حرية بلا دماء
"هكذا هم الأطفال دائماً يخافون إنها المرة الأولى التي يرى فيها الدماء" قالت المرأة لزوجها وهي تكاد تسقط ضحكاً وطفلها الوحيد أحمد لا يزال يمسك بذيل ثوبها ويجرها معه بعيداً عن دماء دجاجه ذبحها والده للتوِّ.
من يومها قررت الأم ألاَّ تحضر الدجاج حيًّا إلى البيت … في الغد رفض أحمد الخروج مع أصدقائه أبناء السادسة للعب بكرة القدم أمام بيته … ما زالت صورة الدم المتبقي على الأرض ماثلة أمامه … ظل يغمض عينيه كلما مر عن الدماء ، حتى اختلطت بالرمال وذهب أثرها فعاد للعب ، لكن كلما رأى دجاجة مع أحد الجيران ترك اللعب وهرب بعيداً حتى يمضي … ما زال الليل في منتصفه ورجال أغراب يقفون فوق رأسه … ظل مستلقياً ينظر حوله فإذا بوالده يستبدل ثيابه من خلف باب الحجرة وأمه واقفة تفرك كفيها ببعضهما وتنظر يميناً ويساراً باضطراب واضح … هب عن فراشه أمسك بثوبها وأجهش بالبكاء .
بعد أن أتموا مهمتهم انصرفوا به ، وظل أحمد يبكي وأمه تربت على ظهره وتمسح رأسه ووجنتيه حتى أخلد إلى النوم من جديد ، وظلت هي تنظر إلى النجوم في السماء الصافية.
لونان كلما رآهما ارتجفت أطرافه وازدادت دقات قلبه … إنه لا يطيقهما ، ويوم أن تقرر ذهابه إلى المدرسة أخرجت أمه بنطاله الأزرق … أشاح أحمد بوجهه عن أمه وأبدى سخطه على هذا اللون … توسلت إليه أن يلبس البنطال ؛ فهذه قوانين المدرسة … أصحابه ما زالوا ينتظرونه على الباب ، وعقارب الساعة تجري … لكن أحمد أصر على موقفه، فاستدركت الأمر وألبسته بنطالاً أسود … دخل التلاميذ فصولهم وما زال المدرسون يتهيؤون للدخول … كان أحد التلاميذ يبكي … صوته يعلو ويعلو … أحس أحمد بشيء يجذبه إليه وحده … التلاميذ الآخرون يضحكون ويلعبون … تقدم نحوه وجلس إليه يحادثه:
- ما اسمك ؟
- حسن . قالها وهو يشهق شهقات متلاحقة .
- وأنا أحمد … ما بالك؟
- لقد اعتقلوا أبي منذ زمن ، كان يعطي أخوتي الكبار مصروف المدرسة وأنا صغير ولما كبرت ودخلت المدرسة مثلهم لم يعطني شيئاً . ثم زاد بكاؤه وارتفعت نبرته.
وضع أحمد كفيه على وجهه وأخذ يشارك زميله البكاء ، ومن بين شفتيه المرتجفتين أخذت كلماته تتسلل حزينة:
- وأنا كذلك يا حسن اعتقل أبي مؤخراً وأصبح أسيراً خلف القضبان وبين الجدران السميكة وليس له سواي أنا وأمي .
ازداد نحيبه وعلا صوته ، وفجأة هب مسرعاً ومضى حيث مقعده يحاول إخفاء دموعه بأطراف أنامله.
دخل المدرس الفصل وعم السكون وكأن صوتاً لم يكن … ظل الاثنان يكتمان شهقاتهما حتى مضى اليوم ، فذابت الحسرات في قلبيهما الصغيرين … غادرا المدرسة سوياً وتشابكت يداهما نحو المخيم وتعرَّف كل منهما على صاحبه الجديد … إنهما جاران.
حسن ينتظر زيارة والده نهاية الأسبوع والحسرة تكبر في قلبه يوماً بعد يوم … أمه تطمئنه وإخوانه الكبار يواسونه ، ورغم الشباك الصغيرة والقضبان المفتولة إلا أنه بدا متفائلاً بقرب خروج والده ، قال ذلك لصديقه أحمد . وأحمد حين زار والده الزيارة الأولى قطف وردة بيضاء ووردة صفراء من بستان المدرسة وقدمهما له عبر الغرفة الخاصة بزيارة الأطفال.
وكان من بين الزائرين امرأة رآها تقدم لزوجها باقة حمراء من الزهور القديمة … تغيرت ملامح وجهه واكفهرت … تفلَّت من بين يديّ والده هو يحاول ووالده لا يقسو عليه … تنافرت يداهما وفرَّ خارج الغرفة وأخذ يعدو عبر ردهات الزيارة … لحقت أمه به تاركة زوجها للبكاء ، ومن يومها أقسم أحمد ألا يدخل ذلك المكان القاتل.
مرت السنين الطوال وأحمد لا يرى والده ولا تضمه ذراعه إلى صدره الحنون .
وفي يوم قررت المدرسة الخروج برحلة إلى شاطئ البحر … جمع المدرسون رسوم المشاركة من الطلاب ، ولما علم أحمد أن المدرسة قد أعدت سراويل زرقاء يلبسها الطلاب في رحلتهم لأجل السباحة أحجم عن المشاركة والتزم البيت .
تذكر حسن أنه أحب البحر منذ كان والده يذهب به فيحمله على ظهره ويغوص به عميقاً حتى يلامسا الأرض فيخرجان وقد التقطا من رمل القاع ما أتيح لهما ، وإذا ظهر رأساهما على السطح ألقياه كل في وجه الآخر .
وصلت حافلة الرحلة إلى الشاطئ ، وما كادت تقف حتى قفز حسن منها … أسرع تحت نظر الجميع واندهاشهم إلى استبدال ملابسه ، ودس رأسه في الماء … مدرسه يبتسم ويشير للجميع أن اهدأوا فحسن يحب البحر ، لقد حدثني عن ذلك كثيراً .
خرج من الماء وانتصب واقفاً حتى هرول الجميع من الحافلة … التفت إليهم وأشاح لهم بيده فأشاحوا له جميعاً … عاد ينظر أمامه وبدأ يسير على قدميه إلى حيث يريد.
البحر كبير لكن حسن يعشقه … لا أحد يستطيع أن يوقف رغبة طفل جامحة … إنهم يلوّحون ويصرخون :
- لقد تقدم كثيراً .
لكن صوت الموج أقوى ، وصوت يهتف به لم يسمعه أحد سواه ، وراح يغوص إلى حيث الرمل عميقاً عميقاً هناك حيث كانا يغوصان.
وفي الصباح كان أحمد يقف على جثة صاحبه … الناس من حوله يبكون ويولولون وأمه جالسة على أريكة في باحة الدار وبين يديها قطعة من قماش ترفعها تارة إلى أعلى وهي تنظر إلى السماء وتسقطها أخرى وهي تنظر إلى الأرض ، وتدك الأرض بقدميها فتهتز جدران الدار القديمة.
الرجال يحاولون تهدئتها ويطلبون منها الدعاء له وأحمد ينظر … لم تسقط من عينيه دمعة وقلبه يكاد يضحك قبل شفتيه ، وأخذ يحدث نفسه :
- صديقي مات كالدجاجة … ما أجملك يا حسن إنك لا تخيفني فأنا أحب لون جلدك الأبيض.
دار حول جثة صاحبه كأنه يبحث عن شيء ما … توقف ليهز رأسه وهو يسنده على جدار الغرفة ويقول في نفسه:
- بلا دماء يا حسن … بلا دماء .
خرج من بين الناس نحو الشارع … الرجال يقيمون عريشاً وينسقون المقاعد للمعزين … آخرون ذهبوا يحفرون القبر الصغير ، وأقبل مغسِّل الأموات … دخل إلى حيث الجسد … رآه أحمد لكنه لم يأبه به فعاد ينظر إلى العريش وهو يبتسم .
أحس أنه بحاجة إلى الطعام … تسلل إلى بيتهم … لم يكن فيه أحد … تناول ما طاب له من اللحوم والحلوى ، ثم أخلد إلى النوم.
ساعات قضاها أحمد نائماً ، وعلى صوت جمهرة من الناس استيقظ سريعاً ثم انطلق إلى الشارع … رآهم كأنهم في إحدى المظاهرات التي حدثه عنها والده السجين.
اخترق الصفوف حتى بلغ مقدمة الجمهرة … لم يصدق ما رأى فأخذ يفرك عينيه بظاهر سبابتيه ليتأكد مما يرى ، أخذ يهتف في نفسه:
- يا إلهي هذا والد حسن قد أصبح حراً بفضل ولده الغريق هل أطلقوا سراحه لأجلك يا حسن، لكن لم تسقط منك الدماء وهم يقولون : إن الدماء هي ثمن الحرية !!.
كان الوالد المحرر يتقدم الجماهير وهو يحمل جثمان طفله على ساعديه والناس من حوله يهتفون … أحس أحمد أنه الآن في عرس … كاد يرقص لكن الآخرين لا يرقصون!.
نظر إلى صديقه الميت وهو يرقد بين ذراعي والده المحرر … أحس بحاجته إلى ضَمة حنان كهذه … تذكر أباه خلف القضبان فأسرع إلى بيتهم وجلس في زاوية غرفته يبكي …عاد الرجال من المقبرة وجلسوا تحت العريش أمام بيت حسن … صوت قارئ القرآن بدأ يصدح في المكان ، ثم علا الصوت أكثر وأكثر بعد أن هدأت الشفاه والألسنة عن الأحاديث الجانبية.
استيقظ أحمد على الصوت المرتفع … خرج ليقف على مدخل العريش من الجهة البعيدة يرقب الزائرين … كانوا يعانقون المحرر ويقبلون جبهته … فهم أحمد أنهم يهنئونه بالسلامة … راح يحلم بالحرية لأبيه السجين … ترك أصحابه يذهبون إلى المدرسة وانحرف نحو البحر … قرأ الأطفال عنه في القائمة فاستعدوا لإنقاذ آبائهم .
* كاتب وشاعر من فلسطين