وتمزّق قلبها
وتمزّق قلبها
غرناطة الطنطاوي
استمطرت دموعها فلم تسعفها، أنَّت بقلب مكلوم، وفؤاد ممزّق... نظرت بعينين شرستين إلى سعادتها المبعثرة على الأرض، حلمها الضائع، ومستقبلها المنفي إلى غياهب المجهول... زهرة في أكمامها يتضوّع العبير من حناياها... قد تمزقت تويجات هذه الزهرة، وتضمخت بدمٍ قانٍ...
ست سنوات قضتها مع ابنتها فاطمة تنتظر الأب البعيد القريب... القابع في ظلمات السجن السرمدي على بعد خطوات منهما، تريانه بعيون فؤاديهما، وتتحسسانه بالنسيم العليل الذي يمرّ خلال بوابات سجنه، الحامل ريح عرقه وألمه...
حلمها الوردي الذي سقته بدموع عينيها، ولهفة قلبها، باستقبال زوجها، وهي تقدّم له فلذة كبده، وقد أينعت ودخلت عالماً طفولياً جديداً، فارتدت الزيّ المدرسي الجميل، وحملت كتبها إلى صدرها، وقد علقت صورة والدها قريباً من دقات قلبها، كحرز يحميها من اليهود وشرورهم...
كم سيكون جميلاً إشراق وجهه، وابتسامة ثغره، وهو محتضن ثمرة حياتنا يغمرها بقبلات ناعمة كنعومة خدّها، فتطوّق عنقه بذراعيها الصغيرتين، وتربّت على كتفه، وتميل برأسها بغنج ودلال على صدره الحنون وهي تتمتم:
"صار عندي بابا كسعاد وآمنة... لن أخاف شيئاً بعد الآن..."
ضغطت على كفّ صغيرتها بحنان وخوف، وهي تسير على الرصيف المقابل لمدرستها، ودقات جرس المدرسة تدقّ على أوتار قلبها غبطة وسروراً... إذ لمحت سيارة جيب من بعيد، تسير يميناً وشمالاً بعنجهية وطيش وصلف، لتخيف البنات الصغيرات اللائي تدافعن خوفاً منها، وقد علا صراخهن وبكاؤهن، ولا مغيث لهن إلا الله...
وما إن اقتربت السيارة الجيب من فاطمة وأمها، حتى مالت كل الميل إلى فاطمة التي صرخت بحنجرة ضعيفة وصدمتها بعنف، جعلها تطير في الهواء كعصفور بريء، ثم يرتطم جسدها الصغير بمقدمة السيارة، وتنقلب إلى الأرض، فتدعسها عجلات السيارة، وتمزقها أشلاء تتطاير مع كتبها وأوراقها... وتواصل السيارة المسير بوحشيّة، وضحكات السائق تعجّ في المكان وتلوّث الأجواء...
نظرت الأم إلى ابنتها غير مصدّقة ، ثم ركضت إلى المدرسة ودخلتها، وتناولت جرس المدرسة، وأخذت تدقه وتدقه بيد متصلّبة، وقلب مرتعش وعيناها مسمرتان إلى السماء، تشكوان إلى ربّ العباد...