فلسطين تحت المطر

فلسطين تحت المطر

قصة: يسري الغول *

[email protected]

ألوان زاهية تخطفني ، تحاصر ظلي المتكسر كعودة قش صنعت بها كوخاً في طفولتي ، أزرق بهاء ينتشي مع إطلالة سحب أرجوانية رائعة ، أحمر كليالي غابرة تقتلني ، أخضر نقاء يفترش بقايا مخيلتي ، ألوان و ألوان تحاصرني ، تمتد لتلفح ما يراودني ، أراها بهية متداخلة تختلط في قلبي ،تتمرد على صمته ، تطرأ علي فكرة جديدة ، أن أرسم ما يطفح في عيني ، حب ، غروب حتى الغرق ، لكن حزني يملأني ، أتذكر و المطر يغور في البعيد الذي يطوحني ، يقشعر بدني ، لا أفكر في الأخضر أو الأزرق أو أي لون آخر ، شيء يجذبني إلى نقش آهات المطر على أسوار وطني ، عالمي ، أتسائل بيني وبيني ، لربما هي لوحة القدس تحت المطر من أغرتني ، لا ادري ، سأحاول أن أرسم ، أفكر جدياً بذلك ، لكن الخوف يتملكني ، هل سأنجح إن فعلت ؟ سؤال يؤرقني ، أنزع عني روعي ، أمسك بالفرشاة " سأرسم " و الكلمة تطن في أذني ، أفترش ظلي على اللوحة ، أغمض كل ما يبعدني عن مطري ، تبدأ يدي بالانصهار في بوتقة اللوحة ، أضع خطوطاً باهتة لمجازاتي ، أرسم سهولاً دون وجه ، بيوتاً دون أسقف ، و تملأني الحكايا ، تبحر بي في دهاليز عواصفي ، أسقط قطرة ماء ، أسقطها دون أن تؤذيني ، و في اللوحة رذاذ خفيف يطاردني ، أصنع عالمي ، بيوتاً قرميدية تتكسر مع وجنات الماء النابضة كحزني ، أتعثر في شجوني ، أمطاري تتساقط بغزارة ، قطرات تذكرني بالتيه في بلاد الغرباء ، التزلق في ثنايا الأرواح ، ألام و انهيارات ساقطة ، مبتذلة ، لكنها لطيفة ، رائعة . أسقط الفرشاة على اللوحة " سأخنقها تلك الساقطة " و وجه عبوس يموت مع كل بذرة ماء تتوالد في سماوات الحب الرابضة ، أتأمل اللوحة ، تبهرني قدرتي ، أجدني قد فعلت شيئاً ، رسمت ، صنعت ما أدعيه فناً ، نعم فعلتها بحق ، لا أصدق ما تراه عيني ، لم أكن أدرك أني سأنجز ذلك فعلاً ، و أطرق جدران عقلي " لقد كانت مجرد فكرة " ، أضحك " هل هي من حركتني؟ " أضحك بضجيج أنفاسي المتلاحقة ،أتوقف ، " هل أنهي تلك اللوحة ؟ "و حبي لسرد لحظات خلدتها نشوتي تستوقفني " أنت بارع حقاً " شيء يرجوني بالتمهل ، أسقط كتلاً من الحقد ، الثلج ، و فوق سطح منزلي تتكاثف كاختناقي ، أتعثر مع أخي ، نسقط بعد تكسر الألواح القرميدية المتهتكة ، نصعد و تصعد اليد لتكمل مشوار الحرث في ضباب الماء الواهن ، قطرة أخرى و أشجار السرو تظللني ، عجوز تجري كصبية في العشرين من موتها ، أتعثر بصورة مخيمي ، و أبكي .. تمتزج أمطاري بلوعتي ، غربة في وطن ، قطرة أنقى من دموعها ، حبي أفرشه معها لها ، تلك التي باعدت بيني و ظلي ، أشيح بوجهي عن تلك السقطة من الماء ، أغربل بقايا شتائي ، الوطن يتلبد بسحب الانفجار " فلسطين تحت المطر " شعور بالغبطة للوطن يحتويني " نعم ، هي تحت المطر " كما هي هناك في عالم الأموات ، ليست القدس وحدها ، هنا أراها تنفجر " فلسطين تحت المطر " كما كل عام ، و كل لحظة ، كما رأيتها في غربتي الهائمة على وجهها.. و قبل أن أسقط منهمكاً في خوفي و أختفي  ، يتردد سؤال في قيعان دواخلي ، يرهقني ، يفجرني كي أنطق به ، أكتبه تحت قطار موتي " أهل سيرها من هم مثلي كما أراها الآن ؟ هل ؟ .. " و لا أدري كيف الجواب .      

           

* عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين و عضو نادي القصة القصيرة في وزارة الثقافة الفلسطينية