سباق
مجدي السماك
*في يوم كان يبدو من أوله أنه عادي كباقي الأيام التي تروح وتغدوا حاملة معها أثقالا من الخطايا، دون أن يشعر بها أحد من الناس حين تمضي بهم مسرعة في هدوء أو مبطئة في صخب. في عصر ذلك اليوم العادي خرجت أسمهان في مشوار مهم، لتتفرج على سباق الجري لمسافات قصيرة.. الذي سيقام في أوسع ساحة في وسط البلد. وانتعش وجه أسمهان لمّا نفخت الفرحة خديها وصار لونهما أحمر بلون الكاتشب. وغلّف قلبها مرح كثيف فصار يدق في ثقة ويخفق، ثم صار يعزف في سرور ويترنم وكان لحظتها لا يزال بين ضلوعها في شغف يرفرف. وشعرت أن أمرا جديدا سيحدث في البلد، وما أندر ما يحدث في البلد من جديد. ولم تنس أسمهان في أوج فرحتها أن تصطحب معها زوجها شعبان النائم على ظهره، الغارق في قيلولته ومنهمك في شخير عميق فيه طرقعات متوالية لا تخمد، وقصف متواصل لا يخبو يصدره أنفه وفيه من القوة ما جعله يهزّ ستائر غرفة النوم. فمدّت المرأة أصابعها الأرفع من أصابع الفنانات، ومشت بها كلها صاعدة على جسده لتقرص بخفة قمة بطنه العالي لتوقظه. فاستيقظ شعبان مرتاعا بعد عدّة قرصات، ثم نهض عند آخر قرصة وكان باله مشدوها وهو يقوم في فزع والسرير يئزّ تحت ثقل جسده الكسلان.
ثم خرجت أسمهان من البيت.. فخرج وراءها شعبان.
لكن شعبان الماشي وراء إمرته في تعب ممض كان يعيقه عن الإسراع في مشيته ويتعبه كبر بطنه الذي بلا شك يملأ قاربا للصيد.. وضخامة كرشه الذي كوّن قبة عظيمة مصنوعة من الدهن الخالص. فدفعه تعبه وهو يلاحقها لأن يحمّرق، فراح يصرخ في سره مغتاظا ربنا يهدك يا شيخه. وظل محتفظا بفمه مقفلا ولم ينطق ولو بحرف.. ومع هذا امتدّت أصابعه إلى شفتيه يتحسسهما ربما ليتأكد أن فمه محكم الإقفال.
مع هذا إلا أن شعبان لم ييأس وظل يكافح في جدّ ويكدّ. واستمر في ملاحقتها كأنه معها في سباق. ورغم تذمره لضغط حذائه الذي لم يعتد احتذاءه وهو يعصر قدميه ويكتم أنفاسه.. سوى أنه كان يمشي به ويحف الأرض ويكحتها فيثير الغبار من حوله كأنه لا يزال يمشي بالشبشب.
وأخيرا اقترب شعبان كثيرا من امرأته وكان حيله مهدودا.. حتى لم يعد يفصل أنفه الأفطس عن ظهرها العريض سوى قراريط معدودة على أصابع كفه الأغلظ من خبز الفينو. فبدأت خياشيمه مكرهة تشم في حنق رائحة فواحة كانت تنبعث من أسمهان، رائحة الصابون الذي دعكت به جسدها قبل خروجهما بقليل، صابون حصلت عليه من كوبونات الإغاثة. وشعبان يعرف هذه الرائحة جيدا فهي لا تخفى عليه أبدا وهو الذي ما زال يداوم على شمها منذ سنين كثيرة متصلة.. عدا عن هذا فهو كثيرا ما كان يشم مثيلها في صالونات الحلاقين. واستمر شعبان مرة يلهث ومرات يشم حتى وصلا معا إلى مكان السباق. وكان ميتا من التعب وانقطع نفسه فأحس كأن حمارا يتمرغ على صدره بهمة ويتقلب.
وجدت أسمهان نفسها وسط ناس تناثرت كالنمل هنا وهناك في عشوائية بلا حدود. وأدهشها صوتهم الذي ما انفك يتحول في الفضاء إلى هدير.. وهمهمتم تستحيل إلى ضجيج.. وصفيرهم الذي يعلو وينعكس ثم يرتد بالتناوب حين يرتطم ليدوي بين السماء والأرض.. كهدير بحر عصبي غاضب في ليل شتوي أصابه جنون. فظلت في وقفتها باهتة وهي تلقي في ذهول نظرات أفقيه وتتبعها بأخرى عمودية فيها فضول وفيها حيرة مستحكمة. ولملّمت أسمهان نفسها في جلبابها الهفهاف وكان الانبهار لحظتها قد استغرق أدق خلجاتها، والجم جوارحها كلها وسط دهشة تامة استوّلت على فمها فربطت لسانها وعلقته في سقف حلقها وقد نفذ منه الريق فبقي دون بلل أو ترطيب.
ثم بعد حين فجأة صحا لسانها المندهش وانفلت يتحرك فسألت شعبان وكانت لا تزال مبهورة..
- أنت معرفتش بالضبط موعد السباق.
- مش عارف.. بس أنا سمعتهم قبل يومين وهمّ يقولون الساعة خمسة ونصف.
فغرزت أسمهان عينيها في ساعة يدها الأصغر من زر القميص المخطط الذي يرتديه شعبان على اللحم. ثم استردت عينيها ثانية وأسرعت تلقي بهما مرة واحدة في وجه شعبان وتحدق بغرابة إلى سحنته المسحوبة بتقنية عالية.. بعدها شهقت، وختمت شهقتها بكحة، وأعقبت كحتها بسؤال آخر فيه غصة وقفت في زورها فجعلت المثلث الذي فوق أنفها مرة يتشنج بشدة ومرة ينكمش حين أشارت بسبابتها..
- انته شايف اللي أنا شايفاه يا شعبان؟
وكان شعبان لحظتها قد انحنى ليعيد عقد رباط حذائه الذي انحل أثناء المشي واللهاث والشم.. فجاءها صوته الخشن من بين فخذيه، أسفل كرشه، ليقول في فتور وقرف أنه لا يرى شيئا.
ثم اعتدل شعبان وأكمل وهو يعدل تكشيرته التي كان قد بدأها للتو وهو منحني، واتسعت تكشيرته بسرعة حتى غدت محبوكة على مقاس وجهه بالضبط. فكررت أسمهان السؤال وملّت وهي تعيد فيه وتزيد في عصبية وقرف صار يبين واضحا على وجهها الذي أفسدت فيه شمس العصر المكياج فجعلته مثل الخبيصة. وظل شعبان ينظر في ريبة إلى عيني زوجته الحولاء الّلتين لا تثبتان البتة في مكانهما ولا تستقران أبدا على أي مكان. فدبت فيه الحيرة وتبلبل الرجل وهو واقف مثل التنبل يحدّق حوله كالسكران في استغراب إلى كل الاتجاهات، كأعرج مطلوب منه أن يلعب كرة قدم أمام الناس. وكانت زوجته لحظتها قد شاط غضبها وبلغ ذروته ودمها فار.. ومن يرها وهي تفور سيظن حتما أن أصابتها خفة أو جنّي تلّبسها.
وبقي شعبان الهامد الضائع في مكانه جامدا تحت الشمس لا يتحرك فيه سوى عينيه المرتبكتين، وهما تبحثان عمّا استرعى انتباه أسمهان وشغل بالها وقلب كيانها شر قلبة. ثم لمّا فاض بأسمهان وفقعت مرارتها من بلادته ونشف ريقها من قلة فهمه.. لكمت بخبرة رفيعة أقرب كومة دهن تطالها قبضتها من جسده فرجرجتها، وأردفت وهي تفخّم الكلام في فمها وتشدّ على بعض الحروف، وتمط في نكد بعضها الآخر..
- في الناحية الثانية يا أعمش.. باين عليهم واقفين بالعكس.. يا ساتر عليك.. أنت لسه مش شايف.. هناك.. على اليمين.. أما انك أعمى.
وجد شعبان نفسه مضطرا لأن يضم جفونه الأربعة ويواربها، ونفخ ومدّ النفخ ليطيله ثم أغلق فمه.. وبسط كفه فوق حاجبين مبللين بالعرق ليصنع منها مظلة وبعدها راح يمدّ رقبته إلى الأمام، وهو في الواقع لم يكن له رقبة. ثم استخار الله وفتح فمه، وأحس بالاطمئنان وهو يفتحه لجواب أسعفه قد حضر في الحال إلى ذهنه على ما فيه من بلبلة.. ونطق في نشاط وبطنه يهتزّ ويتناغم مع حركة كتفيه..
- آه.. يقطعني.. نسيت أقولك.. أصلهم عملوا السباق بالمعكوس.
شعرت أسمهان أن شعبان يسخر منها.. فجذبت في ثورة عارمة طرف قميصه وأخرجته بعصبية من تحت البنطلون، وظلت ممسكة به فبان جلده ناصعا كعشرة قروش معدنية وأبيض كورق التواليت غير المستعمل. ثم أسرعت بلسانها تستفسر في لهفة وتركت من يدها طرف القميص..
- كيف يعني بالمعكوس.. أنت مسطول يا شعبان.. أما صحيح حاجة تجنن.
فقال شعبان بعد أن انتهى من دس طرف قميصه تحت بنطلونه الجينز، وشدّ الحزام.. وكان لا يزال بكمه يمسح غزارة عرقه وقد كون على جبهته ووجهه وحواجبه أنهارا وينابيع.. اسمعي يا ستي.. أنتي شايفه هناك العمود اللي عليه كوفية.. أصل هذا هو الهدف. والذي من المتسابقين لا يصل إلى الهدف أولا.. يعني الذي لا يسبق.. هو الذي سوف يفوز بالسباق، وينال الجائزة.. آه والله.. أنا سمعتهم أمبارح في المقهى لمّا قالوا هذا الكلام.. وحياتك قالوه وأنا مروح في الليل، وبالأمارة ميلّت في طريقي على بوتيك الحاج سالم ومسّيت عليه واشتريت لك من عنده قزازة منكير. قوليلي صحيح يا أسمهان أنتي منكرتي أظافرك.
بالكاد أنهي شعبان آخر حرف من كلامه حتى أحست أسمهان بقلبها ينقبض.. ثم أحسته ينبسط وينقبض. وانقلبت سحنتها فتفلطحت خدودها فجأة ثم نفرت وهي تقرّب وجهها من خلقته التي كان فيها اهتمام قليل.. ولم يكن في كلامه أو ملامحه ما يشبع فضولها وقد بدأ يشعلها من جوّه. وصار خلقها بحاجة ماسة لأن ينّفّش. فأسرعت تسكب الكلمات من فمها وتغرق بها أذنيه في دهشة غزيرة.. ثم سألته..
- يعني الذي لا يفوز في السباق هو الذي سوف يفوز بالبطولة يا شعبان؟
- أكيد.. الأخير هو الفائز الأول .. أصول اللعب!
- أما عجيبة! والناس سايبينهم يتسابقوا على كيفهم.. همّ الناس راضيين؟
- يا شيخه سيبك.. فضيها سيرة. يا وليه إحنا مالنا ومال الناس. هي الناس هممها حاجة غير الجري وراء لقمة العيش.
- يا لطيف عليك.. قد ما نفسي أكون راجل بس علشان أوريهم كيف لازم يكون السباق.
قبضت أسمهان أصابعها.. ثم بسطتها وقبضتها. وتمنت لو بإمكانها أن تخبط رأسها بشاكوش ثقيل عله ينفلق، ويتفشفش. وارتد عقلها في الحال إلى أيام زمان.. لمّا كانت الدنيا هي الدنيا التي عاشتها في طفولتها حين كانت صغيرة تتسابق مع أولاد الحارة.. في الجري.. ونط الحبل.
ثم لمّا صفّر الحكم لبدء السباق تنبهت أسمهان وحدقت وارتاعت وهي تبحلق في فزع، من نتيجة تأكدت بحدسها وعقلها أنها ستكون مقلوبة ولا يعلم مصيرها إلا الله. وابتدأ السباق.
وشعبان إلى جوارها صامتا مشغولا بفرك عينية ليجهزهما للمشاهدة.
وشهقت أسمهان ودبت بيدها على كتف شعبان وهي تشاهد المتسابقين يجرون وكل واحد منهم يحاول الابتعاد عن الكوفية المرفرفة فوق العامود. الكوفية الهدف وقد صار الجميع يخشى الوصول إليها ويدعو الله ويتضرع ألا يصل إليها أولا، أو حتى يقترب منها كي يصير بطلا.. والويل كل الويل لمن يصل قبل غيره، أو حدثته نفسه بالوصول.
وكلما ابتعدوا عن المكان كان قلب أسمهان يدق أكثر فأكثر وينتفض. وتتساءل وهي تتمتم بشفتيها كأنها تقرأ الفاتحة على روح ميت عزيز إلى نفسها، كيف سيراهن الناس بعضهم البعض على الفائز؟ وظلت تتساءل وتغمغم حتى وصل المتسابقون إلى البحر.. فدخلوه.. وجروا فيه جميعا وأوغلوا بين أمواجه حتى غرقوا كلهم واختفوا دون أن يبين لهم رأس. فأحست أسمهان رغم بعدها بالأمواج تتلاطم وهي تتسابق وتبتلع بعضها وتتحول إلى السنة نيران مهولة الارتفاع.. تسقط الطير من أعالي السماء.. ويحترق كل ما حولها.
*عضو الجمعية الدولية للغويين والمترجمين العرب- واتا