بوح القمر

زهرة البيلسان

قد يعجب قوم من العلاقة التي تجمعني بالقمر وقد يسخر آخرون وينعتونني بذات العقل الناقص إذا ما رأوني أديم النظر لوجه حبيبي أما البعض فيقول أني خيالية أسبح في ملكوت السماء ولا رابط بيني وبين الواقع لكن لو تعلمون أيها البشر أن ذاك الكوكب الفضي لا يكاد يبارحني في أي حال من الأحوال حتى إني أشعر به يؤثر على أنماط حياتي التأثير العجيب فكم أكون سعيدة متفائلة عندما أجده بدرا في كبد السماء ولكم أشعر باليأس والأسى عندما يودعني راحلا

ذلك الكوكب الذي أجالسه لساعات وساعات دون ملل أتأمله بالطلعة البهية وبالوجه السمح الذي تعلوه ابتسامة

دافئة هادئة ساحرة (سبحان من خلق) (سبحان من له في كل شيء آية تدل على أنه واحد أحد)

لكن في هذه الليلة وبينما كنت أطالع صفحات السماء السوداء باحثة عن قمري رأيت أشعته تتسلل لتكسر تلك الظلمة ولتضفي على سواد الليل أنساً وعلى عتمته ووحشته بهجةً وأملاً إلا أن قمري بدا بين الغيوم حزينا ًكئيباً على غير عادته ,فأوجست الخيفة في نفسي ورحت أتساءل عن الأسباب التي جعلت القمر يبدو بهذا الحزن والأسى .. لعلني أغضبته في البعد عنه لعلي كنت مقصرة في أحد الأمور هنا أو هناك ,حرت في أمري كثيراً إلا أنني لم أجد الجواب الشافي فتمنيت لو أستطيع محادثته ومساءلته عن السبب الذي جعله يظهر على هذا الحال,وكدت أتركه فاقدة الأمل حاملة ما أعانيه من مرارة الألم والعذاب على ما لمسته من حال القمر وبينما أنا أهم بالدخول من الشرفة سمعت صوتاً ينادي من بعيد ...

-                      صغيرتي توقفي أرجوك لا تتركيني في هذا العالم وحيداً أقاسي أنواع العذاب , تعالي وأسمعيني أرجوك ...

نظرت حولي فلم أجد أحدا وحسبت أني أتخيل أو ما شابه وهممت بالدخول مرة أخرى إلا أن الصوت عاد يناديني

_ يا صغيرتي ألم تعرفيني أنا حبيبك القمر

استدرت فرأيته ينظر إلي وعيناه تبرقان بنور ٍ لم أعهده من قبل..

- هذا أنت –إذن- يا قمري آه كم تحرقت لحديثك وتشوقت لمساررتك لأني أعلم علم اليقين أن مايدور بيننا لا يمكن أن يعرفه أحد من الخلق كله ...

تبسم قائلاً

- أعلم ذلك ياحلوتي ولطالما سمعت بوحك لي وتأثرت لحالك فأسعد لفرحك و أحزن متألما لعذابك ولكن خذيها نصيحة من حبيبك الذي لا يخشى إلا عليك لا تأسي على دنيا فانية ودعي الله أمام ناظريك فيكون هو المقصود ورضاه هو المطلوب ,فهذا ما تجنيه من هذه الدنيا البالية التي لا يكسوها إلا قشور ولا يلهث خلفها إلا مخبول . انظري إلى أولئك البشر كيف نسوا الخالق وسعوا نحو المخلوق , نسوا ما خُلقوا من أجله وما سيسألون عنه وضاعوا في غيابات الهموم واللهث خلف لقمة العيش المذموم بينما ما خلقوا من أجله أسمى بكثير بكثير والله أعلم

 _صحيح كل ما ذكرته وأسأل الله سبحانه وتعالى ألا يجعلني من أولئك القوم الذين خسروا الآخرة فخسروا معها الدنيا ولكن قل لي يا قمري ما الذي يحزنك أنت؟..

_ آه.. يا حبيبتي.. إن جل ما يحزنني ما لقيت عليه البشر من خذلان ونسيان للإسلام ورميه خلف ظهورهم حتى أضحى غريباً ضعيفا ًهشاً.. تعبث به الرياح كما تشاء

_ رويدك ياقمري ليس الحال كما تظن فلا بد أن يكون هناك أمل يشع بالنور كما تشع أنوارك في عتمة الليل ..

_ أرجو ذلك حقاً ياصغيرتي ولكن هلمي معي في هذه الرحلة لأريك ماذا فعل تقصير المسلمين بالإسلام ..

مد شعاعاً من نوره أحاط بي وطار بعيداً ,فقلت له

-                      إلى أين؟

-                      قال لاتستعجلي فالآن ستدركين مقصدي ...

وصلنا إلى إحدى الدول الغربية فأنزلني في دار للأيتام ,وقال لي:

اذهبي إلى ذلك الطفل الصغير الذي يجلس في زاوية الغرفة وقدمي له هذه الألعاب واسمعي وعي ما سيقوله ذلك الصغير الكبير.

تقدمت منه وإذا بصبي صغير يجلس على الفراش بينما تعلقت عيناه في السماء والدموع لا تكاد تتوقف من تلك العينين السوداويين أما هو فكان ذا شعر أسود وسحنة وردية ووجه كفلقة القمر في الجمال فشعرت بالحزن عليه وسألته:

- ما بالك يابني لمَ هذا البكاء؟

عندما سمع كلماتي هذه نظر في وجهي واشتد بكاؤه بصوتٍ عالٍ يتفطر له قلب الكافر.

- هدئ من روعك قليلاً وانظر إلى هذه الألعاب التي أحضرتها لك, انظر كم هي جميلة ..

نحَّى الألعاب جانباً ثم رمقني بنظرة استهزاء وعاود نظره إلى السماء قائلاً:

- أتظنين أنني صبي كباقي الصبية الذين يرضيهم كمٌ من الحلوى أو قليل من الألعاب التافهة؟ ما أنا أيتها السيدة إلاصبي يعيش في خطب جلل لا ذنب له فيه .. غير أنه مسلم

قلت: حدثني يا صغيري ما هي قصتك؟ عليّ أكون المعينة لك في خطبك هذا ..

قال : أما المعين فليس إلا الله وأما قصتي فأنا ياسيدتي صبي مسلم من أصل عربي وكل ما أعرفه أن أمي_ رحمها الله_

انهار أمامي فجأة وأجهش في البكاء حتى انقطعت أنفاسه "فقلت:

-                      لا عليك يا بني أكمل وحسبي الله ونعم الوكيل

" مسح دموعه الغزيرة التي كلما حاول إيقافها انفجرت من جديد وبصوت متقطع أكمل قصته...

كنت أمضي وأمي أمتع الأوقات في المتنزه المقابل لمنزلنا ,أضحك وألعب وأركض هنا وهناك ,وبعد طول لعب طلبت مني أمي العودة للمنزل لكني رجوتها وليتني لم أفعل أن أجلس قليلاً على الأرجوحة ,فاستجابت لي بعد طول إلحاح . قصدنا الأرجوحة, وإذا بصبي أجنبي يجلس عليها فاستأذنت منه أمي وحملته بلطف لأجلس مكانه قليلاً وما هي إلا لحظات حتى أقبل رجل أشقر أشعث راح يخاطب أمي بغضب شديد وبكلمات لاذعة لم أفهمها. إلا أن أمي لم تعره انتباهاً , وحملتني بين ذراعيها ضامةً إياي بقوة عائدةً إلى المنزل بدموع غزيرة سالت من عينيها مبللة بها نقابها الطهور وممزقة بها قلبي الصغير فقلت لها:

-                      أمي.. أتبكين ؟

قالت بصوت مرتجف: لا.. لا عليك يا ولدي

تابعت المسير حتى قابلنا أبي عند مدخل البيت فسأل أمي:

-                      ما بالك؟ لماذا كل هذا البكاء ؟

فقصت له الحادثة وعندما سمع ما جرى لنا ضمنا إلى صدره وقال:

- لا عليكم ,ولا تصغي يا حبيبتي لكلام ذلك المعتوه ..

وبالفعل مضت هذه الليلة وأخذتني أمي إلى النوم إلا أن بريق الحزن الذي كان يتلألأمن عينيها لايمكن لي نسيانه ماحييت 0نظرت أمي في عيني قائلة:

-                      أرأيت يا بني كيف أصبح الإسلام ذليلا غريبا؟

قبلتني ومضت , لم أفهم حينها مقصدها إلا أني شعرت بخطب ما ينتظرني وعائلتي ...

بالفعل بعد مرور عدة أيام وبينما أنا جالس ألعب في فناء المنزل قرع الباب وإذا بموظف الحكومة يحمل دعوة لحضور أمي إلى المحكمة بتهمة قذف الجار بالشتيمة استلم أبي هذه الدعوة و أغلق الباب مذهولاً لما حدث حائراً في أمره كيف يتصرف؟ ماذا يفعل؟ بل كيف سيخبر أمي ؟.....

أقبل إلى المطبخ بينما كانت أمي منهمكة بتحضير الطعام اقترب منها وضمها إلى صدره فأدركت بشفافيتها أن الدهر قد غدر بنا ودار بدورته علينا تمالكت نفسها قليلا وقالت:

-                      قل لي ما حدث ومن كان يطرق الباب فأنا أدرك تماما ما نحن مقبلون عليه......

ولكن عندما أخبرها أبي فوجئت بذلك وانفجرت بالبكاء إلا أن أبي حاول التخفيف من روعها و أخبرها بأنه سيوكل لها أفضل المحامين لتتبرأ من هذه التهمة....

مرت علينا عدة أسابيع كانت من أسوأ ما قضيناها في حياتنا فلم يعر ف كل من أمي وأبي النوم لشدة التفكير بينما قضوا معظم وقتيهما بين المحامين وكل يعطي اقتراحاته و حلوله, بينما شعرت أنا بسحابة سوداء تقترب من منزلنا شيئاً فشيئاً لكني شعرت بالخوف دون أن أعي السبب حتى كان ذلك اليوم الذي ذهبت فيه بصحبة أبي و أمي إلى المحكمة و جلسنا في الطرف المقابل الذي كان يجلس فيه ذلك الرجل نظرت إليه وإذا بشرر الغضب ينطلق من عينيه نحو أمي و أبي فشعرت بالذعر يعتري قلبي وأمسكت بأمي قابضاً على يدها فضمتني إليها و تبسمت ثم قالت:

-                      لا تخف يا صغيري فأنا معك .

بدأت المحاكمة بدأت الأصوات و الهتافات تعلو ,حتى جاء وقت النطق بالحكم و يبدو أن ذلك الرجل أدرك بسجيته أنه خاسر لتلك القضية فما إن نطق القاضي بحكم التبرئة لأمي ,حتى كشر عن أنيابه و أخرج من ثيابه مسدساً رمى بطلقاته القاتله أمي فأرداها قتيلة و أبي فأودى به طريح الفراش يصارع الموت من أجلي...

أمسك الطفل بيدي و راح يصرخ:

- قتل أبي ... قتلت أمي أمام ناظري و أمام أنظار العالم بأسره و كل ذنبها أنها مسلمة منقبة وا إسلاماه...وا إسلاماه من ذا يعيد لي أمي ؟, من ذا يعوضني بجنانها.؟. انظري يا سيدتي إلى يدي هذه لقد لمست دمها الطاهر لقد وضعت رأسي على صدرها و عيناها ترمقاني بنظرة الألم نطقت آخر كلماتها:

- بني لا تدع الإسلام ..بني دافع عن دينك حتى آخر قطرة من دمك ..بني ديننا غال ترخص له الأرواح و الأبدان فلا تكن من الخاذلين و ارفع رأسك عالياً أنك من المسلمين.

ثم أغمضت عينيها و فارقتني فاتجهت نحو أبي و رحت أصيح:

- أبي ..أبي لا تتركني أرجوك

فقال لا تخف يا بني إن الله معنا و يراقبنا ولا بد أن ينصرنا في يوم من الأيام

ثم غط في غيبوبة لم يصحُ منها حتى هذه اللحظة , لقد تركاني وحيدا أصارع الحياة والعالم بأسره ودفن رأسه بين ذراعي وراح يبكي وكل دمعة تسقط على يدي أشعربها ناراً تحرق فؤادي وتحدث فيه جرحاً لا يندمل وكأني الملومة على ما حدث لذلك الصبي الصغير, وإذ بدموعي تنفر من عيني فتكوي وجنتي.. أين أنا من الإسلام ؟ بل أين أنا من الإيمان بل ماذا سأقول لربي إن سألني يوما ماذا فعلت من أجل هذا الدين؟ لقد ضحت أمه بنفسها لأجل هذا الدين أما أنا فماذا فعلت ؟لا شيء ...........

شددته إلي وقبلته ضامةً إياه إلى قلبي ,قائلةً له:

- بوركت أمك يا ولدي لقد دفعت روحها ثمناً غالياً لتجارةً غالية ألا وهي الجنة... أما أنت فسيكون مستقبلك زاهرا مبتسماً لأنك ستضيئه بنور الإسلام و الله سيرعاك يا ولدي بعنايته ...

واعلم يا ولدي أن كل أمر دون الإسلام يهون ... فلا تخف ودع الله نصب عينيك وثق كل الثقة أن كل أم عربية مسلمة ,وأولهن أنا, تتمنى أن تكون أماً لك أيها الشبل المغوار الذي سيرفع راية الإسلام عالياً ....

 مسحت بيدي شعره ثم رفعت رأسه لأرى البسمة قد رسمت على ذلك الوجه البريئ ونور الأمل راح يشع من عينيه من جديد .....

قلت له : انظر يا بني إلى ذلك القمر واجعله الأنيس في وحشتك والرفيق عند محنتك واجعل كلمة الله هي العليا واعمل على نصرة الإسلام دائماً بالعمل بأحكامه والتقيد بأركانه فلا نصر إلا بالعودة لدين الله فهو وحده القادر على كسر أعدائه , وأذا ما أردتني بقربك ما عليك إلا أن تخبر القمر وسأكون بقربك أضمك إلى صدري وأمتع ناظري برؤيتك تكبر يوماً بعد يوم ...

وكل ما أرجوه يا بني أن يخرج الله أباك من هذه المحنة سالما معافى أما الآن فأستودعك الله على أن ألقاك بحال أفضل إن شاء الله.

نظر إلى عيني قائلا:

- كم أتمنى أن تكون أمي حاضرة في هذه اللحظة لتطمئن علي وأعدها أمامك وأمام العالم كله أني لن أعيش إلا للإسلام.

وعندها فارقت يدي يده وقلبي يكاد ينفطر عذابا وحرقة على ما وجدت من حال ذلك الصبي وتمنيت لو يسعفني الدهر فآخذه إلى بيتي واجعله ينشأ في كنفي وأمام ناظري . خرجت من هناك منكبّة على وجهي والدموع تجري على وجهي وعندها واجهت حبيبي القمر فرآني على هذا الحال من الحزن والأسى فقال لي مبتسما:

- هوني عليك يا صغيرتي ما هذا إلا الشيء اليسير وما سأريك في الغد القريب أسوأ بكثير فادعي ربك دائما أن يعز الإسلام بالمسلين ولن يكون لهم ذلك إلا بالعودة لدين الله الحنيف فاعملي دائما على تربية أولادك تربية إسلامية تقوم على محبة الله ورسوله الكريم والدأب على طاعتهما..

نظرت حولي وإذا بي في شرفتي أشاهد القمر وهو يجمع ما بقي من أنواره متجهاً إلى الغرب فقلت:

- إلى أين يا قمري؟

فقال: هنا يا صغيرتي تنتهي رحلتنا وفي مساء الغد سأصطحبك في رحلة جديدة تشاهدين فيها شرخا آخر من الشروخ التي أصابت أمة الإسلام والتي إن لم يتداركها المسلمون فستؤدي لضياعها وضياعهم لا محال ..... أما الآن فأستودعك في ذمة الله......