً ميتة/ ولن تعود.

تذكرت من جديد ما حدث عندما دخلت خالدية صباحاً وأنني لم أذهب إلى الوظيفة، عادت التفاصيل عندئذ نظرت إلى الساعة وقد سرتُ باتجاه الباب وأنا مثل شخص كان ميتاً وفجأة نهض ورأى نفسه بين المقابر، رائحة الموت كانت طافحة  تفوح من خالدية بقوة.. الساعة تشير إلى لثانية، في البدء ظننتها ثانية الظهيرة ولكنني عندما فتحت الباب بحذر وخرجت إلى الحوش، أدركت بأنها ثانية بعد منتصف الليل وأدركت بأنني أمضيت ثمانية عشر ساعة متواصلة في حالة غيبوبة على إثر تناولي الأقراص المنومة الخمس،استنشقت هواء وعدت إلى الغرفة، غطيت خالدية ببطانية. تناولت إبريقاً من العصير لأسد معدتي الخاوية وشردت بالعمل الذي سأقوم به، فكرت ان أبلغ السلطات قبل أي تفكير آخر،

- وماذا سأقول لهم، ماذا سيكون موقف خالدية وأنا أفضحها في موتها، فما الذي يبرر حضور امرأة

متزوجة منذ شهرين في بيت شاب عازب مثلي/ولكن من المؤكد أن زوجها وأهلها قلبوا المدينة وهم يبحثون عن ابنتهم المفقودة/.

خرجت مرة أخرى إلى الشارع مرتبكاً وهذه المرة لفتت دراجة المستأجر الطالب نظري وكان عندذاك يسكن الغرفة التي تحولت الآن إلى مطبخ, ودون أي تخطيط بما سأفعل, قدت الدراجة الهوائية إلى الشارع وعدت إلى الغرفة دون أن أدري ما سأفعله، أمضيت وقتاً لا بأس به في حمل خالدية إلى الشارع وتعديلها على مقعد الدراجة أمامي وقدتها بركبتين تصطكان إلى أن وصلت منتصف الطريق الواصل إلى بيتنا 0وقفت في ركن أشد ظلمة، أنزلتها ومددتها على الأرض بجانب أحد البيوت إذ لم تكن حينذاك أرصفة، غطيتها بالبطانية لكنني عندما ركبت الدراجة فكرت ان البطانية ستثير أسئلة، فنزلت وسحبت البطانية تركتها دون غطاء في ذاك البرد الشديد كانت الحرارة من المؤكد تحت الصفر قلت في نفسي: بعد ساعتين على الأغلب سيتفيقون ويبلغون السلطات التي ستتولى مهمة تدبير أمرها. 

عدت إلى البيت، أعدت الدراجة إلى موضعها وأغلقت الباب على نفسي… ها هو شبح خالدية من جديد يتمدد في ذات المساحة، رائحة الموت الفظيعة تملأ الغرفة0 لقد تركتها في ذلك الصقيع ولم يكن أمامي خيار آخر غير ذلك كم كنت رجلاً قاسياً، لو كانت حية لنظرت إلي نظرة خيبة وأنا أتركها في ذاك الركن مكشوفة، لكن أدافع عن نفسي بأنني ما فعلت ذلك لأجلي, فها أنا أبوح لك بكل شيء، لكن من أجل إنقاذ سمعتها. لقد ماتت ويجب أن يبقى هذا الموت غامضاً إلى درجة الإقناع بأنها ماتت مثل الملايين الذين يقضون  بأزمات قلبية في الطرقات.. لم تكن مسمومة ولا يوجد عليها أي خدش، إنه موت طبيعي، لكن منذ صباح الأمس وهذا هو اللغز الذي ما زال يثير فضول الكثيرين، هذا ما استطعت أن أقدمه لخالدية في موتها بين يدي،بعد كل هذه السنوات ما تزال خالدية تحرقني في أحلامي، وكلما نظرت إلى ذاك الركن أراها ممددة هناك وأراني أحملها من جديد.

توقفت غصة في حنجرته ومنعته من إضافة كلمة أخرى, تركته بصمت دون أي تعليق وغادرت لأول مرة في الثانية ليلاً دون أن يلح علي كعادته: / ابق 00 نم هنـا  / 0

         

تعريـف:

 عضو اتحاد الكتاب العرب

عضو جمعية القصة والرواية السورية

الإصدارات:

1-سيمفونية الصمت - قصص - دار المجد - دمشـق 1989

2-الحب في دائرة العبث - قصص - دار المجد - دمشق  1991

3-طقوس الذكرى -  قصص -  مجلة الثقافة - دمشق 1992

4-برويـــن -  روايـة   - مركز رام - دمشق - 1997

5-ديـــــن  - روايـة - دار الينابيع - دمشق  2004

6-جسد وجســد -  روايـة -  دار الينابيع - دمشق 2004

7-كتاب الحب والخطيئة  -  قصص -  مركز الإنماء الحضاري - حلب 2004

8-فقــــــه المعرفــــــة -  في جزأين  -  دار المنارة - دمشق - بيروت  2004

9-فقـه المعرفــــة  - الجزء الثالث / إسلام ومسلمون وفقهاء / - دارالرضوان -  حلب 2004

الجـوائــز:

-جائزة / المبدعون / للرواية العربية في الإمارات عام ‏2002‏‏‏

-جائزة نادي الطائف الأدبي للقصة القصيرة  2003

- جائزة نادي حائل الأدبي للقصة القصيرة 2003

-جائزة ناجي نعمان الأدبية في لبنان 2004

-جائزة نادي الفجر لأفضل عمل قصصي في الأردن 2004

العنــــوان:

صندوق بريد  267

محافظــة الحســــــكة

الجمهورية العربية السـورية

هاتـف منزل      :  0096352367462

خليـوي           : 0096394384267

البريد الإلكتروني  [email protected]