حَنانْ

حَنانْ

  مجدي الرسام / بغداد

[email protected]

  كان يجلس في مكتبه ويتطلع أمام التلفاز ليشاهد نشرات الأخبار المفصلة كل ساعة ، وليتابع  مستجدات الوضع ليعود إلى المنزل كمحلل سياسي للأحداث .. أبو أمجد رجلٌ كبير في السن ويعمل كمسؤول في إحدى المكاتب التابعة للدولة .. كسكرتير .

ذات يوم دخلت المكتب شابة وسيمة سمراء  موشحة بالسواد كانت تدعى " حنان "... فتاة في الثلاثين من عمرها متخرجة من كلية التربية وتسكن في إحدى المحافظات الجنوبية ...

-      أهلا أبنتي أدخلي ... تفضلي نحن هنا في خدمة المواطنين .

ابتسمت حنان وجلست باستحياء ... كان أبو أمجد يسترق النظر ويدقق على شفتيها المرتبكتين وعينيها الحزينة .

-      أستاذ أنا طرقت كل الأبواب ولم يبق سوى بابكم .. أرجوك ساعدني لأنني مللت الصبر ولا اعرف أين اتجه ؟

نهض ابو أمجد من مكانه وأطفئ التلفاز ، ونادى على بأعلى صوته :

-      بسرعة اجلبوا لي الشاي .

جلس بقرب حنان وتناول بيده ورقة وقلم وسألها

-      اسمك حنان ... ما مشكلتك يا ابنتي ؟

-      أنا من محافظة جنوب العراق ... هربنا من بعض المسلحين الذين هجرونا ... أنا اعمل كمدرسة لمادة التأريخ .. قتلوا أبي .

-      لماذا ... ماالسبب !

-      والدي كان مسؤلاً لإحدى المنظمات الحزبية التابعة للنظام آنذاك . ليس لدينا معيل غيره لأن أخي شهيد في الحرب 1980 . أمي تعمل كمنظفة في إحدى المدارس الثانوية ولي أخت تكبرني سناً وهي موظفة ضرائب ، لكنها مطلقة ولديها طفلة .

تمتم أبو أمجد مع نفسه وتأسف لحالها .. مزق الورقة ووضع القلم خلف أذنه وضرب بكلتا يديه على فخذيه وهو يهم بالنهوض .

-      أأأأأأأأف ... يا مسكينة . لكن مالذي أستطيع أن أعمله لكِِ ، هل بإمكاني المساعدة .

-      نعم يا أستاذ .. فقط أريد نقل أوراقي وخدمتي إلى محافظتكم ، أريد إكمال مسيرتي التعليمية .

-      طيب . لماذا لا تعودون الى الجنوب .. ؟

-      لا .. لقد هدموا بيتنا ، ونحن هنا نستأجر بيتاً في الزقاق المجاور وبملغ لا بأس به .

أبتسم في وجهها أبو امجد وقال :

-      احضري أوراقك الرسمية والثبوتية وسأتمكن من إرجاع حقوقك وتعويضكم ... اكتبي لي رقم هاتفك .

غاصت حنان في غبطة وفرح وهي تبتسم خجلاً ويداها ترتجفان وهي تملي بورقة صغيرة عنوانها ورقم هاتفها .

عاد أبو أمجد من عمله الى البيت مبتهجاً وكأنه وجد ضالته . كان كثير الثمالة في منتصف الليل .. وقد بدأت قصصه الغرامية بحجة الأوراق ومستمسكات حنان ... كان يهاتفها كل ليلة ويبقى لساعات ؟

أخبرت حنان أختها الكبيرة " أفنان " .. كانت توبخها لسوء سلوكها الفوضوي ...وغالباً ما تردد عليها عبارة ( نحن ضيوف هنا ).

بعد شهر اتصل ابو امجد بحنان ...

-      حنان ... أأسف أزعجتك .

-      أهلاً أستاذ ابو امجد ... ليست عادتك الاتصال صباحاً !

-      نعم لقد اتصلوا بيّ الآن من مديرية التربية ليخبروني بوجود كتاب يحمل بعض الأسماء المفصولة ... ومن ضمنها اسمك .

صرخت حنان بأعلى صوتها ... الحمد لله .. كانت سعيدة جداً ولا تصدق ما حصل . أسرعت في الاتصال بأفنان .

-      أفنان ... لقد عدت الى وظيفتي ، الم اقل لكِِِ إن الرجل نظيف ولا يكذب .

-      حنان ... انسي الموضوع لن تعودي الى الوظيفة .

-      أفنان ، ما بالك كنتِ تشجعينني في العودة وتتشاجرين معي كل يوم ! ... اخبريني

أغلقت أفنان الهاتف .. كانت حنان لا تعرف مالذي يحصل ولماذا لا تريد أفنان عودتها الى الوظيفة ... كما أن والدتها لا تأبه لكل شيء .

عادت أفنان الى المنزل ووعدت حنان بمنعها من الخروج من المنزل وعدم الاتصال بالرجل ...ابو امجد طبعاً .

وقفت حنان في حيرة من أمرها ... فقررت الذهاب خلسة الى مكتب ابو امجد . كان استقباله حاراً ورقيقاً . وكان يكثر من الاتصالات الهاتفية وبصوته الخافت وهو ينظر الى حنان .

-      أستاذ أشكرك ... كيف أرد لك الجميل ؟

-      لا بأس بإمكانك رد الجميل .

-      كيف أنا بخدمتك .

-      سنخرج الليلة سوية ... مارأيك أنتِ مدعوة للعشاء معي الليلة .

-      لكن أختي لا تريد مني الخروج ... بل حتى الوظيفة .

-      لا تكترثي ، سأهتم بالأمر .

رجعت حنان للمنزل وهي تكاد أن تتغابى من المجهول الذي يحيط بها وتلك التساؤلات التي تكاد تفجر تفكيرها ... وظيفة ..أفنان .. ابو امجد .. دعوة عشاء .. اتصالات ليلية ؟

كانت حنان مع أبو امجد كل ليلة وبموافقة أفنان ...

وذات ليلة ... ثمل أبو امجد وسقط بين ذراعي حنان وهو يطلب منها اقتياده الى السيارة ومرافقته المنزل ... كانت حنان لا تفهم شيئاً وقد وافقت ... دخل أبو امجد منزله البعيد عن المدينة وكان المنزل الثاني وأقفل الباب خلفه ...

-      أستاذ لماذا تقفل الباب ؟ ولماذا هذا البيت ... هل يعود لك .

رفع يده أبو امجد وصفع وجه حنان بقوة

-      أريد حقي .. كفاكِ غباءاً .؟

تدافعت خلف الباب ضربات قوية تركت وراءها ثياب ٌ ممزقة ..حمل ابو امجد حنان الى غرفة النوم ......... كانت ليلة موحشة خلف أسوار القمر .

بكت حنان بشدة وهي تلطم خديها وتجمع ثيابها ... شعرت بالندم وهي تتذكر ما قالته أفنان لها ... وتحذيراتها المستمرة لها .

جلس أبو امجد بقربها ... ومسح عينيها ، ابتسم وقال

-      إنها أول مرة ... ستتعودين ...والآن سأحضر لكِ مفاجأة .

نظرت حنان إلى وجهه بعبوس ودموعها تتساقط كالرمال ..

-      انتظري ستعرفين لماذا أفنان ترفض كل أرائك !

وفي الساعة الأولى من الصباح طرق باب منزل أبو امجد ... إنها المفاجأة التي وعدها حنان .

صعقت حنان وهي ترى بأم عينيها أفنان وهي ترتمي في أحضان أبو أمجد وسط ضحكاتها العالية ... كأنها زوجته .

لم تستطع حنان السيطرة على نفسها ... كانت حياتها عبارة عن ترحال وسفر وفقر ... لقد فقدت كل شيء ...ولم يبق منها ما يشدها لهوى الأيام المقبلة ... حتى رمت بنفسها من الشرفة المطلة على الشارع الترابي ، ولم تترك لأفنان سوى عذاب الضميـر .