بدر الدين الحسني
غرناطة الطنطاوي
دخل بدر الدين إلى غرفة تدريس والده، وهو يلقي الدرس على طلاب العلم، كان صغيراً وجميلاً ذ
ا بشرة بيضاء مشربة بالحمرة، وعينين زرقاوين تنمّان عن ذكاء مفرط.ثم جلس بين الطلبة وكأنه واحد منهم، يستمع بشغف واهتمام بالغين، مما أثار دهشة أحد الحضور، وكان غريباً عن بلاد الشام، فسأل الذي بجانبه عن هذا الطفل، بعد أن انتهى الدرس، فأجابه:
-ألا تعرفه!! إن والده هو الذي يلقي الدرس، إنه العالم الشاعر السيد يوسف الحسني، الذي ينتهي نسبه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. ووالدته السيدة عائشة بنت إبراهيم الكزبري، إنه في السابعة من عمره تقريباً، وقد أتمّ حفظ القرآن الكريم.
هزّ السائل رأسه متعجباً، وهو يقول:
-حقاً!! هذا الشبل من ذاك الأسد.. سيكون له شأناً وأي شأن!! ولكن ما هي قصة هذا السيد مع مدرسة دار الحديث؟
فأجابه:
-لقد استولى على دار الحديث بائع خمر يدعى يانكو، وعمل منها مستودعاً يضع فيه براميل الخمور، فقام السيد يوسف يستنصر أهالي الشام لإزالة هذا المنكر، ثم رفع الأمر إلى الوالي، لكن الوالي لم يلتفت إلى دعواه، بسبب ما كان ليانكو من حماية من قبل القنصلية الفرنسية، فتوجه السيد يوسف إلى الأستانة، وبعد جهد حصل على فرمان سلطانيّ في ذلك.
عاد هذا السيد إلى دمشق فرحاً وقدمه إلى الوالي، لكن الوالي أهمل هذا الفرمان.
حينئذ أراد استثارة حميّة الأمير عبد القادر الجزائري، بأسلوب فريد طريف.
ذهب هذا السيد ووقف أمام الأمير عبد القادر، وجهر بصوته:
-صلاة الجنازة على الأمير عبد القادر.
دهش الأمير منه وسأله عن سبب هذا التصرف، فقص هذا السيد قصة دار الحديث وهو غاضب، فهدأ الأمير من ثورة غضبه، وهبّ من فوره يسعى لهذا الأمر، ولكنه لم يستطع استخلاص هذه المدرسة إلا أن يشتريها بماله من يانكو بائع الخمور، ثم قدمها إلى السيد يوسف ليصلحها ويتولى شؤونها.
في أحد الأيام كان بدر الدين جالساً في غرفته يقرأ كتاباً في الرياضيات، ولا يكاد يفقه منه شيئاً، فقد كان مشغول البال، سارح الذهن، مقبوض الخاطر، يشعر ببرودة تسري في جسمه.. ألقى الكتاب من يده وذهب مسرعاً إلى غرفة والده، ليطمئن على صحته التي تدهورت بشكل ملحوظ، وما أن وصل حتى سمع نحيب أمه وهي تبكي بحرقة ولوعة، دخل مسرعاً وانكبّ على والده يقبله بحرارة، ويهزّه على أمل أن يستجيب له كعادته، ولكن أمر الله قد نفد ولا رادّ لقضائه.
تمالكت أم بدر الدين نفسها، وحبست أحزانها في صدرها، كي تصنع من ابنها بدر الدين رجل المستقبل عالماً فذاً يشار إليه بالبنان، فقد كان هذا حلماً تقاسمته مع زوجها، إلا أن يد المنون اختطفت زوجها والحلم لما يتحقق بعد.
فقد كان بدر الدين في الثانية عشرة من عمره، وكان ولوعاً جداً بالقراءة والكتابة، فلا يكاد يُرى إلا وهو في غرفة والده بدار الحديث، يطالع كتبه الموروثة، ويحفظ المتون في العلوم المختلفة، فحفظ ما يقرب من اثني عشر ألف بيت، بعد أن قرأ شروحها وفهمها، وهذا ما أرشده إليه شيخه أبو الخير الخطيب.
وبعد عام أو تزيد بدأ بعض طلبة العلم يستفسرون من بدر الدين عن بعض المسائل في النحو والصرف والبلاغة والفقه وغيرها، فيجيبهم إجابة العالم المتمكن من علمه، بفصاحة منقطعة النظير، مما لفت إليه أنظار الناس والعلماء، فأجازه العلماء في التدريس في الجامع الأموي، فأخذ الشاب اليافع يدرّس من في سنه، ثم اتّسعت دائرة الدرس وشملت من هو أكبر منه سناّ ، يدرس في دار الحديث، العلوم الرياضية على اختلاف فروعها، ويدرس عمليات الحساب، ونظريات الهندسة، ومعادلات الجبر، ومباحث الكيمياء والطبيعة، كما كان يدرس الحديث والتفسير و أصول الفقه والتوحيد والعربية وغيرهما. فترك الناس حلقات الشيوخ وأقبلوا عليه، مأخوذين بطلاوة حديثه، وسعة أفقه، وقوة ذاكرته، رغم صغر سنه، فلم ينبت في لحْيَيْه شعر بعد.
ولما علم الشيخ الصغير أن الناس هجروا مجالس العلم وانقطعوا إليه، حزن لذلك، وشعر بأن دروسه تلك قد تؤذي حلقات العلم الأخرى، وإن لم يقصد ذلك، فقرر وقف هذه الدروس، ليكمل تعليمه وينقطع لعبادته.
شعرت أم بدر الدين أن ابنها بدأ يعتزل الناس، وينقطع إلى العلم والعبادة في غرفته. فخافت عليه واستشارت أخاها صالح الكزبري في هذا الأمر، إلا أن أخاها طمأنها على ولدها لثقته بعلمه وذكائه.
مرّت الأيام والسنون بطيئة على أم بدر الدين، وهي ترى ولدها منعزل عن الناس، ولكن مما يثلج صدرها أن ترى بدراً وقد أتمّ حفظ صحيحي البخاري ومسلم مع أسانيدهما، وقد حفظ كتب الحديث الستة مع المتون الشعرية المختلفة، وحفظ أسماء رجال الحديث، وما قيل فيهم، وسني وفاتهم، وكان يعلّق على ما يقرأ، فترك تعليقات على نحو خمسين كتاباً ورسالة، وألف نحو أربعين مؤلفاً ولم يكمل العشرين من عمره بعد.
وفي صبيحة يوم جميل، دخلت أم بدر الدين غرفة ولدها ومعها طعام الفطور.
استقبلها بدر الدين بابتسامة عريضة، وقبّل يدها، قائلاً:
-أتأذنين لي يا أمي أن أذهب إلى حمص؟
تهلّلت أسارير أم بدر الدين فرحاً وغبطة.. وقالت وهي تشرق بدموع الفرحة:
-وأخيراً ستخرج من عزلتك، بعد سبع سنين أو تزيد، الله يرضى عليك، وأفاد الله بعلمك الناس، وأمتعك بصحتك ما حييت!!.
ولما قدم الشيخ الشاب إلى حمص، خرج أهلها لاستقباله، فقد سبقت شهرته الواسعة خطواته إليها، وقد نهل الناس من علمه الغزير، رغم حداثة سنه، فهو لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره.
ثم عاد البدر إلى دمشق، ليبدأ دروسه في جامع السادات، ولما ضاق المسجد بمريدي الشيخ، انتقل إلى جامع سنان باشا.. فكان يدرّس ليلة الجمعة والاثنين من بعد المغرب، فيجتمع عليه الألوف من الناس، حتى إنهم كانوا يأتون إلى الجامع من قبل المغرب فيصلون فيه، ويمكثون في أماكنهم من شدة الزحام، فيمتلئ المسجد حتى السدة العليا والسفلى والرواق وصحن المسجد الخارجي.
وإذا أراد أحدهم أن يستفتيه في مسألة فقهية في المعاملات الخاصة، تحرّج الشيخ من الفتوى، ورعاً وخوفاً من الله، فكان يحيل سائليه إلى كتاب أو تلميذ من تلامذته، رغم سعة علمه، وقوة حجته.
وقد كان يحضر هذه الدروس بشكل مستمرّ دؤوب متصرف دمشق، وهو رجل صالح تركي، اسمه عزت أفندي، فأحبّ الشيخ حبّاً جماً ملك عليه فؤاده.. وأراد أن يفي الشيخ بعض حقه، فذهب إلى الأستانة، واجتمع بالوزراء وأهل الحلّ والعقد، وحدّثهم عن الشيخ الشاب فريد عصره ودرّة زمانه، راجياً تخصيص راتب شهري لهذا الشيخ.
وقد أثمرت مساعي هذا الرجل الصادق المخلص، وعينت الحكومة التركية راتباً شهرياً مقداره عشر ليرات.
دخل رسول من طرف الوالي، على الشيخ بدر الدين، وهو يحمل ظرفاً كبيراً فيه براءة سلطانية بالراتب الذي خصص له، وقدمه له.
دهش الشيخ لهذا الراتب، ولم يرض استلامه، لكن الرسول أكد له أن الراتب من حقه، وأن الحكومة التركية ستكون سعيدة إذا قبله، فأسقط في يد الشيخ، وأخذ الراتب على مضض.
وصار الشيخ أحمد بهاء الدين أخو الشيخ بدر الدين، يأخذ الراتب، ويدير أمور البيت، من شراء حاجات المنزل ولوازمه، بدلاً من أخيه الذي شغل وقته كله بالتدريس.
دخلت أم بدر الدين على ابنها، وعيناها تكاد تنطقان بما يجول في ذهنها، تبسم بدر الدين وهو يقول:
-تريدين تزويجي يا أغلى حبيبة؟.
طوّقت الأم ابنها بذراعيها، وقبلته من عينيه، قائلة:
-يا لذكائك!! لقد وجدت لك زوجة كريمة تليق بك يا ولدي، إنها رقية بنت العارف بالله الشيخ محي الدين العاني.
تبسم بدر الدين بحياء كحياء العذارى، وقال:
-على بركة الله.
نعمت السيدة رقية بزوج لطيف المعشر، حسن الثياب نظيفها، متوسط القامة، في جبهته ارتفاع من أثر السجود، كأنه وسام شرف يزين جبينه الناصع، قوي البنية، لم يشكُ مرضاً سوى مرة واحدة في شبابه، فقد أصابه مرض اليرقان، حادّ البصر، لم يستعمل نظارة.
وقد كملت سعادتها بإنجاب ولدين جميلين، وست بنات كريمات بارّات بوالديهنّ.
أوكل إلى الشيخ تدريس الحديث الشريف في الجامع الأموي، وقد أقيم لذلك احتفال عظيم، حضره أعيان العلماء والرؤساء ومدحت باشا الوالي وجماعته، ومعه جمع غفير جداً من الناس، الواقفون أكثر من القاعدين.
ابتدأ الشيخ بمقدمة عظيمة في علم الحديث الشريف، ولم يترك علماً من العلوم المعقولة والمنقولة إلا وذكر شيئاً منها، ثم بدأ بالدرس الأول من صحيح البخاري، وذكر سنده ومشايخه، وبين ما بني عليه من الأحكام الشرعية، على اختلاف مذاهب المجتهدين، ثم رجح الأقوى منها، وجاء بما يناسب هذا المقام من سائر العلوم، علم الأصول وآداب البحث والبلاغة والتفسير والتوحيد والآلات كلها، إلى الحكمة والفلسفة والطب والهيئة والهندسة، وقد بلغت الأحاديث التي ذكرها مائة حديث تقريباً فيما يتعلق بحديث الباب، وقد ذكر هذه الأحاديث بأسانيدها المتصلة، ورجالها بما يزيد على الثلاثين رجلاً، عن ظهر قلب.
وكان الشيخ في أثناء إلقائه يتفرس وجوه الحاضرين جميعاً، ويلتفت بحركة لطيفة إلى يمينه ويساره وخلفه، حتى يجعل موضوع درسه مناسباً لأولئك الحاضرين، بحسب ما توحيه إليه فراسته ويلهمه ذكاؤه ونظره، ويستطيع أن يستفيد منه العوام والخواص بآن واحد.
ثم ختم الدرس بالدعاء لصلاح الأمة، والتوفيق لولاة الأمور، ليكونوا عوناً لأمتهم. وكان صوته جهورياً، يبلغ آخر المسجد، لا يتوقف ولا يتلعثم. فبهر الناس بعلمه الغزير، وذاكرته العجيبة، وتسلسل أفكاره، وربطها بعضها ببعض. فقد كان ينتقل من بحث إلى بحث، مبتعداً عن الموضوع الأصلي، ثم لا يزال في استطراده حتى يعود إلى موضوعه الأول، مع حسن انتقال وسلاسة واستمرار في الحديث بلا تلكؤ ولا تلجلج، لا يقاطعه في أثناء ذلك أحد ولا يسأله. بطريقة يفهمها الفلاح والعامي، إضافة إلى المختص، وقد حضر مختصين في الطب والرياضيات، فدهشوا لما سمعوه، قائلين وقد طأطؤا رؤوسهم إكباراً وإجلالاً :
-أفنينا العمر في البحث والدرس، وما وصلنا إلى ما وصل إليه الأستاذ الشيخ بدر الدين.
خرج الناس من عنده مبهورين، فقال أحدهم:
-لقد خطر ببالي سؤال، وإذا بالشيخ يلتفت إلي ويبتسم، ثم يجيبني عن سؤالي هذا قبل أن أسأله، يا سبحان الله!!.
فقال رجل آخر:
-وأنا أيضاً حصل معي ما ذكرت!! وقد حصل مع كثير غيري. هاهو الشيخ فلنسرع إليه نحاول أن نقبل يديه الشريفتين.
تراكض الناس حول الشيخ وقد تركوا متاجرهم وأعمالهم، ليسلموا عليه، وحاول بعضهم جهدهم تقبيل يديه، لكن الشيخ كان يرفض ذلك بشدة، وقد احمرّ وجهه خجلاً وتواضعاً.
تقدم إليه الفنان الكبير توفيق طارق، وطلب من الشيخ أن يسمح له أن يرسمه، لكن الشيخ رفض ذلك وبشدة. فقرر الفنان الموهوب أن يرسم الشيخ خلسة دون علمه.
فأخذ الفنان توفيق يذهب إلى درس الشيخ كل يوم ويجلس أكثر من ساعتين، يتأمل وجهه أو أحد أعضائه، ثم يذهب إلى بيته مسرعاً ويرسم العضو الذي ركز فكره فيه ليرسمه.
استمر الفنان على ذلك المنوال أكثر من ثلاث سنوات، حتى خرجت إلى الوجود صورة للشيخ رائعة تكاد تنطق من روعتها، فكان ارتفاعها ارتفاع حائط، وعرضها ما يقارب المترين، ولها إطار جميل عليه بلور نادر الصنعة، مزخرف بطريقة غريبة، حيث أنك من أي مكان أتيت للصورة، تجد أو تشعر أن الشيخ يسير هو إليك.
في أحد الأيام كان الشيخ بدار الحديث، فسمع صوت امرأة تستصرخ مستجيرة بالشيخ، فخرج الشيخ وسألها:
-يابا.. ما بالك؟
فقد كان الشيخ يستخدم كلمة يابا دائماً في حديثه، وكان لا يتكلم إلا بما لابد منه من الكلام، وربما اكتفى بشطر كلمة، واستعان على مراده بالإشارة.
صاحت الأم المكلومة:
-ولدي.. ولدي.. لقد تخلّف عن الجندية، وقبض عليه وأحيل إلى المحكمة لتنفيذ حكم الإعدام به، وليس لي إلا الله وأنت يا سيدنا الشيخ!!
نادى الشيخ بسرعة:
-يابا.. هات العربية.
ركب الشيخ العربية وذهب مسرعاً إلى مقر الحاكم في سورية، ولما وصل لم يدخل مقر الحاكم كعادته، وكان بجانب المقر حلاقاً، ما أن رأى الشيخ حتى أسرع إليه يسأله عن حاجته. فقال له الشيخ:
-يابا.. ناد لي جمال باشا الصغير.
دخل الحلاق مقر الحاكم، وأخبر جمال باشا –النائب من قبل الحكومة التركية- عن وجود الشيخ بدر الدين، وسؤاله عنه.
خرج جمال باشا لاستقبال الشيخ، مسرعاً حاسر الرأس، إجلالاً وهيبة من الشيخ، وحاول تقبيل يده، ولكن الشيخ رفض ذلك، فطلب من الشيخ أن يدخل المقر ليخدمه ويلبي له طلباته. لكن الشيخ أبى أن يدخل، وأخبره بأمر المرأة وولدها.
فأخرج جمال باشا من جيبه فرماناً سلطانياً وفيه أن كل من يتأخر عن اللحاق بالجيش أو بطابوره يعدم فوراً، وهو موقع من قبل ناظر الحربية أنور باشا.
فقال له الشيخ:
-يابا.. اكتب إلى أنور وقل له الشيخ بدر الدين أتى يتشفع في فلان.
وضع جمال باشا يده على رأسه، وأحنى ظهره قليلاً، وهو يقول:
-على الرأس والعين، نحن في الخدمة.
أرسل جمال باشا برقية إلى ناظر الحربية، يخبره بهذه القضية.
فأرسل ناظر الحربية جواباً يقول فيه:
-بما أنك امتثلت أمر الشيخ بدر الدين، وأحسنت استقباله، وتمهلت في إعدام المذنبين، قد رفعناك إلى رتبة فريق، وإننا قد عفونا عن كل من قبض عليه ذلك اليوم، إكراماً للشيخ بدر الدين.
وفي أحد الأيام زار الشيخ الحسني أنور باشا ناظر الحربية، ولما دخل أنور باشا على الشيخ في غرفته، كان الشيخ جالساً ماداّ رجله ولم يقم له، فانحنى أنور على ركبة الشيخ فقبلها وبكى، فدعا الشيخ له، وأمره بإنصاف المظلومين وتفقد الرعية.
وقبل أن يذهب أنور باشا قدم هدية إلى دار الحديث مصحفاً كريماً، وقدم لحضرة الشيخ سبحة نفيسة.
وفي يوم جاء الوالي ومعه الصدر الأعظم –الذي جاء على متن بارجة حربية من الأستانة إلى بيروت ومنها إلى دمشق- ليكون نائباً عن السلطان العثماني، ومبعوثاً خاصاً ليدعو الشيخ بدر الدين إلى الحضور إلى الأستانة، لحضور احتفال كبير دعي إليه وجهاء الدولة.
تلطف الوالي بالشيخ وحاول استرضاءه ليذهب إلى الاحتفال الكبير.. لكن الشيخ أبى ورفض الدعوة كعادته.. فخرج الوالي منزعجاً من الشيخ ومن رفضه طلب السلطان، وقرر في نفسه أن يعود مرة أخرى إلى الشيخ، ويأخذه غصباً عنه.
جاء الوالي في اليوم التالي، وهو يضمر الشر، إلى مدرسة دار الحديث، ودخل غرفة الشيخ، فإذا به يشاهد الشيخ كأن صورته صورة أسد كبير، فاغراً فاه ليبتلعه، ذعر الوالي وفرّ هارباً عائداً إلى الأستانة.
وبعد ساعة جاء وفد من أهل الهامة مبعوث من قبل الشيخ أحمد السوسي، وهو رجل صالح فقير الحال، يؤمّ الناس في جامع الهامة، قد طلب منه الناس إحضار الشيخ بدر الدين، فما كان منه إلا أن أرسل هذا الوفد، حيث قال أحدهم:
-يا سيدي!! الشيخ أحمد السوسي يسلم عليك، ويقول لك: إن أهل الهامة يريدون أن يتباركوا بك.
فقال الشيخ لخادمه:
-يابا.. هات لنا عربية، فالشيخ السوسي طالبنا إليه.
تبسم الخادم وهو يقول:
-قبل ساعة رفضت طلب السلطان في حضور حفل كبير، وتذهب الآن مسرعاً لتلبية هذا الرجل الصالح، حقاً إنك بدر الدين!!
استقبل أهل الهامة الشيخ بحفاوة بالغة، تليق بمقامه الرفيع، ثم دخل الشيخ بيت الشيخ السوسي.
فرح الشيخ السوسي بمقدم الشيخ بدر الدين، وتلبية طلبه عن طيب خاطر، وقدم له كأساً من الشاي.. فقال الخادم:
-إن سيدي الشيخ صائم!! ولا يحب الشاي ولا القهوة..
تبسم الشيخ بدر الدين وأخذ كأس الشاي وشربه، وهو يقول:
-إن خاطر الشيخ السوسي عندنا عظيم.
وقد أمضى الشيخ نهاره عند الشيخ السوسي، وبعد العصر عاد الشيخ إلى دمشق.
مرض إبراهيم عصام الدين ابن الشيخ بدر الدين مرضا شديداً، فأخذ الشيخ يعوده ثم يذهب إلى دروسه.
وبينما كان الشيخ في مدرسة دار الحديث، يلقي الدروس، انتقل ولده إلى جوار ربه راضياً مرضياً، فقد اشتهر عنه العلم والصلاح والذكاء.
فجاء الوالي وأرباب الدولة وجمال باشا قائد الفيلق الرابع وجمع غفير من الناس، ولم يجرؤ أحد على الدخول على الشيخ وإخباره بموت ولده.
قال جمال باشا:
-أنا أدخل على الشيخ وأكلمه.
دخل جمال باشا غرفة الشيخ، فرآه يقرأ، سكت جمال باشا ولم يقدر على الكلام.
انتبه الشيخ لوجود جمال باشا، فنظر إليه نظرة حزن قائلاً:
-يابا.. قضي الأمر؟
فأومأ جمال باشا رأسه بالإيجاب.
فدمعت عينا الشيخ.. وقال بصوت متهدج:
-لا حول ولا قوة إلا بالله.
ولما أراد أن ينهض لم يستطع، فأسرع إليه جمال باشا ليتوكأ عليه وخرج، فرأى جنازة مهيبة لم تشهد دمشق جنازة كهذه الجنازة، فسار في الجنازة رابط الجأش حزين الفؤاد.
في صبيحة أحد الأيام دخل تلميذ الشيخ على الشيخ الحسني، يستأذنه أن يدخل إليه جمال باشا –القائد الذي لم تر الشام أشد منه بطشاً في تاريخها الطويل- فأذن له الشيخ.
خلع جمال باشا نعليه، ودخل مطأطأ الرأس خافض الجناحين هيبة من الشيخ وإجلالاً له، همّ الشيخ بالقيام ليرحب بضيفه، لكن القائد كان أسرع منه، حيث وضع يديه على ركبتي الشيخ متوسلاً إليه بالقعود، وطالباً يده ليقبلها، ولكن الشيخ رفض أن يضع يده في يده فضلاً عن أن يقبلها.
جلس جمال باشا على ركبتيه أمام الشيخ، مكتوف اليدين، وسأل الشيخ عن صحته وتوسل إليه أن يدعو له ويمدّه بتوجيهاته الكريمة، ثم قال:
-ما حكم من يخون المسلمين، ويعمل على تمزيق الخلافة الإسلامية؟
أجاب الشيخ كعادته:
-لا حول ولا قوة إلا بالله.
فقال جمال باشا:
-ألا نعاقبهم؟
قال الشيخ:
-أتتحقق من خيانتهم؟ أليس بينهم من تخشى ظلامته؟
قال جمال باشا:
-كل من نريد عقابه قد اقترف الخيانة العظمى. وقد تشرفت بالمثول بين أيديكم لأخذ موافقتكم على تنفيذ العقوبة.
أجاب الشيخ:
-مين أنا يابا؟ إن كنت تريد الحكم الشرعي فسل المفتي.
أجاب جمال باشا:
-ولكنك يا مولاي سيد العلماء وخير من أفتى.
فقال الشيخ بهدوئه المعهود:
-من قال هذا؟ أصلحك الله. ألم تسمع قول رسول e {دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه}.
فهم القائد أن الشيخ رافض طلبه مهما حاول معه، فكظم غيظه وكتم غضبه، واستأذن من الشيخ وهو يقول:
-أرجو يا مولاي أن لا تنساني من صالح دعواتك.
فقال الشيخ:
-وفقك الله لما فيه خير المسلمين، وأعانك على إقامة العدل.
وخرج جمال باشا من عند الشيخ صفر اليدين مكسور الخاطر، بسبب تورع الشيخ عن الإفتاء، رغم سعة علمه.
كان الملك فيصل بالشام، فقال للشيخ حسن التغلبي:
-عندما أذهب إلى دار الحديث أجد الشيخ بدر الدين منشغلاً بالطلبة والتدريس، غير ملتفت إلي، وأمنيتي أن أجلس معه ولو ساعة، أتملى بهذه الطلعة البهية وحدي، لا يشاركني في ذلك أحد.
فقال الشيخ حسن:
-أنا آتيك بالشيخ بدر الدين.
نظر الملك فيصل إلى الشيخ حسن وهو رافع حاجبيه مستفسراً:
-دعك من هذا المزاح يا شيخ حسن.
تبسم الشيخ حسن وقال:
-يا مولاي أنا لا أمزح، أنا آتيك بالشيخ الحسني بحيلة طريفة.
تهلل وجه الملك وهو يقول:
-إن استطعت أن تأتي بالشيخ لك مني ما شئت، وأعاهدك بأن لا أرد لك طلباً ما دمت حياً.
أخذ الشيخ حسن عربة الملك فيصل، وذهب إلى الشيخ الحسني، فدخل عليه وقال:
-يا مولانا.. إن الملك فيصل يريد أن يتبارك برأيك ما فيه مصلحة المسلمين ومنفعتهم، وقد تعهدت له بأن تسير إليه للبحث فيما ينفع الناس.
فسكت الشيخ الحسني ثم قال:
-لا حول ولا قوة إلا بالله.
وكان الشيخ الحسني لا يراجعه أحد في كلمة إن سكت، من هيبته وقدره ومكانته العالية.
سكت الشيخ حسن قليلاً ينتظر جواب الشيخ دون جدوى، ففهم أن الشيخ غير موافق.
فقال الشيخ حسن وهو يبكي:
-يا مولاي.. لقد تعهدت للملك فيصل بحضورك، ويقيني بأنك لا تتأخر عن مصلحة الضعفاء والمظلومين.
سكت الشيخ الحسني هنيهة، ثم قال:
-يا شيخ حسن آت بعربة.
فرح الشيخ حسن كثيراً، واستأذن من الشيخ وذهب إلى عربة الملك وقال للسائق:
-سيركب معك المحدث الأكبر، فسر به بأقصى ما تستطيع من بطء.
ثم عاد الشيخ حسن واصطحب معه الشيخ الحسني، وركبا العربة متجهين نحو الملك فيصل.
وفي منتصف الطريق استأذن الشيخ حسن من الشيخ الحسني، ليذهب ويقضي حاجة ما.. فأذن له.
انطلق الشيخ حسن مسرعاً ليبشّر الملك فيصل بأن مولانا الشيخ قادم لزيارته.
فرح الملك فيصل فرحاً شديداً، وانطلق بسرعة ومعه أركان الحكومة لاستقبال الشيخ حتى ابتعدوا بعض الشيء عن دار الملك، فلمح الملك من بعيد عربة الشيخ فهب إليها وسار بجانبها، بعد أن طلب من السائق أن يستمر في سيره، حتى وصلوا مدخل القصر.
ترجّل الشيخ الحسني من العربة، وحوله الملك والشيخ حسن التغلبي والحاشية في خدمته، كان القصر مفروشاً بالسجاد، وكان من عادة الشيخ الحسني أن يخلع حذاءه، فخلع البابوج عند أول السجاد، ودخل مع الملك الغرفة لوحدهما، بعد أن أصدر الملك أوامره بأن لا يدخل عليه أحد.
استمرت هذه الخلوة أكثر من ساعتين، وجاء كثير من أرباب الدولة، ثم جاء الأمير زيد شقيق الملك فلم يؤذن لهم بالدخول.
في هذه الأثناء أخذ الشيخ حسن بابوج الشيخ وأخفاه في مكان يخص الملك فيصل، وعند انتهاء الزيارة أراد الشيخ أن يلبس حذاءه فلم يجده، فقال الشيخ:
-يابا.. أين البابوج؟
فهبّ الملك فيصل يبحث عن حذاء المحدث الأكبر مع كافة أركان الدولة، فلم يتركوا أريكة إلا وانحنى الملك يبحث عن البابوج تحتها، ثم التفت فرأى الحذاء بين أشيائه.
حمل الملك فيصل حذاء الشيخ متبركاً، وذهب إلى الشيخ وانحنى ليلبسه الحذاء، حاول الشيخ أن يتملص من الملك خجلاً وتواضعاً، لكن الملك كان أسرع منه فألبسه الحذاء.
في أحد الأيام كان الشيخ راكباً قطار الحجاز، وفجأة توقف القطار في عرض البادية، لخلل أصابه، فنزل العاملون في القطار لإصلاحه، ونزل بعض الركاب للصلاة، وكان معهم الشيخ الحسني، فأقاموا الصلاة وامتنع الشيخ عن الإمامة كعادته تواضعاً، فقد كان يأتمّ بأصغر تلامذته، وما أن ركعوا حتى تحرك القطار، فترك المصلون صلاتهم وركضوا يتعلقون بالقطار قبل أن يذهب ويتركهم.
لكن الشيخ واصل صلاته ولم يقطعها، رغم أنه في عرض الصحراء، حيث الرمال الملتهبة، والشمس المحرقة، ولا زاد معه ولا أية وسيلة ركوب يركبها.. فزوادته كانت حسن الظن بالله وأن الله معه.
وكان مرافق الشيخ قد صعد القطار واستدار ليحدث الشيخ فما رآه، مدّ نظره حيث كانت الصلاة فوجد الشيخ يصلي ولا يلتفت إلى أحد.
صرخ الرجل أن يقف القطار ولكن دون جدوى، ابتعد القطار كثيراً، فكاد الرجل يجن، ركض إلى سائق القطار ورجاه أن يعود بالقطار القهقرى ليركب الشيخ، لكن السائق رفض ذلك، انكبّ الرجل على قدمي السائق يرجوه ويستغيث به حتى رقّ قلبه، وعاد بالقطار إلى الوراء، فإذا الشيخ جالس يصلي ولم يسلم بعد، كأنه في ملكوت آخر، ولما انتهى من صلاته قام وركب القطار بكل هدوء واطمئنان، مما أثار إعجاب الركاب ودهشتهم.
رزحت سورية تحت الاحتلال الفرنسي، فهب الشيخ للدفاع عن الوطن، ورفض مقابلة الجنرال غورو عندما وصل إلى دمشق، وحضّ الناس على عدم دفع الضرائب للفرنسيين أو التعامل معهم، وحثّ الجميع على الثورة ضد فرنسا، وأرسل ابنه تاج الدين للقتال في ميسلون، ومنع الناس من دفع الضرائب للفرنسيين أو التعامل معهم، وصار يعلن أن الجهاد فرض على الناس في دروسه العامة.
وبدأ يجول في المحافظات السورية، فيبدأ زيارته للمدينة بدخوله المسجد الكبير فيها، ليلقي الحكم والمواعظ، ويحث الناس على الجهاد في سبيل الله، وقتال الفرنسيين.
وما أن عاد الشيخ بدر الدين إلى دمشق، حتى قامت الثورة في كل المحافظات، في اليوم التالي لعودته.. فقد كان تأثيره عظيماً في الناس، لإخلاصه في دعوته، وحب الناس له.
وفي كل يوم قبيل الفجر، يأتي إلى الشيخ بدر الدين في دار الحديث الشيخ المجاهد محمد الأشمر، والمجاهد حسن الخراط، ويأخذان التعليمات والأوامر من الشيخ لينقلانها إلى المجاهدين، ثم يضع يده على رأس كل منهما، ويدعو لهما، ثم يقول:
-علقوا قلوبكم بالله، ولا تخشوا أحداً إلا الله.
ثم دخل الشيخ محمد الديراني والشيخ عبد الله الأفغاني، فتهلل وجه الشيخ بدر الدين وهو يقول:
-أهلاً يابا.. اذهبا إلى نفس المكان وخذا الذخيرة والمؤن، فالمجاهدون في انتظاركم.
ثم دخل رجل يدعى الهايشي، وقدم تقريراً للشيخ عن سير المعارك التي تستعر في الغوطتين، تبسم الشيخ فاستنار وجهه كالبدر في تمامه، وأخذ لسانه يلهج بالدعاء للثوار.
ولما خرج الهايشي من عنده، نادى الشيخ خادمه الأمين قائلاً له:
-يابا.. حان الآن وقت زيارة السجناء.
دخل الشيخ إلى السجن، فالتفّ حوله المسجونين متلهفين لحديثه العذب، ومواعظه التي تلين قلوبهم وتذكرهم بربهم، ويصبّر المظلومين منهم.
خرج الشيخ من السجن وقلوب المسجونين معلقة به، تنتظر بلهفة الزيارة القادمة، كما عوّدهم، ثم ذهب إلى مدرسة الأولاد الصغار، واضطر أن يمرّ في طريقه بالسوق –فقد كان يسلك الطرق الخالية كيلا يتهافت الناس عليه- فإذا التجار والصناع وغيرهم يتركون عملهم ويتراكضون لاستقباله والحفاوة به، وأقبل عليه أحد البطاركة وسلم عليه بحرارة، فطلب الشيخ من البطريك الدعاء له، ولما ابتعد البطريك سأله أحد طلابه بدهشة:
-من البطريك تطلب الدعاء؟!
قال الشيخ:
-يابا.. ما ندري الخاتمة.
ولما وصل المدرسة كانت مظاهرة وأي مظاهرة، حيث تحلّق الصغار جميعهم حول الشيخ يقبلونه ويهتفون باسمه، والشيخ يسلم عليهم فرداً فرداً، ويطلب الدعاء له منهم ومن معلميهم، ويخصّ الأولاد الأيتام منهم بالمداعبة ومسح الرأس.
وفي طريق العودة عرّج على بيت أحد النصارى يزوره -وزيارته تلك لا تتعدى عدة دقائق كعادته في كل زياراته- يشجعه على محاربة الاحتلال الفرنسي، جنباً إلى جنب مع أخيه المسلم، فكانت هذه الزيارات ذات أثر كبير في تأجيج روح التعاون والتماسك بين أفراد الشعب السوري في مواجهة العدوان.
كان الاحتلال الفرنسي قاسياً ظالماً كعادة المحتلين، لا يراعي صغيراً ولا كبيراً ولا امرأة ولا عجوزاً، فألقى القبض على الشيخ محمد بن يلس التلمساني وقد نيّف على التسعين من عمره، وسجنوه في سجن القلعة.
أسرع السيد محمد الكتاني الزاهد العابد إلى دار الحديث ليخبر الشيخ الحسني هذا الخبر، غضب الشيخ وقال:
-يابا.. اذهب إلى جونفييل وأمره بإطلاق سراحه فوراً.
فقال السيد الكتاني:
-والله يا مولاي ليس لها إلا جنابكم، فأنت شيخ المسلمين وإمامهم.
فقال الشيخ بتواضع جمّ:
-ليش هيك أنت يابا؟!
خرج الشيخ الحسني مع السيد الكتاني إلى مقر الحاكم العسكري، وكان مقر الحاكم عالياً يكشف المنطقة كلها، وكانت كلها بساتين جميلة.
سمع الناس الخبر، فأغلقوا محلاتهم ومكاتبهم وتركوا أعمالهم، وتراكضوا إلى الشيخ من جميع أنحاء المدينة، حتى امتلأت المنطقة بجموع غفيرة من الناس، رجت الأرض من تحت أقدامهم.
سمع الجنرال جونفييل ضجة هائلة، فركض إلى النافذة المطلة على المنطقة، فرأى هذه الجموع الهائلة، فاستنفر جميع قواته، ثم أرسل جندياً يأتيه بالنبأ.
عاد الجندي لاهثاً وهو يقول:
-إنه الشيخ الحسني جاء لإطلاق سراح الشيخ التلمساني.
جمع الجنرال كافة الجنرالات وذهبوا لاستقبال الشيخ خارج مقر الحكم.
ولما وصل رحب الجنرال بالشيخ الحسني أحسن ترحيب، ثم دعاه للدخول إلى مقره، لكن الشيخ رفض كعادته، فذهب الجنرال جونفييل بنفسه وأحضر كرسيين، فأجلس الشيخ الحسني والسيد الكتاني وجلس بين يديهما مستفسراً عن أية خدمة يؤديها.
فقال الشيخ الحسني:
-أطلق سراح الشيخ محمد التلمساني.
وضع الجنرال يده على رأسه وهو يقول:
-أنا تحت أمرك! ولو أرسلت رسولاً من عندك دون أن تكلف نفسك عناء السير إلي لفعلت ما تريد.
عاد الشيخ الحسني إلى دار الحديث، وما أن دخل غرفته حتى فوجئ بوجود الشيخ التلمساني ينتظره، ليشكره على صنيعه في إطلاق سراحه.
استمر الشيخ بإلقاء دروسه قرابة ثلاثة أرباع القرن، دون كلل أو ملل، وبقي مجلسه مكتظاً بكبار العلماء والفقهاء وطلاب العلم والعامة، لا يؤخرهم عن مجلسه إلا المرض أو ظرف خاص جداً، فقد تربع الشيخ على قلوب مريديه، ولم تنقص مكانته رغم كرّ السنين وتعاقب الأجيال، وذلك لتواضعه الجمّ، فإنه كان يمنع الناس من القيام له، ويغضب أشد الغضب إذا قام أحدهم له، ولا يقوم هو لأحد إلا نادراً، كأن يكون الذي يدخل عليه من آل البيت، أو من ذوي الفضل في الدين.
قال للشيخ الحسني أحد طلابه:
-ما أرى أحداً أعظم منك.
فقال الشيخ بتواضع العلماء:
-يابا.. أنا أقل الناس.
فأخذ هذا الطالب ينظر إلى وجهه، وهو يقول:
-أليس النظر إلى وجه العالم عبادة؟
فقال الشيخ:
-يابا.. أولئك .. مثل أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد والغزالي والنووي لا نحن.
وكان أيضاً عالي الهمة، قوي البدن، لا يمكّن من خدمته أحداً، ولم يستعن في حياته بأحد ولا حتى بالعصا، كان زاهداً بما في أيدي الناس فأحبه الناس، يتحرّج من قبول الهدية، ويبالغ في إكرام ضيوفه، وخاصة الفقراء منهم والمساكين، فكان يوزع عليهم الرز والسكر وما سواهما، فإذا دخل عليه أحدهم أشار إليه أن يذهب إلى الغرفة المجاورة ليأخذ منها ما يشاء من المؤونة، لا يبالي إن أخذ قليلاً أو كثيراً، فكل ذلك في حب الله.
وقد عرف عنه أنه يكره الغيبة والنميمة كرهاً شديداً، فلم يغتب أحداً قط، ولم تجر في مجلسه غيبة أبداً.
في أحد الأيام جاء إلى الشيخ رسولاً من إمبراطور روسيا الأخير القيصر نيقولا، يدعوه إلى زيارة البلاط.
فقد أقام قيصر روسيا حفلة دعا إليها بطرك الروم، وملوك أوروبا وبعض ملوك المسلمين، فسأل بطرك الروم القيصر:
-هل دعوت أستاذ الشيخ بدر الدين الحسني؟
عجب القيصر من سؤاله، وسأله من يكون هذا البدر، فأقبل المدعوون يتحدثون عن الحسني بإسهاب وإجلال، أثار دهشة القيصر، ثم أرسل باخرة حربية إلى بيروت، لتأخذ الحسني إلى روسيا، بعد أن يعتذر منه عن تقصيره في دعوته.
لكن الشيخ رفض الدعوة، كما رفض دعوة السلطان عبد الحميد، والسلطان رشاد، فقد كان لا يزور الحكام، بل يزوره الحكام.
كبر الشيخ وما فترت همته ولا عزيمته، فكان ابن ثمانين سنة، وإذا رأيته ظننته ابن ثلاثين سنة، بكامل حيويته ونشاطه، يكسر الجليد المتجمع في بركة داره، ويتوضأ منه في الشتاء القارص، ولم يمسح على الخفين أبداً، رغم أنه كان يرغّب الناس في الرخص التي أباحها الله للمسلمين، ولكنه كان يأخذ نفسه بالعزائم، ولما شاخ وكبر سنه صار يستخدم الماء الدافئ لوضوئه.
كان نهماً للقراءة حتى آخر لحظة من حياته، ولم تؤثر هذه القراءة على حدة بصره، بل أثرت ذاكرته وقوّتها، فكان يتذكر بسهولة جميع ما مرّ عليه من حوادث، ويتذكر من رأى من الناس على كثرتهم.
بدأ التعب والوهن والمرض يدبّ في أوصال الشيخ، حتى أنهكه المرض، وامتنع عن تناول الطعام أسبوعاً كاملاً، لم يذق خلاله إلا جرعة من لبن بعد إصرار الطبيب، فأوصاه مشاهير الأطباء أن يرتاح قليلاً، لكن الشيخ لا يرى الراحة إلا بين طلابه ومريديه.
وفي يوم الجمعة صلى الشيخ الفجر في الجامع الأموي، وجلس يقرأ بعض أوراده ، ثم ذهب إلى غرفته في دار الحديث، وأتمّ بقية أوراده، ثم صلى الضحى كعادته في سائر أيامه، وجلس يدعو بخشوع وتضرّع قائلاً:
-اللهم أعني على ديني الذي هو عصمة أمري، اللهم أعني على دنياي التي فيها معيشتي، اللهم أعني على آخرتي التي إليها مصيري، اللهم اجعل خير عمري آخره، اللهم اجعل خير عملي رضاك، اللهم اجعل خير أيامي يوم ألقاك وأنت راض عني يا أرحم الراحمين.
ثم قام متثاقلاً إلى الدرس، روحه الوثّابة المحبة للعلم تحمّل جسده فوق طاقته.
جلس بين طلابه، فشعر محبّيه أن حبيبهم كأنه قد دنا أجله، فخفقت قلوبهم وطار الخبر هنا وهناك، فاجتمع الناس وقلوبهم تبكي وأعينهم تدمع من هول الفاجعة.
شعر الشيخ بدنو أجله واحتضاره، فقال:
-يابا.. ولم يستطع أن يتمّ كلامه فأشار بيده كي ينصرفوا عنه.
فخرج الناس من عنده وقلوبهم واجفة، وبعد الضحى بساعة، سرح الشيخ ببصره بعيداً، وأشرق وجهه بابتسامة وضّاءة، فاستنار وجهه وصار كالبدر، ثم أسلم روحه لبارئها، كي تكون في جنان الخلد، حيث يلقى الأحبة، محمداً وصحبه، وكان ذلك في يوم الجمعة عام 1935م.