القيامة
30نيسان2005
يحيى الصّوفي
القيامة *
يحيى الصّوفي
هاهو أخيرا يجلس وجها لوجه أمام ملفاته الكثيرة التي قضى عمره كله يجمع بها.؟
لقد جاء اليوم الذي ينتظره لكي يلملمها ويخرجها من مخابئها الكثيرة المتفرقة.!... أكثرها مشقة تلك التي تخفت كلماتها واختلطت حروفها مع حسابات بيته ومصروف عائلته على شحتها.!؟... انه يدرك أخيرا صعوبة استعادتها من بطون تلك الصفحات البالية وقد حرص أن لا تكون سهلة التفسير مكتملة المعاني والمقاصد على من يبحث عنها خوف من الملاحقة أو العقاب.!؟... ولم يكن يدرك بأنه سيقع في فخ صنيعه وبأنه سيتعثر في جمعها وفك طلاسمها العجيبة ومعانيها الغريبة وكأنها من فعل غيره.! خاصة بعد أن ضعفت حدة خطوطها وتقطعت أوصال حروفها حتى لكادت تشبه تلك التي تكتب بالحبر السري تحتاج لخبرة خبير وعين بصير لقراءتها وترجمة معانيها.!...فلقد أضحت باهتة ضعيفة بفعل الزمن ولكنها أبدا لم تخسر قوة الحق الذي تعنيه.!؟... وذاك الذي يضم أكثر عدد من الصفحات والأحداث والكلمات والنقاط وإشارات التعجب والاستفهام كان أكبرها.!... وحبره الذي خط آخر حرف من حروفه ودوّن مجموع آخر حساباته بأرقام وصلت إلى خانة مئات الألوف لم تجف بعد.!؟
اجل هاهو يجلس أخيرا وجها لوجه أمام غرماءه ممشط الشعر حسن الهندام والمظهر عطر الرائحة.!
ونظراته القلقة المتحفزة وهي تجول بين عناوينها المثيرة التي جمعت بين أسماء كثيرة لمهن ومراتب وألقاب ما كان ليحلم باجتماعها هكذا في مكان واحد ورزمة واحدة وعلى طاولة واحدة وبحضور قاض عادل لا تشوبه شائبة في قراره أو حكمه أو إنصافه.!
ومراجعته لتلك العناوين والأسماء التي تتصدر تلك الملفات عادت به سنين طويلة للخلف تصل حدود وعيه وفهمه وإدراكه للحياة ومعانيها الكبيرة المقدسة في الحرية والعدل والمساواة.!...إنها تضم وبمنتهى البساطة تاريخ حياته كلها.!؟...والبعض منها ليس غريبا عنه ويتصل به وبوجوده.!... ولكن ليس له الخيار فعليه أن لا يستثني أي كان من هذه المواجهة الحتمية التي لابد منها.!... ووجد نفسه -وهو يتفحصها- واقع في حيرة كبيرة لا يحسد عليها في اختيار الأهم منها لتتصدر مرافعته وتكون مركز شكواه ومدخلا لمحاسبة المسيئين له وأعداءه.!؟... وتسائل وهو في خضم هذه الحيرة من أين عليه أن يبدأ.؟
هل يبدأ بالخباز الذي يستولي على بعض من جودة ووزن رغيفه.؟... أم من عامل النظافة الذي يقضي وقته في تفحص القمامة بعد أن يمزق الأكياس النظيفة عنها بدلا من جمعها وإبعاد أذى رائحتها والأمراض التي تحتويها.؟...أو ببائع المازوت يبيعه ماء مغشوشا بدلا من الوقود.!؟.. أو ربما يبدأ بموظف الضرائب الذي حضر بكل هيبته وسلطته المعطاة له لكي يبتزه ويسرق بعض من أثاثه أو قوت بيته وكأنها دية وواجب عليه أن يلتزم بدفعه لقاء التأجيل والتأخير.؟...أو ذاك الشرطي الذي يرافقه ينتظر أن يقاسمه غنيمته... أو مختار الحي الذي باع شرفه ليشهد زورا بتمنعه عن الدفع لتكون مطية له لكسب بعض من الدراهم الحرام.!؟...أو لماذا لا يبدأ برئيس المخفر الذي احتجزه ظلما ليومين وأحاله للقضاء ومن ثم السجن بسبب تهمة زور كاذبة دون أن يتحقق منها ولمجرد أن يرضي حاجة زوجته أو زوجة أحد المسئولين لتصفيف شعرها بالمجان عند صاحبة الدعوى.!؟... إن مجرد تذكره لتلك التهم البسيطة تصيبه بالغثيان ويشعر بحاجته للتقيؤ.!؟... فكيف به الحال إذا ما تفقد ما هو اكبر من هذا وبدأ بملفات الظلم والقهر التي أودت بمستقبل جيل كامل من أهله وأصحابه ومقربيه لمجرد الشبه أو الشكل ( كحمل اللحية ) أو حمل اسم يدل على دينه أو طائفته أو تجاوبا مع تقارير كتبت بأيدي جهلة حقودة يتلمسون المنفعة الشخصية الضئيلة أو عبارات الإطراء فنرى النجوم تتكاثر فجأة على أكتافهم والألقاب تزداد بسرعة البرق على أسمائهم والمقاعد الوثيرة الحديثة تستبدل في مكاتبهم وتشاد الفلل الفخمة ويمتد العمران حتى يطال أعنان السماء وتتوسع الحانات والمراقص ودور القمار وتتحول فتيات الغجر من أعمال الزراعة في الحقول إلى عاهرات في القصور.!؟...لما لا يبدأ بمعلمه الذي صفعه بقوة على احد وجنتيه فسبب له الطرش في إحدى أذنيه لمجرد انه كان سهل الوصول شديد التأدب حد الخنوع ولا يملك خلفه من يقدر على محاسبته أو يدفع الشر عنه.!؟...أو ربما بمدير مدرسته الذي كان يسرق مخصصاتها من وقود التدفئة ليحرموا منها معتمدين عمن يتكرم من أولياء الطلاب بها فتقدم أولادهم لينالوا نصيبهم من الدفء على قدر مساهمتهم وليحرم الآخرون منها.!؟...أو لما لا يبدأ بالداية ( المولدة ) التي أشرفت على ولادته فأعطبت بإحدى حركاتها الطائشة احد مفاصله ليبقي طوال عمره يحمل ألمها وكأنها عاهة خلقية ولدت معه فكانت سببا في تأخره عن تحصيل النجاح المطلوب كأقرانه.!؟...أو بكل بساطة يبدأ بأمه التي أنجبته وأباه الذي كان سبب وجوده وتقصيرهم في تامين اقل ما يمكن من الحماية والتوعية والعلم له ولإخوته فكانت سببا في حرمان اثنين منهم من متعة المشي لإصابتهم بشلل الأطفال رامين العذر بتوكلهم على الله.!؟...أو سيكون من الأولى له أن يحاسب حبيبته أولا بعد إن تركته صريع حبه المجنون لها فاقدا لأي ثقة بالجنس الآخر فأودت -خيانتها لحبه الطاهر- به إلى هاوية العزلة والشك.!؟... أو ليبدأ بزوجته فعدد الحجج السيئة المحسوبة عليها كثيرة...أو لما لا أولاده أو إخوته أو جيرانه أو بائع الخضار... أو الحلاق أو البقال أو بائع الحليب أو طبيبه أو محاميه أو النجار... أو الحجارة المتناثرة في السهول والوديان والطيور على كثرتها ولما لا الأشجار...أو العواصف التي تهب بغير مواسمها أو الغيوم التي تحجب الشمس أو الأمطار.!؟...ونظر حوله باهتمام وترقب وهو يتفحص اكبر ملفاته وأكثرها دقة ونظافة وترتيبا وحوت آخر حروفه وأرقامه فوجده ثقيلا بالذنوب وعرضة للتدقيق والعتاب والمحاسبة أكثر من غيره لما يملكه صاحبه من علم ودراية وثقافة ووعي خاصة وبأنه يخصه ويحاسب من خلاله تقصيره مع غيره.!... فضحك مليء شدقيه وتسائل إذا ما كان عليه أن يبدأ به فهو مرآته للآخرين وصورة عنهم.؟... أم أن عليه أن يلمم أوراقه وملفاته بصدقها وكذبها ببشاعتها وجمالها...بظلمها وعدالتها...بمرها وحلاوتها.؟... ويعود بها إلى صمته السابق... إلى قبره.!؟
هامش:
كتبت هذه القصة على وقع الأحداث الأخيرة في لبنان وتصاعد النبرة في فتح الملفات ومحاسبة المقصرين