الحطاب الحكيم
الحطاب الحكيم
مصطفى طه رضوان
الشمس تتوسط كبد السماء وترسل أشعتها اللاهبة فتصلي الأرض في بوادي الحجاز بحرها اللاهب، رغم موسم الربيع، الذي حل فاكتست الوديان والشعاب بمختلف ألوان النبات.. فاخضرت الأرض والأشجار الشوكية والصبارات وانتشرت أنواع عديدة من النباتات الصغيرة تملأ الوديان بألوانها والجوّ بعطرها الفواح.. فبدت الأرض في أحلى زينة وأجمل صورة..
وفي ثنية واد كثير العشب والخير احتشدت وتناثرت بيوت بني الغوث إحدى قبائل طي العربية المشهورة.. كانت بيوتهم عبارة عن خيام مختلفة الأحجام والألوان إضافة إلى بعض الأكواخ المبنية من الطين والأحجار.
كانت الحركة قليلة في ربوع بني الغوث، فقد أووا إلى مساكنهم هرباً من الحر..
وفي خيمة في الجانب الأيمن من الوادي، قرب بعض شجيرات العاقول ذات الشوك الحاد والتي يحيط بها نبات الطيب الرائحة.. كان ثلاثة رجال بثيابهم الملونة وعمائمهم الجميلة يجلسون في صدر الخيمة، وكان يتصدر المجلس رجل أشيب ممتلئ الجسم مهيب المنظر بلحيته البيضاء، رغم أن عمره لم يكن يجاوز الخمسين إلا قليلاً، وكان بجانبه شاب نضر الوجه مفتول العضل كله حيوية ونشاط، ورغم أنه نحيف الجسم إلا أنه متين التركيب وله أنف أقنى وشعر طويل قد تدلى في ضفيرة على ظهره، ولحية سوداء خفيفة، ويبدو أنه كان يتصرف بصورة لم تكن تعجب الرجل الأشيب، لأنه كان ينظر إليه بعتب.
وأما الثالث فكان رجلاً مكتملاً في الخامسة والثلاثين من عمره، ثاقب النظرات، هادئ السمات، ويبدو في تصرفاته اللطف والإيناس والأريحية.
كان البيت عبارة عن خيمة متوسطة الحجم، وإلى جانبها كوخ صغير، هي مكان سكن العائلة واستقبال الضيوف، وقد حجز بين القسمين بحاجز..
وكانت صاحبة البيت تعد الطعام قرب الكوخ، فهي تغدو وتروح والدخان يتصاعد من حول القدر المنصوبة على ثلاثة أثافي..
وكانت أصوات الرجال تعلو من جهة الخيمة، فقد كانوا يتناقشون في أمر جواد صاحب البيت واسمه الأغر، والذي كان مربوطاً بجانب الكوخ قرب شجرة عاقول، وهو يأكل بعض النبات والهشيم، ويضرب بحوافره الأرض.
قال الشاب، ويدعى رباح، بحماس:
- إنه جواد كريم لا يقدّر بمال..
وقال الرجل الأشيب، ويدعى حبيب، بامتعاض:
- ما أراك إلا مبالغاً كعادتك يا رباح.
وقال الرجل المكتمل ويدعى أويس:
- إنه مجرب يا عم حبيب، ولو رأيته في المعمعة لعرفت قيمته فقد كان يصول ويجول، فإذا طاردت به العدو أدركتهم، وإذا سابقت به المطاردين فتّهم وسبقتهم.
قال رباح:
- لقد صدق أويس، فوالله لقد رأيته يوم غزونا جديلة، وإنه على فرسه هذا.. ينقض على الأعداء كالصقر، فهو الفارس المجلي.
قال حبيب: اسمع يا أويس، فإنما غزْوُنا هذا لجديلة أبناء عمنا ما هو إلا ظلم كبير، وما أرى في الغزو كله خيراً..
فسأل أويس: ولمَ يا عم حبيب؟
وتساءل رباح: وأين النفع والخير، إن لم يكن في الغزو والقتال وخوض المعارك واكتساب الغنائم؟ إن رزقنا في حدّ سيوفنا نحن العرب.
فسأل أويس: أتريد أن تجعلنا كصعاليك العرب الذين لا همّ لهم إلا السلب والنهب؟
أجاب رباح: ما قصدت إلى هذا..
قال حبيب: إنك ما زلت حديث السنّ، ولم تعركك الأيام ولم تعلمك حوادث الدهر يا رباح.
قال رباح: أتعيب عليّ صغر سني؟ ولكني خواض للمعارك.
قال أويس: خوض المعارك قد يكون دليلاً على قوة الساعد وأنت كذلك يا رباح.
تساءل رباح: أوهذا شيء يستهان به يا أويس؟
قال حبيب: مهلاً، مهلاً يا رباح، نحن لا نستهين بقوة السواعد ولكن في رد المعتدين والدفاع عن العرض والمال والأرض.. ولكننا بحاجة أيضاً إلى رجاحة العقول لأجل وقف الاقتتال والغارات بين قبائل العرب!!
قال أويس: صدقت يا عم حبيب.
وقال حبيب: إني أرى هذا الغزو الذي أغرمت به القبائل في جزيرة العرب، عاراً على العرب جميعاً، لأنهم يقتلون فيه إخوانهم وأبناءهم ويسلبون الأموال ويسلبون النساء.. وهذا ظلم ما بعده ظلم..
فأنشد رباح:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
فتساءل أويس: وهل كتب علينا أن يظلم بعضنا بعضاً ويقتل بعضنا بعضاً؟
فأنشد رباح:
كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جرُّ الذيول
قال حبيب: مهلاً يا رباح، قد قلت لك إن القتل والقتال دفاعاً عن العرض والأرض وردّ المعتدين أمر جيد وعظيم، وكلنا يجب علينا أن ندافع عن الحمى ونذود عن الديار ونحمي الأعراض والأموال.. أما القتال الظالم، فهو الاعتداء على الآخرين وسلب أموالهم وسبي حريمهم وعيالهم، فوالله ما هذا من شيم العرب الكرام.
سأل رباح: والثار يا عم حبيب؟ أنترك ثأرنا؟
أجاب حبيب: لا نترك ثأرنا، ولكن هناك وسائل كثيرة لوقف معارك الثأر، هناك الصلح بين القبائل، ودفع الديات، وفض الخصومات بالحكومات.
قال رباح: ولكن من لا يغرم بالغزو والسلب والنهب يتهم بالجبن والخور وينسب إلى النساء.
قال أويس: مغرمون بالغزو ولو أن نغزو إخواننا وجيراننا!!
وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا
وأخذوا يضحكون ويتندرون بأفاعيل الأعراب في غزواتهم ومعاركهم وما فيها من ظلم ونقد.
أويس والعادات
كان أويس بن ثمامة الغوثي أحد فرسان بني غوث وبنو الغوث إحدى قبائل طي، وكانت بينهم وبين قبيلة جديلة –وهي من قبائل طي أيضاً- غزوات وثارات مستمرة، إضافة إلى الغزوات والمعارك بينهم وبين القبائل الأخرى، فحياة القبيلة قائمة على الغزو للقبائل الأخرى، ورد غارات وغزوات القبائل عليها.
وكان لأويس مال وافر من الجِمال والأغنام، حصل عليها أصلاً من حصته من الأسلاب التي غنموها خلال بعض الغزوات، ونماها حتى تكاثرت، ولكن رحى الحرب الدائرة، والغزوات المستمرة لا ترحم، وكما تدين تدان، فقد جاء حي بني الغوث يوماً مغيرين على حين غفلة، فاستاقوا كل ما وجدوه من جِمال وماشية، وخرج خلفهم بعض الرجال وتنادى بنو الغوث لرد المعتدين ولكنهم لم يدركوهم، سوى نفر قليل تصدوا لهم فلم يغنوا شيئاً، وكان المغيرون كرماء فلم يتعرضوا للنساء والأولاد.
وكانت خسارة أويس فادحة في تلك الموقعة، فقد فَقَدَ جُلَّ ماله، كما أصيب بجرح في كتفه حين تصدى للغزاة مع نفر قليل من رجال القبيلة، وبقي زمناً طويلاً يداوي جراحه حتى برئ منها..
كان الغزو وسلب الأموال والقتل والأسر وغيره منتشراً بين القبائل في جزيرة العرب، وكانوا يرون هذه الأمور عادية، بل عادات عاشوا عليها، فلا يتخلون عنها.. ولم يكن يستنكر هذه العادات إلا أفراد قلائل كان منهم زهير بن أبي سلمى الذي كان يحض على الصلح والمسالمة وينهى عن الحرب والغزو وسلب الأموال وغيرها. وكان منهم أيضاً حبيب بن جابر الغوثي، وأويس بن ثمامة الغوثي الذي ترجح له هذا الرأي أخيراً، فترك الغزو والغارات والسلب والنهب، وعزم أن يعيش حياة شريفة نقية أسوة بصاحبه حبيب الذي ترك الغزو والقتال أيضاً، واحترف التجارة، فعزم أويس أن لا يقرب مالاً لأحد من الناس، وأن يأكل من كسب يده، ولم يكن ذلك ميسوراً في جزيرة العرب في ذلك الحين، ولكن عزيمة الرجال تصنع المستحيل.
اتخذ أويس مهنة مداواة الجِمال الجرباء فكان يطوف على أحياء العرب يداوي جمالهم وماشيتهم، أو يأتون بها إليه فيداويها، ولكن هذه المهنة لم تكن سهلة كما أنها لم تكن مريحة كثيراً، فكانت تمضي الأيام أحياناً دون أن يجد أي عمل ولكنه كان متفائلاً قوي العزيمة.. ولكن كلام العشيرة لم يكن سهلاً.. ففي أحد مجالس العشيرة ناداه أحد وجوه العشيرة ويدعى عنبسة فقال:
- ما لنا لا نراك في مجالسنا يا أويس؟
أجاب أويس: شغلني طلب المعاش يا أبا شرود.
قال عنبسة: أما زلت ترفض مشاركتنا غزونا يا أويس؟
قال رباح: لقد أغوته حكمة حبيب يا أبا شرود.
قال عنبسة: وتركت ثأر قومك لدى بني جديلة يا أويس؟
أجاب أويس: بنو جديلة أبناء عمنا، ونحن قد غزوناهم قبل أن يغزونا.
قال عنبسة: هذه عاداتنا يا أويس، وطريقة عيشنا.
قال رباح: أما أنا فلولا صداقتي لأويس لقلت ما أعلم.
قال أويس: فقل يا رباح ما تعلم.
قال رباح: ما أرى إلا ذلك الجرح الذي أصابك يوم غزتنا جديلة قد أوقع في قلبك الخوف من القتال.
فسأل أويس: أأنت تقول هذا؟ ألا فليعلم كل الناس أني أقاتل فقط دفاعاً عن القبيلة إذا جاءها مغير، ودفاعاً عن الأعراض والأموال، ويعرف الأعداء أن سيفي صقيل، ورمحي طويل، وفرسي الأغر معدّ ليوم الكريهة.
قال عنبسة: على رسلك يا أويس، فوالله ما عرفناك إلا فارساً مقداماً، وإنا نقبل منك ما ألزمت به نفسك.
وقال شيخ من العشيرة:
- ولكن من أين تعيش يا أويس، ومالك في الحي ناقة ولا جمل؟
فصاح عنبسة: يا ذل الرجال!! أنتخلى عن أخينا.. لا والله بل نتواسى في أموالنا ما بقينا.
قال أويس: حييت يا معدن الخير والكرم.. ولكني عزمت أن لا أطعم عيالي إلا من كسب يدي.
* * *
عاد أويس إلى بيته وهو أشد عزماً وتصميماً على أن يكسب عيشه من عمل يده، وأن لا يقبل عطية من أحد، وأراد أن يطمئن إلى رأي زوجته، فقال لها:
- سلمى هل علمت بما جرى بيننا في مجلس عنبسة؟
قالت سلمى: إنه حديث العشيرة يا ابن العم.
فسألها أويس: فهل أنت معي فيما أفعل؟
أجابت سلمى: أنا معك يا أويس مهما كانت النتائج.
قال أويس: لن أعود إلى عادات السوء هذه..
فقالت سلمى: كان الله في عونك..
وقال أويس: ساعديني بالبحث عن عمل آخر غير مداواة الإبل الجرباء.
قالت سلمى: لا تهتم يا ابن العم.
جلس أويس في المساء إلى زوجته يفكر في حل لمشكلته.
قالت سلمى: سأذهب غداً لأجمع بعض الحطب، إن في جبالنا حطباً كثيراً ولكنه بعيد، ولذلك سأكتفي بجمع بعضه من الأماكن القريبة.. ولكن.. أما زلت في أفكارك يا ابن العم؟
قال أويس: دعيني يا سلمى.. مالي وللحطب. ولكن لابد من عمل، لابد من وسيلة لكسب العيش.
فسألته سلمى: ألا تعلم أن رزق الله كثير! فلم الهمّ؟
صاح أويس: وجدتها يا امرأة..
فسألته سلمى: ماذا وجدت يا أويس؟
أجاب أويس: وجدت العمل.. أحضري لي الفأس والحبل.
- فأس وحبل! ماذا تريد أن تعمل بهما في هذا الليل؟
- ومن قال لك إني سأعمل بهما في الليل؟ بل سأعمل بهما في الصباح الباكر وعلى ضوء النهار سأنطلق إلى هذه الجبال فأحتطب وآتي بالحطب فأبيعه للناس.
- أتعمل حطاباً يا ابن العم؟
أجاب أويس: وهل في ذلك عار يا امرأة؟
قالت سلمى: ما قصدت ذلك، ولحطابٌ عفيف أحبُّ عندي من معتد يؤذي الناس ويسرق أموالهم.
فصاح أويس: هيا يا امرأة أحضري لي الفأس واشحذيه جيداً وأحضري أقوى حبالك، لأني سأنطلق مع تباشير الصباح.
* * *
وانطلق أويس مع تباشير الصباح إلى الجبال فاحتطب، وجاء بحزمة كبيرة من الحطب فباعها في سوق الحي، واستعان بثمنها في قضاء حاجاته وتأمين قوت عياله، وأعجبه هذا الأمر وتعوّد عليه، فكان يخرج كل يوم إلى الجبال يحتطب ويحمل حطبه على دابته ويأتي به إلى سوق الحي فيبيعه..
وهكذا استقامت أموره، وتحسنت أحواله، وأحب أويس عمله، فثابر عليه، يخرج في الصباح الباكر إلى الجبال فيحتطب حزمة أو حزمتين، فإذا تعالت الشمس وتضاحى النهار، جاء يبيع حطبه للناس، ثم يذهب إلى بيته، مرتاح الضمير..
ومضت سنون، وأويس يزداد حكمةً وتعقلاً وخبرة بالحياة والناس، ينظم الشعر البليغ وينشده في مجالس قومه، ويروي أشعار زهير وغيره من الشعراء وخاصة ما يتعلق منها بالحكمة التي أولع بها..
الأكثر مروءة
خرج أويس يوماً مع تباشير الفجر قاصداً الجبال القريبة حيث قطع كمية من الحطب، جمعها وجعلها في حزمتين كبيرتين ليحملهما على دابته، وبينما كان في عمله هذا إذ بفارس على ظهر فرسه وهو مسرع، فلما رأى أويساً أقبل نحوه حتى حازاه وألقى عليه التحية..
- عم صباحاً يا أخا العرب..
أجاب أويس: عم صباحاً أيها الفارس.
سأل الفارس: كيف حالك يا عم؟
أويس: الحال بخير كما ترى..
- فهل لك في خير ساقه الله إليك؟
فسأل أويس: ولم لا، فما هو هذا الخير وأين؟
أجاب الفارس: إن حاتماً الطائي قد ذبح جِمالاً وأغناماً وهو يدعو الناس إلى طعامه، فهيا اذهب إلى أبياته فإنها غير بعيدة منك فنل من طعامه ما تريد..
قال أويس: خير لي أن آكل من كسب يدي يا أخا العرب..
فقال الفارس: اسمع مني يا أخا العرب، حاتم يحب الضيوف وسوف يسر إذا قدمت عليه.
قال أويس: بل أنت اسمع مني يا أخا العرب:
أرى كل من بالجهد يحصّل قوته فليس بمحتاج لمنّة حاتم
قال الفارس: والله لقد ملأت عيني بمروءتك فمن أنت بالله عليك؟
أجاب أويس: أنا أويس بن ثمامة الغوثي، ويدعونني الحطاب.
قال الفارس: الحطاب الحكيم!
قال أويس: يقولون ذلك، فمن أنت يا أخا العرب؟
قال الفارس: أنا حاتم الطائي..
قال أويس: أهلاً بك يا أكثر العرب مروءة وكرماً..
قال حاتم: لقد ذبحتُ بعض الجِمال والأغنام، وخرجت كما ترى أدعو الناس إلى طعامي، فوالله ما ردَّ عليّ أحد كما رددت، ووالله إنك لأكثر مني مروءة، بل لا أحد في الدنيا من هو أكثر مروءة منك، فبارك الله فيك أيها الحطاب الحكيم.