عفريت حمادة
عفريت حمادة
د. ضحى الناشف
تورنتو / كندا
في عيادتي المتواضعة في مدينة تورنتو في كندا امارس الطب البديل الذي يحمل لي مرضى شيبتهم الحادثات وهدت صحتهم النوائب ويئس الطب العادي من شفائهم، ووراء كل مريض منهم قصة طويلة مريرة تبدأ من طفولة معذبة وتمر بمغامرات طائشة وتنتهي بأمراض مزمنة لا تفيد معها المراهم والحبوب، بل هي تحتاج الى سبر أغوار المريض واستعراض شريط حياته حتى أضع يدي على مفاصل المرض وجذور الداء وأقلب حالته بحثا وتمحيصا حتى أقع على الوصفة المناسبة له (الرمدي Remedy) بعد طول تفكير وتحليل.
ولقد مر على في كندا حالات كثيرة عجيبة تتناسب مع مصائب الحياة الغربية التي تعج بآباء كحولين يعتدون على أولادهم، وأمهات مهملات يشردون أطفالهم ... غير أني لم أكن اتصور أن يأتي يوم يعرض علي فيه مريض قد ركبه جاني وعجز الطب والمشايخ عن إخراجه، فهذا ليس من إختصاصي، وكل خبرتي مع الجان هو ما قرأته في سورة الجان، فلا أنا أعرف كيف يركبون الناس ولا أنا أعرف كيف يخرجون.
وفي الساعة الموعودة حضر إلى عيادتي شاب نحيف الجسم متوجس النظرات يرافقه والده ... وبدأ الوالد الحديث معي قائلا: يا حضرة الدكتورة لقد قطعت آلاف الاميال حتى وصلت اليك، لأن الامر يتعلق بولدي، فلذة كبدي، ... يقولها بحسرة ... حسرة قلب الأب الذي أدماه وضع ولده الشاب الذي يبلع من العمر حوالي السابعة عشر ... أغلق الباب يا ولدي وتعال حتى تراك الدكتورة إنها سوف تساعدك فيما أنت فيه.
وينفذ الولد طلب والده بصمت مبهم وتبدأ ملامح القلق والخوف ترتسم على وجهه.
جلس قريبا من والده كما طلب منه، وأطرق بصره بحيث لا أستطيع أن أقرأ تعابيره.
حضرة الدكتورة أرجو أن تسمعيني بدقة حتى تتمكني من فهم وضع ولدي. البعض يقول دواؤه عند المشايخ والبعض يقول عند أنواع خاصة من الطب تعرف كيف تصل إلى العوالم التي هي ما وراء عالم المادة، والبعض يقول بوصفات وعقاقير ... جوهر القصة يادكتورة أن إبني قد تلبست به الجن، أليس كذلك يا حمادة؟ ... نعم نعم ... يقولها بصوت منخفض متكسر ...
هؤلاء الجن سيطروا على ولدي سيطرة كاملة لا يستطيع لها فكاكا. تخرج منه أصوات الجن بنبرات غريبة مخيفة ... وياليت الموضوع ينتهي هنا ... بل إنه يتلقى منهم أوامر عجيبة وعليه أن ينفذها، أقصى ما توصلوا إليه -لعنهم الله- أنهم أمروه منذ شهرين أن يحرق مكان العمل الذي أعمل فيه أنا وولدي ( أنا عندي محل كبير لتصليح السيارات) تصوري أنني فوجئت بالحريق يأكل مصدر عملي ورزق عائلتي، حمادة له خمسة إخوة وأخوات أصغر منه، وهو كبير العائلة ... لم يتمكن طبعا من مخالفة أوامر الجان واضطر الى إضرام النار في ورشة العمل. كنت غائبا ... وعندما عدت رأيت ألسنة النار تأكل رزقي ... نسيت كل شيء ... وهتفت أين ولدي ... هل ولدي بخير؟ ... لا يهمني شيء إلا حياة ولدي ... لم أتفوه بكلمة ... بلعت المصيبة التي كانت كالإعصار وقلت الحمد لله الذي نجا لي ولدي.
واستدارالأب إلى إبنه يسأله ثانية أليس كذلك يا حمادة؟ وبصوت متقطع حزين أكد حمادة صحة كلام والده.
وبدأت الحديث سائلة حمادة: أريد منك يا حمادة أن تحدثني أكثر عن هؤلاء الجن ... مثلا صفهم لي من الناحية الشكلية ... كيف يظهرون ... وماذا يقولون ... بعض التفاصيل
وانبرى الوالد مجيبا نيابة عن ولده: أنا سوف أخبرك يا دكتورة، أنا أعرف كل التفاصيل ... شيء عجيب حقا، إن حمادة يقول لي أن القسم العلوي من الجني شكله تماما مثل شكلي، ما ألعن هؤلاء .. يأتون إليه بشكل أبيه حتى يستأنس بهم.
وماذا يقولون؟
أخس ما يمكن أن يقال ... يقولون له عليك أن تقتل أباك !!!
قلت وهل هناك حالات مشابهة لهذه الحالة في العائلة؟
قال لله درك يا دكتورة ... نعم زوجتي ... وماذا عند زوجتك؟ ... في السنوات الاولى بعد زواجنا أصيبت بنفس الداء وبدأت تشكو من إحاطة الجن بها بأعداد كبيرة هائلة كالجيش العرمرم ... ولكنهم أقزام صغار وكانت تقول لي كما يقول حمادة أن وجوههم كانت على شكل وجهي تماما، ولكن الجان الذين يسيطرون على ولدي أضخم حجما وأقل عددا.
وما حال زوجتك الآن؟ ... أحمدك يا رب شفيت تماما من هذا الداء العضال لقد كان العلاج صعبا عن طريق بعض المشايخ المختصين بهذا، ولكنها صبرت على العلاج وشفيت والحمد لله. وأنا أنوي غدا أن آخذ حمادة إليهم إنهم عندكم في تورنتو، ساطرق كل الابواب إلى أن يفرج الله عن ولدي.
وسألت الوالد: لو احتجت لبعض المعلومات من أم حمادة هل عندك مانع من أن أتصل بها هاتفيا؟
قال يمكنك الاتصال بكل تأكيد وهذا هو رقم الهاتف ... إنها لا تغادر البيت، ستجدينها هناك في أي وقت اتصلت.
قلت حسنا، أقترح الآن أن تنتظر في غرفة الانتظار حيث أريد أن أسأل حمادة بعض الاسئلة على انفراد ... كما تريدين ... أين اتجاه القبلة كي أصلي خلال فترة الانتظار.
وخرج الوالد ، وتنهد حمادة تنهدا يشير الى أن هناك الكثير الكثير مما يريد أن يقول ...
كم عمرك يا حمادة؟ ...سبعة عشر سنة، هل تذهب إلى المدرسة؟ ... لا، لماذا؟ ... لأنني أعمل في ورشة أبي، ما تخبرني عن هؤلاء الجن؟ ... مثل ما قال أبي، أريد يا حمادة أن أبين لك قضية هامة، أنا الطبيبة هنا وأنت مريضي وليس والدك، أنا أريد أن أسمع منك أنت.
نعم نعم ... ولكن والدي أخبرك بما تريدين ... إذن نادي والدك ثانية ... ويدخل الوالد وهو يتمتم بتسبيحات وأدعية ما بعد الصلاة ثم يبادر قائلا: هل تؤمنين بعالم الجن؟ ... قلت طبعا نحن مسلمون، قال إذن توكلنا على الله قلت أريد أن أرى حمادة بعد ثلاثة أيام لاجراء بعض الفحوصات التي قد تعطي مفتاحا للقضية، ولا داعي لأن تأتي معه في المرة القادمة، إنه شاب وليس طفلا.
وعاد حمادة بعد الأيام الثلاثة لوحده وجلس على الكرسي متسمرا وبدأت الحديث قائلة: أين والدك يا حمادة؟ لقد أوصلني بالسيارة وطلب مني أن أتصل بالهاتف الجوال عندما أنتهي من الزيارة ... حسنا أريدك أن تتمدد على طاولة الفحص الطبي مع ثني الركب قليلا، نظر إلي حمادة دون أن يستجيب وبقي على كرسيه متسمرا ... حسنا سأحاول أن أسمع دقات القلب وأصوات التنفس وأنت على الكرسي، وضعت السماعة على القميص الداخلي من ناحية الظهر لسماع أصوات التنفس ... فصرخ حمادة متألما ... ماذا يا حمادة؟ ظهري يؤلمني ... إخلع القميص القطني إذن ... من أين هذا الالم الحاد؟ ويخلع حمادة قميصه وأتسمر أنا من جروح دامية تملا الظهر بالطول والعرض هنا وهناك ... ما هذا يا حمادة؟ إذا التهبت هذه الجروح فلن تشفى بسهولة، لا تتحرك سوف أدهنها لك بمضاد حيوي موضعي ... معلش لا تتعبي نفسك ... اسمع يا حمادة، أنا أكبر سنا من والدتك وأنت بمثابة إبني، سوف أعالجها الآن ثم نتابع الحديث، نظر إلى هذه المرة بطريقة مختلفة ... نظرات فيها الشكر والثقة ... قل لي يا حمادة من أين هذه الجروح، إنها تبدو حديثة العهد جدا ... قال البارحة مساءا أخذوني الى المشايخ حتى يخرجوا الجن من داخلي ...
وكيف؟ ... قال بالضرب، يقولون أنهم يضربون الجن حتى يخرجوا ... قلت وكيف تسمح لأحد بأن يضربك هذا الضرب المبرح؟ ... لقد ربطوني قبل أن يبدأ العلاج حتى لا أتمكن من الحراك ... اسمع يا حمادة: أنا هنا حتى اساعدك، وأنت مريضي، ونحن في كندا والقانون هنا يقول أن المعلومات بين الطبيب والمرض يجب أن لا تتسرب إلى أحد حتى ولو كان أهل المريض ، هل تفهم؟ ... نعم نعم، أريدك يا حمادة أن تخبرني بما أنت متأكد منه، أريد أن أسمع القصة منك. يطرق حمادة ثانية وكأن شريطا طويلا بدأ يدور في مخيلته، ولكنه لم ينطق بشيء.
قلت لقد لفت نظري في أمر هؤلاء الجن أنهم على شكل أبيك وأنهم يطلبون منك أن تقتل أباك ... يرفع حمادة ناظريه وقد ملأهما الذهول والحزن والحيرة ويقول: هل تحلفين بالله أنك لن تقولي لأبي ... نعم أعدك بذلك ... أنا ما رأيت جنيا في حياتي ولا أعرف عن الجن غير ما يروى في الكتب !!!
حدثني يا حمادة ما هي القصة؟ ...
قال أخرجني أبي من المدرسة وأنا في الصف السابع، قال لي أن الشكاوى التي يتلقاها من المدرسة ضدي كثيرة، وأنه من مصلحتي أن أترك المدرسة وألتحق بالعمل معه في الوشة.
عندما يصرخ بي أبي وخاصة عندما نكون لوحدنا في الورشة أشعر أن الدم قد تجمد في عروقي، و لا أستطيع حراكا ... أنت لا تعرفين ماذا يمكن أن يفعل بي إذا استبد به الغضب.
وراحت نظراته تحلق من وراء النافذة وكأن الذكريات الأليمة بدأت تنهال عليه.
أخبرني يا حمادة عن أقسى مرة تتذكرها وأنت وأبوك في الورشة لوحدكما.
كنا في المخزن السفلي للورشة وطلب مني أنا أحضر له قطعة غيار، بحثت عنها ولم أجدها، بدأت عيونه تتفتح وتستطير غضبا ... يريد القطعة وإلا ... من شدة الخوف الذي تملكني لم أعد أعرف كيف وأين أبحث عن القطعة، إنه يريد أن ينقض علي ... رأيت نفسي كعصفور صغير يطارده صياد كبير بسلاحه الفتاك. قلت ماذا كان يحمل معه؟ كان يحمل قلاية البيض النحاسية، وعندما رفعها بيده أغمضت عيوني وإذا بضربة على رأسي فقدت بها رشدي، ثم اقترب مني يريد أن يوقظني من غيبوبتي ويقول لي أن علي أن لا أنفذ أوامر الجن بأن أغير أماكن قطع الغيار وأنه سيعمل المستحيل من أجل شفائي.
أنت اذن تعمل في ورشة أبيك لأكثر من خمس سنوات، ما هي خبرتك حتى الآن وماذا تتقاضىمقابل ذلك؟ أنا أعرف تقريبا كل أمور ميكانيك السيارات وتصليحها، أنا أعمل مع أبي يوميا من صلاة الفجر إلى ما بعد العشاء، في منتصف النهار يعطيني أبي دولارا أو اثنين لأذهب الى مقهى قريب لأتناول شيئا من الطعام، هذا كل شيء ...
هل فكرت يا حمادة بحل للخلاص من هذا الوضع؟ ... في كل مرة أهم بالاتصال بالشرطة ثم أقول لنفسي بل في المرة القادمة.
وماذا عن والدتك؟ ... إنها تقول لي دائما أن كل ما يفعله والدك تجاهك هو في مصلحتك وعليك أن تتحمل، وأنني إذا اسأت التصرف فأن هذا سوف يخرب العائلة ويجعلنا نهيم في الشوارع دون معين، ومع ذلك فقد حاولت أن أترك البيت عدة مرات، وفي كل مرة يرون وسيلة للوصول إلي وأعود إلى البيت.
عندما أترك البيت وأذهب بعيدا أتذكر كلام أمي وأشعر بتأنيب الضمير القاسي ... أنا الآن سأكون السبب في تشرد العائلة، لابد ان أبي يسلط غضبه الان على أمي ... لقد عانت أمي كثير ولا أريد أن أزيد في عنائها ولا أريد أن أكون عاقا لها.
وهنا أمسكت بالهاتف واتصلت بأم حمادة، ولحسن الحظ أجابتني على الطرف الثاني من الخط، وحمادة يؤشر لي برجاء ألا أذكر لها أي شيء يغضبها، وأنا أؤكد له أنني لن أبوح بأي معلومات تتعلق به.
السيدة أم حمادة، أنا الدكتورة ضحى ... أهلا وسهلا ... كنت بانتظار مكالمة منك فقد أخبرني زوجي بانك قد تتصلي بي، أشكرك من أعماق قلبي على جهودك في علاج ولدي.
أخبريني يا أم حمادة عن تجربتك مع الجن ... وبدأت تروي القصة بنفس الطريقة التي رواها بها زوجها. كيف هي علاقتك بابي حمادة؟ ... الحمد لله ممتازة، إنه يقسو علينا أحيانا لأنه يعرف مصلحتنا، ولكن جزاه الله خيرا إنه دائما يعرف أين تكون المصلحة وكيف يكون الحل.
أخبريني يا أم حمادة عن باقي أولادك، هل هناك مشاكل مع أي ولد آخر؟ ... نعم، ابنتي فاطمة ... وماذا عن فاطمة؟ ... لقد رمت مرة نفسها من الشرفة إلى الشارع، ولكن الحمد لله حمتها الملائكة من الموت وتماثلت الى الشفاء بعد أيام ... ولماذا فعلت هذا بنفسها؟
قالت: عندما كانت في المدرسة كانت المحجبة الوحيدة في صفها، وأنت تعرفين ضغوط الزملاء في الصف ... هناك من يستهزئ وهناك من يتهمها بأنه لا شعر لها، وهكذا ... لم تستطع ابنتي فاطمة أن تواجه كل هذه التحديات وأصبحت منغلقة على نفسها لا تتكلم مع أحد ... وبدأت تنحل ويهزل جسمها ثم كان ما كان.
إسمعي يا أم حمادة: أنا أعرف أن كثيرا من البنات المسلمات المحجبات لوحدهن في المدارس والصفوف ولكني لم أسمع أبدا بواحدة منهن ترمي بنفسها من الشرفة !!!
اصدقيني يا ام حمادة، كيف يعامل زوجك أولاده؟ وكيف يعاملك أنت؟
وبدأت تتكلم بحدة، لقد قلت لك إنه وإن قسا علينا فإن هذا من أجل مصلحتنا، إنه يريد أن يخلص حمادة من الجن، وقد قطع آلاف الاميال من أجل ذلك، كل ما أريده الآن أن يعود حمادة إلي، لا أريد أن أخسر أولادي، أريد أولادي أريد أولادي ...
حسنا ... حسنا يا أم حمادة، وشكرا جزيلا على تعاونك وتفهمك.
وعدت أنظر إلى حمادة وينظر إلي، وإذا بوالده يقرع الباب ويقول يجب أن آخذ حمادة الآن ... لقد حان الموعد الجلسة الثانية مع المشايخ، وهناك شيخ صومالي كبير بانتظاره الآن. وسنسافر بعد ذلك إلى مدينتنا البعيدة، وشكرا لك يا دكتورة على كل حال.
وقفت مذهولة أشيعهم بنظرات الحيرة والألم ولا أدري ما أقول غير أن أدعو الله لهذا الشاب الضحية أن يحسن خلاصه من أيدي ثلة الجهل المحيطة به، فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.