الكاتب والعجوز سدينا
صالح سعد يونس /ليبيا
(( إلى صاحب هذه الحكاية التى عاشها ولم يكتبها !.. الأستاذ الناجى الحربى ))
( 1 )
حكّت العجوز رأسها عند مغرس الظفيرة اليسرى .. بيمناها رمت حبات الـ(( قلية )) ملتقطةً إياها بفمها قبل أن ترمى بسؤالها :
- استاد خالد بورجعة .. وين يشتغل ..؟.
تبادلت الفتيات نظراتٍ طويلةٍ مستغربة .. ضحكن فيما تطوعت أكبرهن بالإجابة :
- لقد قلتها بنفسك .. استاد .. يعنى معلم .. أما تعرفين أنه أقدم معلمٍ بمدرسة القرية ..؟!.
- لكن أمه أمس قالت لى إنه كاتب .
إستبقت الصغرى أخواتها وهى تجيب :
- يا أمى .. كاتب يعنى يكتب .. هكذا بالقلم والورق .
- أمممم .. إيّاااااه .
قالت الأم بغير استيعابٍ واضح .. بينما لم تبذل أى من بناتها جهداً إضافياً لإفهامها.
( 2 )
جلست العجوز بفراشها تعاند الأرق .. تغالب حكةً لئيمةً متشبثةً بمنبت الظفيرة .. حركت رأسها تنظر إلى البنات المتلفلفات بأغطيتهن .. أكبرهن (( خديجة )) كانت مستلقيةً على ظهرها تشخر بعنف .. مطّت الأم شفتيها .. أحضرت عدة المشْط .. خرقةً بيضاء تلتف على عددٍ من الأمشاط المتنوعة .. جلست عند باب الحجرة حيث يتسرب ضوء مصباح المنور مادةً ساقيها .. فرشت الخرقة فوق حجرها .. فكت رباط الظفيرتين .. اختارت المشط الـ(( عَمى )) وبدأت تمشط رأسها بقسوة وهى تعض على شفتيها مدندنةً بألحان (( غناوة )) .. متفكرةً فى أمر الأستاذ خالد .. وفيما دها بقرتها (( سْويدة )) أو ما أصابها من عينٍ حاسدةٍ لم تصل على النبى حين رأت در لبنها وصحة خلفها .
( 3 )
إنحدرت العجوز مع التلة المنتصبة خلف البيت حاملةً ثلاثة أرغفةٍ من خبز التنور وهى تنظر إلى الهضبة المقابلة حيث يطل بيت الأستاذ خالد .. لمحته وهو ينزلق مع الطريق الترابية حاملاً كتبه باتجاه المدرسة .. دخلت من الباب الخلفى .. كانت الفتيات جالساتٍ فى انتظار الخبز الطازج .. فى حين تطوعت خديجة كعادتها لإعداد الشاى .. جلست الأم متسائلة :
- محمد مازال راقد ..؟.
- مازال .. (( ردت خديجة )) .
- رأيت استاد خالد ماشى للمدرسة .
نظرن إلى بعضهن دون أن ينبسن بكلمةٍ وقد تعبأت رؤوسهن بعلامات الإستفهام .. قامت الوالدة بعد أن رشفت كوب الشاى على عجلٍ تقصد بيت الحاجة رجعة .
( 4 )
كان يتناول غداءه حين جلست أمه بجواره تعد له الشاى وهى ترقبه منتظرةً اللحظة المناسبة للبوح .. أتى على آخر
لقمةٍ من الـ(( مْقطّع )) الممزوج بالـ(( قدِّيد )) الذى تتفنن الحاجة فى صنعه كل عيد .. وضع الملعقة بالسفرة .. نظر إلى القصعة .. لم يستطع مقاومة البريق فبدأ بلحس بقايا الوجبة بإصبعه وهو يقول متضاحكاً :
- الرب فى عقابه .
جلس بجوارها وهو يمسح يديه منتظراً بلهفٍ كوب الشاى الأحمر .. فى حين وبحركةٍ آليةٍ كانت أصابع يمناه تتسلل إلى جيب السترة لتخرج علبة التبغ .
قالت وهى تمد له الكوب :
- اليوم زارتنى عمتك سدينا .
شفط الطربوش بتلذذٍ قبل أن يرد :
- وما الجديد ..؟.. إن لم تزركِ هى ذهبت أنت إليها ..!.
- المسكينة .. ربى يكون فى عونها .. بقرتها لم تعد كسابق عهدها .
- ما بها ..؟.. هل جنّت أم تركت البيت مختاضة[1].
- لا تسخر .. (( ردت عاقدةً حاجبيها )) .. ليس لها بعد الله سوانا تلجأ إليه .
أشعل لفافته وهو يقول :
- وما الذى يمكننى فعله تجاه بقرتها ..؟!.
إزدردت لعابها .. نبرت :
- دير لها حْجيّب .
نظر إليها ذاهلاً .. نكست رأسها متظاهرةً بغسل الأكواب وهى تواصل :
- أنت تْخربش طوال النهار والليل .. ماذا تخسر لو عملت لها حجاباً أو قرأت لها فى قريطيس فاسوخ أو ...........
قاطعها :
- يا أمى يا أمى أنا كاتب .. كاتب ولست فقيهاً .
- لكنك تكتب .. هى أيضاً تعرف ذلك وكل القرية .. لو رأيتها وهى تبكى فى مكانك هذا لما ترددت لحظة .
( 5 )
باءت كل محاولات الرجل بالفشل .. ولم يجد بداً من الإستسلام لحصار أمه وإصرار العجوز سدينا ذات اللسان
السليط الذى لا يصدأ .
أحضر أوراقه وأقلامه .. أخرج ورقةً بيضاء وهو يسأل أمه :
- مم تشكو بسلامتها .
نظرت إليه غير راضيةٍ وهو منهمكٌ قبل أن تقول :
- لم تعد تدر الحليب كسابق عهدها .. كما أنها أصبحت شرسةً جداً .
ملأ الورقة بخربشاتٍ وحروفٍ غريبة .. قطعها إلى نصفين متساويين .. مد لها الأول وهو يقول :
- هذا للبخور .. تضعه على جمرٍ ملتهبٍ مع قليلٍ من الفاسوخ وتقربه منها بحذر .. أما هذا (( وهو يمد الجزء الآخر )) .. فتذيبه فى ...................
توقف وقد انتبه لخطئه .. نزع الورقة متداركاً :
- لقد نسيت أهم تعويذة .
أخرج ورقةً أخرى وقلماً من الحبر السائل .. عبأها كيفما اتفق ثم دفع بها للعجوز قائلاً :
- هذه تذيبها فى كوب من الماء .. تعد حتى الرقم سبعة .. لا تنسى .. سبعة .. أصابع اليد اليمنى كلها مع إصبعين
فقط من اليد اليسرى .. سيتغير لون الماء .. تأخذ السائل وتمسح به ظهر البقرة .. لكن لتنتبه إلى ترتيب الخطوات جيداً فالمسح يسبق التبخير .. ويجب أن يكون ذلك إما قبيل طلوع الشمس أو بعيد غروبها .
نهضت الحاجة رجعة وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامةٌ عريضة .. كوّمت جردها فوق رأسها وهى تمطره بالدعوات قبل أن تتجه إلى منزل رفيقتها وجارتها سدينا .
( 6 )
فى الصباح التالى .. حضرت العجوز سدينا حاملةً (( قالوناً )) من اللبن المعرعر وقدحاً من الزبدة .. جلست قبالته وهو يتناول فطوره تقدم له القرابين .. إبتسم سائلاً عن حال البقرة .. ردت بوجهٍ مشرقٍ وهى تغسله بالدعوات :
- الحمد لله .. قبل عطوها لها .. حقك علىْ يا سْويدى مادمت حية .. ومادامت بقرتى كذلك لن أكف عن إحضار اللبن والزبدة لك .
نهضت .. شيعها وهى تمضى خارجةً رافعةً يديها نحو السماء .. فيما ترقرق الدمع فى عينى أمه وهى ترافقها إلى
باب البيت .
البيضاء – ليبيا
2009.3.26
[1]span> يقيقال عن المرأة التى تترك بيت زوجها مختاضة .. بمعنى غاضبة .