زيارة
زيارة
أخذت الساعات التي يقضيها ذلك الرأس المشوه تزداد ليلة بعد ليلة متكئاً بعنقه على حافة نافذتي الزجاجية … يرقبني مرة بعينين حمراوين ينبعث منهما لهيب حارق … ومرة يمد لساناً طويلاً كأنه ذراع حمراء حتى يلامس سطح الزجاج فيبتل بلعابه … أراه كما المطر سكبه الشتاء على نافذتي وما زلت لا أطيق أكثر من قطعتين على جسدي .
لحظات مرت كأنها السنوات … وفي لحظة شجاعة ، دفعني إليها اقترابي من الهلاك ورؤيتي الموت ، مددت يدي خلسة … أخذت أتحسس زجاجة الماء البارد التي وضعتها بجانبي منذ بداية الصيف ، وما كادت يدي تلمسها حتى بدأت عيناه ترقبني فارتعشت أصابعي وتراجعت … أسندت ركبتيَّ إلى صدري ودسست يديَّ بينهما ، وبحركة خاطفة أسدلت الغطاء فوق رأسي … العطش القاتل يدفعني أن أحاول مرة أخرى :
-ماذا لو شربت ثم كان بعدها الموت؟سأموت لو لم أشرب…أنا عطشان … أنا عطشان . قلتها وما زلت لا أجرؤ على التسلل نحو زجاجة الماء.
بدأت أمد لساني لألتقط حبات العرق المتسرب من جسدي :
- ياه …ما هذا ؟ ملح …كان الطبيب على صواب ، لقد نصحني أن أبتعد عن الطعام المالح … ربما كان يعلم بهذه اللحظات .
اختلست النظر مجازفاً … ما زال الرأس متكئاً واللسان ممتداً كأنه ذراع فعدت أسدل الغطاء وألعق حبات العرق .
تحت الغطاء تذكرت بأني سمعت بهذا الوجه أو قرأت عنه لكن لا مجال للتفكير به طويلاً فهو أمامي الآن والظلام يخيم على بيتي لقد أطفأت كل الأنوار من حولي … المصابيح التي تمتد على طول الشارع المؤدي إلى بيتي حطمتها لأجل ألاّ أراه ، لكن عينيه حمراوان والخوف أمر مألوف … أنا الذي يحب الوحشة ويختارها لنفسه منذ زمن بعيد.
الخطوات التي يبدو أنه أجَّلها إلى هذا اليوم بدأت أسمع دبيبها عبر النافذة … إنه يبدو ثقيلاً ، وازدادت رعشة أطرافي وارتفعت حرارة جسدي … فكرت جدياً بالهروب لكن إلى أين؟
لقد أغلقت الباب بيدي وهو ما يزال قريباً من النافذة … لقد بدوت كمن لا يستطيع الخروج إلا من خلاله ولو كان خرم إبرة في عالم كبير … تسمرت مكاني وما زال وقع خطواته يقترب من مسامعي … إنه يتكلم … ربما بدا لي أنه يتكلم من قبل لكن الزجاج يمنع الصوت والغطاء يخنقني ويصم أذني والعرق يطمس على عينيَّ.
- تعال معي … تعال معي … ثم بدأ الصوت يعلو ويتردد في أرجاء البيت تعال معي … تعال معي …
- نعم … نعم …
لست أدري هل قلتها أم لا ، لكن بدأت الخطوات تقترب … أغلقت عيني جيداً … لقد بدا ثقيلاً … الغطاء يرتفع شيئاً فشيئاً عن جسدي وشيء من الصقيع يتسلل إلى قدميَّ العاريتين ، ويداي لا تقدران على الإمساك بشيء … ما زلت لا أحتمل أكثر من قطعتين على جسدي … استسلمت وما كدت أتكشف حتى أحسست به ينحني نحوي … حملني بين يديه وما زلت مغلقاً عينيَّ … كنت بين السماء والأرض.
تقدم بي جهة الباب … اسندني إلى كتفه وأخذ يسمعني صوت المفتاح وأنا أحصي خلفه :
- واحد … اثنان … ثلاثة … أربعة …
صرير الباب لم تغيره الأيام التي اغلق فيها … دفعه بقدمه إلى الحائط ثم أعادني إلى راحتيه … بدأ المسير ، وكلما خطا خطوة يعلو بي ويهبط كالجمل أو كأنني كنت أنام على صدره … ما زالت عيناي مغلقتين وأخذت نفسي تحدثني:
- ماذا لو استرقت النظر … لا … لا أريد هكذا أفضل … لكن لماذا أنا ضعيف هكذا؟ لا بد أن أحاول …ما هذا؟ آه ما الذي جرى لعينيَّ؟ صحيح أن الظلام دامس وما زال الشهر في أيامه الأولى ، لكن الأنوار هنا بعيدة عن بيتي ولم يحطمها أحد بالتأكيد … هل؟! …
وضعت يدي على فمي وشهقت شهقة كادت تكون سبباً في موتي الذي أرجو ألاَّ أصل إليه فأنا لم أحج بعد وما زلت في ريعان الشباب وزوجتي ما زالت تنتظرني هناك وأولادي قد غابوا عني … أمهم نقلت إلى بيت عمتهم ويلي … ويلي…
- لا بد أن أكتم أنفاسي جيداً لن أخبر أحداً بأني أصبحت لا أرى.
السيارات تسير بجوارنا مسرعة وهو ما زال يتنقل بي من منطقة إلى أخرى.
هذا الرجل الغريب يلقي بتحياته على بعض المارة … أصواتهم تتضاءل فتنبعث مكانها الأصوات الباكية وتُشق الجيوب وما زال يسير بخطواته الثابتة.
ورغم أن الفجر بدأ يبزغ والشمس أصابت جسدي بحرارتها إلا أنه ما زال يسير وأنا ريشة بين كفيه.
فجأة اعترضته امرأة … جثت على ركبتيها وبدأت تمسك بقدميه وأنا أحس به يتفلَّت منها … المرأة تتوجع وأحياناً يعلو صوتها بالبكاء والاستجداء لكنه ما زال يسير مبتعداً عنها ، ورجُل ، ورجُلان ، وامرأة أخرى وما زال منطلقاً؟
هناك بعيداً عن الضجيج الذي ملأ الطرقات والحارات وقف بي متجهاً شرقاً … أنزلني إلى الأرض ، واتجه إلى مكان قريب … سمعت صوت حفْر .
- ماذا يريد هذا الرجل ؟هل يريد أن … ؟ وضعت يدي على فمي … لا…لا… لكن لماذا لا أستطيع الهرب والشمس طالعة؟ .
جسدي ثقيل ويداي كأنهما مشلولتان ، وبينما كنت أحدث نفسي وهواجس الخوف والرعب قد استقرت في جسدي النحيل الذابل أقبل نحوي وحملني بين كفيه … أنزلني الحفرة ، وسريعاً سريعاً أهال عليَّ التراب … كدت أصرخ في وجهه أنني ما زلت حياً لكن لم يأبه بصوتي المخنوق خلف حنجرتي المقيدة بالخوف والرعب.
وبعد أن غادر المكان صرخت بحرية فأيقظت من حولي :
- معذرة … جاءني تليفون من المشفى وأمي الآن تحتضر .


* كاتب وشاعر من فلسطين