وصية
وصية
قصة: يسري الغول *
السكون يرحل بصمت ..
يجتر بقايا النوم الذائبة في أجفان الثكنة ، ينسحب بريشته الجوفاء يأخذ المكان إلى اللاعودة ، يخرس ألسنة اللهب الهائمة ، الأنفاس المتلاحقة ، يهرب مطلقا لساقيه العنان ، يزحف إلى زمن اغبر يعج بفحيح الموت في علب صدئة تتصلب في ميادين الخوف .
الضجيج يتمرد ..
ينفجر ، يشتعل ، يسير بجنون نحو المجهول ، يخترق الأروقة الضيقة،الأزقة المترامية الأطراف،يطيح بجسد الراحة .. يصرعه ، يلطمه بقوة ثم يزجر بعنف كل طريق يتعثر به .
الطائرات تتجه صوب المكان ..
تحلق بحذر ، ترتفع ، تنخفض ، يعلو أزيزها .. يلهب الأجساد المستيقظة . تضرب .. تفجر،يعلو الضجيج ، تنتشر رائحة الموت .. يصبح الليل بركاناً اسود . تتضرع الألسنة بالدعاء و التكبير .ز تتوسد النساء الألحفة ، يهمسن بحذر إلى أزواجهن ، يطلقن تمتمات مرتبكة ، مترنمة بالموت و التشريد للأعداء .. يرسمن في مخيلتهن صورة جديدة لموت جميل يقطع الأجساد إلى أشلاء ممزقة .. يذيب الجدران .. يخرس صرير الجوع ، يغفين و في أنوفهن رائحة نوم ثقيل .
العجوز مقوسة الظهر تدخل بحذر ..
تفتح الباب ، تنظر إلى سرير منمق ، تتأمل أجزاؤه المريرة ، قلبها يدق ، يضرب ، يعلن اللوعة على وجه وسيم ذهب بعيداً .. تتوتر ، تبدأ في الخوف ، تتساءل هائمة عن سبب خروجه ، تتجه صوب مكتبه الضخم ، تمسك بعضاً من أوراقه .. تنظمها ، تلتقط يداها مذكراته . كتبه ، صوره القديمة ، تتأملها ، شئ يجوس في أعماقها .. يوسوس لها ،يشي بشيء ما . تطرق السمع ، تزداد حدة القصف ، يعلو الصوت ، يختفي الظلام مع ألوان الانفجارات ، يشتد توترها ، لا يستطيع إخفاء قلقها عليه .
- ليته ما خرج .
تقول ممتعضة ، تبتسم عندما تتذكر ما حدث باليوم الفائت في عتمة الحصار ، قتل عدداً من اليهود يهدئ الروع ، يطفئ قليلاً من غليل القلب ، يشفي الصدور . تدعو لمنفذ تلك العملية بالفردوس ، تترحم عليه ثم تدعو لأبنها بالعودة سالماً ، تحاسب نفسها ، المرة الأولي التي يخرج دون أن يخبرها إلى مقصده . تضع الصور جانباً ،ترتب كتبه بتناسق ،تسندها في صف واحد بينما تسقط بين يديها ورقة صغيرة ،تحسبها من قصصه ،تفتحها دون مبالاة تقرأها ،تمعن في القراءة ،ترتج يداها ،تضطرب ..تزداد في الخوف يضرب قلبها بعنف ،تجلس مندهشة ، لم يخطر ببالها ما حدث ، لم تكن تظن انه سيفعلها يوماً ، تتذكر انهم أذاعوا اسمه على شاشات التلفاز ، لكنهم قرءوه خطأ .. تتمتم :
آه يا بني .. رفعت رأسي عالياً .
القلب يهدأ ، تسكنه الراحة ، يزداد القصف حدة ، تشتد وتيرته ، تأخذ الورقة ، تقرأه من جديد ، تعاود قراءة سطوره المفعمة بالحياة ، تدمع مقلتاها ، تمسحهما ، تعاود القراءة مرة ثالثة و رابعة و عاشرة ..
الأم المحتسبة ..
الغضب يعم المكان ، يطيح بالألسنة ، يخترق ليل المخيم ، يبدد السكون المترهل في جسد الموت ، يجترني في أن أفكر ، أن استعمل نفسي ، افرغ كبتاً لقلوب فقدت أعزائها ،يتمت ، رملت ، ثكلت .. أردت يا أمي أن أكون جمرة من اللهب تخترق صدور الأعداء ، تفجرهم ، تحطم بركانهم ، تصدمهم ، تقتلع تكبرهم الأخرق إلى الجحيم ، فالجميع متلهب لما يشفي الغليل المتيقظ في أنفسنا ، لثورة تريح الضمائر الخامدة ، تجعلها تتنفس بهدوء ، تتنفس الصعداء ، ترطب قلوبها بالأمل ، ترسم طريقاً جديداً ليوم جميل خالياً من آلام و جروح ، من جوع قديم .
اليوم ، كان دوري رغم الحصار ، أصررت على أن أنفذها اليوم ، أن اضربها بقوة ، أتدرين ما هو اليوم يا أمي،انه يوم ميلادي ، اعلم انك الآن تقطرين دمعاً ، فقط احتسبيني عند الله .لا تحزني ، فهذا قدرنا.
نعم انطلقت يا أمي أعدو ، أتعثر في الطرقات علني أجد الزقاق المناسب للخروج من المخيم ، لكنني عدت ادرجي ، بدأت أعيد كتابة وصيتي لك ثم عاودت المحاولة ، ولجت في عالم جديد ، ملئ بالمغامرات و المخاطر ، و لست أدري أن قد يتوج عملي بالنجاح أم .. لا يهم ، الشيء الذي أعيره انتباهاً هو أن نعمل ، لا نتوقف . هذا دربنا أيتها الأم الصابرة . جاء دوري بعد أخي عماد و إسماعيل ، و اخوتي يواصلون دربي من بعدي ، لا تحزني ، اجعليني في مخيلتك ، الهجي بدعائك لي و لمن بعدي ، فأعداؤنا يهابوننا وقتما تنطلق من ألسنتنا الأدعية الراجية بتكبيدهم القهر ، يخافوننا ، يهابون كل شئ فينا .
الخنساء الصابرة المحتسبة ..
هذه وصيتي كتبتها إليك ، لحظة بلوغ الخبر بالتقدم و الضرب ، أن أخترق صوب موقع النسيان ، أرجو أن يحقق الله مرادي ، يوفقني لما أصبو إليه " و لا تهنوا و لا تحزنوا و انتم الأعلون أن كنتم مؤمنين " . سأجعل نهارهم كاحلاً كظلام ليلهم الدامس . سأجعلهم يندمون بالقدوم لأرضنا ، سأج………… القصف يشل أرجاء المعمورة كالرعد الهادر ،تتلوه أصوات قوية ، صلبة ، جامحة ، لتتفجر حينها الأصوات بالنداءات و التكبير داعية بالتوجه صوب الثكنة و إنقاذ من بقي تحت الأنقاض .
* عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين و عضو نادي القصة القصيرة في وزارة الثقافة الفلسطينية.