قطارٌ يتلوّى
د. عثمان قدري مكانسي *
قال الملازم حسان :إن قصتك مع الجني- يا أخي- محمد شائقة عجيبة . فاقت في جذب انتباهي إليك قصص ألف ليلة وليلة .... ضحكنا ... ونظرت إلى ساعتي ، كانت تشير إلى التاسعة والربع ليلاً ، عركت أذن المذياع لنسمع بعض الأخبار من إذاعة دمشق... وقدّم سمير كؤوس الشاي فارتشفناه .. وساد صمت بين الجميع .. يظهر أن كل واحد منا رحل مع ذكرياته .. وفجأة سمعنا صياحاً من بعيد .ثم رأينا جنديين يسرعان إلينا ، فلما وصل إلينا سابقهما قال:
- الحق ياسيدي " الرقيب عبده " .
- مابه ؟!
وكان الثاني قد وصل ، فألقى أمامنا حبلاً طويلاً قائلاً :
- لسعته هذه الحية ياسيدي .
نظرنا جميعاً إلى الحية وجلين ، منكمشين ، ثم تراخت الأجساد.
- يا حارس نادِ السائق المناوب ...مُرْه أن يجهز عربته حالاً ، وليذهب اثنان منكم مع المصاب إلى النقطة الطبية .. ثم تحوّلت إلى الجنديين :
- هل أجريتم له الإسعافات الأولية ؟
- نعم .
كانت الافعى مقطوعة الرأس ، وقد تولى أمرها حاملها ، وكان قبل الانخراط في الجيش راعي غنم ، يصف نفسه " أبا الليل " . وكان أهلاً لهذا اللقب حيوية ونشاطاً . فهو لا يعرف الخوف، والبسمة تعلو وجهه لا تفارقه ،أما عيناه ففيهما هدوء البحر العميق .
أمعنا في النظر إليها ..كانت أطول من رجل ، سوداء اللون ،ذات بقع بنية ... قال أبو الليل :
- فرخ صغير رفيعة كإبهامي ،( وكان إبهامه ضخماً) . لن يكون أذاها شديداً ... آخذها ياسيدي ؟
- وما تفعل بها ؟
- أسلخها ، وآكلها .
- أنت وما بدا لك .
ابتسم الملازم حسان ، ثم تلاشت ابتسامته ، وأطرق قليلاً ثم رفع رأسه وعلى وجهه طيف ابتسامة جديدة ..تنفس الصعَداء ، ثم قال :
- ذكرتني هذه الأفعى بحادثة جرت معي في إفريقيا .
ضحك الملازم محمد معلقاً :
- هو صحفي مشهور ، يكتب في صحيفة ال... زار أوربة وإفريقية ، وكتب عنهما كثيراً .
فكان سؤالي البدهي :
- هل إلى قصتك من سبيل ؟
- على الرحب والسعة ..... هز رأسه كمن ينفض غبار النسيان عنها ، ثم قال :
منذ سنتين سافرت إلى ( الكونغو برازافيل ) أستطلع أحوالها وأحوال سكانها وعاداتهم لأعمل ( ريبورتاجاً) صحفياً .. زرت مناطق عديدة ، وتعرفت على قبائل بدائية هناك ،ولا زلت أذكر ( كورتو ) زعيم قبيلة ( الهانارا) ، كان رجلاً مضيافاً ،طيب القلب ، فيه ذكاء حادّ ، تجاوز الخمسين عاماً ، طويلاً نحيفاً ..والزعيم هناك قائد وكاهن وطبيب ...وبتعبير آخر هو ( الكل بالكل ) ...قال محمد غامزا ًلامزاً : كزعمائنا الأفاضل ،( حذو النعل بالنعل) .
وتابع حسان حديثه : دخلت بيته ، فبش بوجهي مرحباً ، وأجاب عن أسئلتي كلها مفسراً مرة ، ومعلقاً مرة أخرى . .. وكان يطوق عنقه بقلادة تكاد لطولها تصل إلى بطنه .. لكنها لم تكن من اللؤلؤأو المرجان ..لا ، لكنها من الودع المختلف الأحجام ، ومن العظام الصغيرة اليابسة ، يلعب بها وهو يحادثني .. كدت أسأله عنها وسبب حمله إياها .. وكأنه رآني أنظر إليها بين الفينة والفينة فابتدرني قائلاً :
- أراك تنظر إلى هذه القلادة كثيراً ؟.
- صحيح . وأنا معجب .
- ولعلك قلت في خبيئة نفسك : زعيم ورئيس يتقلد أموراً تافهة ؟! .
- أجبت وقد تورّ خدّاي أعوذ بالله .. لم أحدث نفسي بهذا مطلقاً .. وكنت كاذباً .
- هذه القلادة تقيك المكروه .!!
- مثل ماذا ؟
- من الحشرات والحيوانات ... وغدر الناس .
- القتل؟!! .. أمعقول هذا ؟
- أجل .. ما من غرابة في هذا .. وهي مجربة .
ونظرت دهشاً إلى من حولَه أستجلي النبأ الصحيح ، فأومأوا برؤوسهم مومّنين على ما يقول ....ولا حظ دهشتي فعمد إلى الفعل المؤيد للقول ، وأخرج مسدساً وناولنيه ، وقال :
- أطلق عليّ النار .
وضعت المسدس على الجلد، وأبيت ما أمرني به .
نظرت حولي فرأيت الابتسام يعلو وجوه الجميع .. أصررت على موقفي ، وقلت : لم أقتنع .
- لا نكذب عليك .
- أعتذر
فأشار إلى أحد الحاضرين ، فغاب قليلاً وعاد ومعه كبش أملح ... نزع القلادة عنه ، ولفها حول عنق الكبش ، ووجه إليه فوّهة المسدس ، وأطلق النار .
نعم .. لقد فرغ مخزن الرصاص ، وبقي الكبش واقفاً كأن الأمر لا يعنيه .
وأسقط في يدي ...فاقتربت من الحيوان أتلمسه ... إنه حي بكل تأكيد ... وضحك الحاضرون ، فقلت معانداً : لعلك لم تصبه !. .فأعطاني المسدس بعد أن ملأه بالرصاص ، فوضعته قريباً من رأس الخروف ، وأطلقت النار ....
نظر حسان إلينا ، فقلت له : قتل الكبش ؟ . قال : بل تساقطت الطلقات وكأنها قروش معدنية مستديرة ..... وعدت إلى مكاني معترفاً بما قاله سيد الهانارا . وقلت له :
- أتبيعني هذه القلادة ؟
- وما تفعل بها ؟
- تنفعني في حروبنا ضد أعداء بلادنا .
- أعطيكها بشرط واحد .
- لا تُغلِ الثمن ، فأنا (درويش ) .
- أهديكها على شرط واحد .
- وماهو أيها الزعيم ؟.
- أن تؤمن بآلهتنا ، وتعتقد معتقداتنا .. بهذا تنفعك القلادة .
رفضت العرض ، ورفض أن يهديني إياها .. ولن ينفعني إلا الإيمان الخالص بالله لا الإيمان بالسحر والتعاويذ السحرية ....وقام الجميع يودون صلاة إلى آلهتهم . ورحت أشكر ربي سبحانه أن هداني إلى دينه القويم .
كانت القاعة التي نجلس فيها كبيرة ومليئة بفرش ووسائد لونها لون جلد هذه الأفعى التي قتلت الآن ، تحسستها بيديّ فقال كورتو :
- إنها جلد أفعى .
- قلت : كم أفعى قتلتم حتى حصلتم على هذا الحشد من الحشايا والفُرُش ؟
- أفعى واحدة ....!! قلت مستغرباً :
- ماذا تقول ؟ لا تهوّل الأمر عليّ فما أزال دهشاً بتأثير القلادة .
رمقني بعتاب ، ثم سألني :
- كم ستبقى عندنا ؟ قلت :
- يومين .. قال :
- بعد أربعة أيام يصير القمر بدراً ... ومن عادتنا اصطياد الأفاعي في الليالي المقمرة ، فلو صبرت حتى ذلك الوقت خرجت معنا في رحلة الصيد هذه .
- أصبر ... لا شك أن صيد الأفاعي الكبيرة خطر وممتع .
في منتصف ليلة الرحلة هذه كان الركب يسير وسط الغابة بين الأشجار الضخمة العملاقة ... أربعون رجلاً بأيديهم الرماح الطويلة ،قد انقسموا أربع جماعات .. الأولى في المقدَّمة ، والرئيس وأنا في مجموعة ثانية ، ووراءنا جماعتان ، وبين كل جماعة وأخرى عشرة أمتار تقريباً . وفي مقدمة كل جماعة رجل يحمل مشعلاً ، وخلفنا مباشرة عربة تحمل كبشين مشويين.
كنا أشبه ما نكون بعصابة عاشت في الألف الأولى قبل الميلاد تنطلق ليلاً إلى جماعة أخرى تغير عليها ، فتقتل وتسلب .. هكذا خُيِّل إليّ ، وداخلني شعور لذيذ .. ورحت في أحلام متقطعة لا أدري كيف تبدأ وكيف تنتهي .
وتوقف الركب . وإذا نحن في باب ساحة صغيرة مستديرة ، قطرها أطول من خمسة عشر متراً ، وحولها الأشجار الكثيفة الضخمة العالية . وترجلت عن حصاني حين رأيت القوم ترجّلوا . ووقف كورتو يلقي عليهم أوامره ..... ثم انطلقوا إلى أعمالهم متوزعين بين الأشجار متصايحين .
وبدأ الظلام ينقشع رويداً رويداً ... ولا يخطرنْ ببالكما أن الصبح قد حلّ ..لا.. لكن كل واحد منهم أضرم ناراًعظيمة حتى حسبت أننا في مهرجان شعبي كبير ، أو في حفلة افتتاح معرض دمشق الدوليّ .. وبدأت ضربات الطبول تتجاوب في أنحاء الغابة قوية رتيبة .. وشاهدت بأم عيني كثيراً من الحيوانات المفترسة منها والنباتية تخلي المكان فزعة .
كان أحدهم قد أوقد ناراً في وسط الساحة ، فبدت معالمها واضحة تماماً ، تفحصتها مليّاً ، فإذا هي سور دائري من جذوع ضخمة ، جذورها آخذة في الأرض ، ولا يتجاوز ارتفاعها المترين ، يُدخل إليها من فجوة في الشرق وأخرى في الغرب . كل واحدة مسدودة بجذع عرضاني من فوقُ ، فإذا الفجوة – وسمّها باباً إن شئت – مربع الشكل ، عرض كل ضلع م أكبرمن متر بقليل ..
نظرت إلى شمال الساحة فوجدت شجرة كبيرة امتد أحد أغصانها الضخمة فوق السور على شكل شعب كبير ، ثُبّتَ عليه كوخ صغير ، يطل الواقف عليه من نافذته الصغيرة على الباحة من علٍ ، وكانت الساحة مسقوفة تقريباً ... حُمل الكبشان إلى الداخل ، ووُضع أمام كل باب واحدٌ .
زاد قرع الطبول حدة . ونظرت إلى الخروفين وأنا أشعر بالجوع ممنيا معدتي بطعام شهي لذيذ ... وسألت نفسي : لم جعلوا الخروفين على الأرض ؟ .. لقد اتسخا .. أليس من الأفضل وضعهما على المحفة ؟!.
مرت ساعة من الزمن تراخت فيه الأيادي على الطبول ، فكنت تسمع بين الفينة والأخرى صوتاً يملأ الغابة مدوياً ثم ينتشر السكون مرة أخرى ... وفجأة لمحت رجلاً يركض نحونا ، ثم قال بما يشبه الهمس : لقد رأيتها من بعيد تتجه نحونا .
أوعز " كورتو " إلى رجاله فتسلقوا الأشجار ، وأمسك بيدي ، فصعدنا الشجرة ودخلنا الكوخ ... كان الزعيم مبتسماً ينظر نحو الشرق ، فنظرت في الاتجاه نفسه ، فلم أجد شيئاً ، وسألته مستغرباً سرعة الرجال من تسلقهم للأشجاروصعودنا للكوخ!! قال : سترى بعد قليل شيئاً يدنو منا، فلا تخف . كلنا هنا .... وكأن كلمة " لا تخف " جعلت الخوف يزحف إلى قلبي ، فالوضع مبهم .. لا أعرف ما سيكون بعد قليل .
دخل الجميع بين أوراق الأشجار ، فما عدت أراهم ، وجذبني الزعيم إلى داخل الكوخ ،وأغلقه علينا بإحكام . سألته خائفاً : لماذا ؟ فأشار إليّ من شقوق أغصان الكوخ أن انظر .... ونظرت ، وكدت أسقط على ركبتيّ من هول ما رأيت ... .. إلا أنني استجمعت نفسي حين رأيت من معي يتطلّعون إلى الخارج ، وكأن شيئاً ليس يعنيهم ... ورجفت أعضائي بشدة لتهدأ قليلاً بعد ذلك .
رأيت قطاراً يتلوّى بين الأشجار متجهاً نحو الساحة طوله عشرات الأمتار ، وعرضه كبرميل منتفخ ، في مقدّمته فم واسع كأنه باب كهف ، أو مدخل نفق ، يلوح فيه ذات اليمين وذات الشمال سوط كذنب البقرة طويل .. وفي رأسه قرنان كأنما وتدا خيمة كبيرة ، وأمامهما دائرتان واسعتان كمصباحي سيارة أماميين .
الجميع يلوذون بالصمت ، وفحيحها يعلو شيئاً فشيئاً، وهي تقترب متمايلة ... حتى وصلت إلى الباب الشرقي ، فأدخلت رأسها والتهمت الكبش دفعة واحدة .وقبل أن تهم – على ما أظن – بالعودة رأت الثاني فتقدّمت والتهمته سريعاً .. نظرت حولها فلم تجد ثالثاً .. حاولت الخروج فلم تستطع ... وعرفت في ذلك الوقت فقط لمَ وضع الكبشان في الداخل ... ولعلك ياصديقي خمّنْتَ السبب أيضاً.
لقد دخلت الباب كما يدخل الخاتم في إصبع مالكه ، فلما التقمت الكبشين تضخمت رقبتها ، فعلق رأسها في الداخل وباقي جسمها خارج السور .. حاولت الخروج من الباب الثاني ، فلم تفلح .. شعرت بالضيق ، فبدأت تصفر وتنبح وتضرب السور برأسها .. ولكن مَن يستطيع إزاحة شيء ربعه فوق الأرض وثلاثة أرباعه متعشق جوف الثرى ؟!!
لقد كانت لطماتها جبارة ، لو أصابت سفينة ضخمة لأغرقتها ، أو بناء كبيراً لهدّمته .. ورفعت رأسها فخيل إليّ أن الكوخ سيطير في الهواء ، وقفز قلبي إلى حَنجرتي ، لكنها لم تصل فقد كنا في العلاء .. وابتسم الزعيم يخفف من روعي .. ثم تثاقل رأسها فبدأت حركته تتباطأ ، ولم تمض دقائق حتى هدأت ْ ....
ثم رفع " كورتو " علما أصفر فانحدر أحدهم بخفة من شجرته ، ودخل على حذر من الباب الغربي ، فمرر إحدى يديه أمام عينها ، وأطلق ساقيه للريح ... لكنها لم ترفع رأسها ، فقد أفقدَتْها الحركة الكثيرة والصرخات واللطمات وعيها، فأخذت في غيبوبة عميقة .
دخل اثنان مع كل منهما رمح .. واقتربا على حذر شديد منها ، ووجأا عينيها ، وعادا بلمح البصر .. أما هي فقد ندّتْ منها صرخة عظيمة رجف لها أصغر ذرة في كياتي ، وعادت تلطم ما حولها بأشد ما فعلتْ من قبل . .. وهنا بدأت النبال والحراب تنوش رأسها ومقدمتها ليس غير، ليبقى جلدها سالما يستفاد منه ....
وهدأت المسكينة هدوءها الأبدي .....
* كاتب وشاعر سوري يعيش في المنفى