ندم

د. أحمد الخميسي. كاتب مصري

[email protected]

خرج من جناح الكتب العلمية إلي الشارع الممتد بين معارض الكتب . أحس بساقيه ترتعشان من إرهاق جولته الطويلة داخل المعرض فتوقف وبيده ربطة الكتب التي اشتراها . كان الجو مشبعا بمطر وشيك ، والهواء البارد يضرب فروع الأشجار الداكنة ويشتت أضواء أعمدة النور في العتمة الخفيفة في رذاذ متوهج .

لبث بمكانه لحظة مرهقا . وفجأة تمكن منه الاستياء حين تصور ما سيجده عند عودته للبيت : قمصان مرمية على مساند الكراسي . أعقاب سجائر في أكواب تحت حافة السرير . أطباق بوساختها في الحوض . وحين يقدم الطعام لإبنه الصغير سيمط الولد شفته ويقول برفعة : " بس ماما ما بتعملش كده " !

لمح على الرصيف المقابل له فتاة واقفة تحت شجرة وارفة ، و جزء صغير من ضوء القمر على كتفها . زر عينيه ليراها بدقة . متوسطة الطول ، نحيفة ، لفت رأسها ووجهها الشاحب بإيشارب . لمحته هي الأخرى بنظرة جانبية سريعة . مر في الشارع ما بينهما رجل كبير ، فهبطت من الرصيف إليه ، أحنت كتفيها بأدب ناحيته ، ومدت يدها إليه بحافظة وحاولت بغمغمة إقناعه بشراء ما لديها . لكن الرجل لوح بيده دون أن ينظر ناحيتها مواصلا طريقه . عادت لمكانها تحت الشجرة وأطراف جونلتها تهتز بخفة . عبر الرصيفين تبادلا نظرة انطوت على خجلها منه كشاهد على إحباطها وعلى مواساة هينة من ناحيته . في هبوطها وصعودها ، كان يهف حولها هواء خاص، نظيف ، مثل أول عطر تطلقه الزهرة .

عبر الشارع إلي الرصيف الآخر حيث تقف . تأملته بحذر وهو يدنو منها. الآن يرى وجهها . ربما تكون في الثامنة عشرة لا أكثر . تدرس؟ أم كانت تدرس ثم قطعت تعليمها ؟ والدها حي ؟ أيعلم أنها تقف هنا حتى هذه الساعة المتأخرة في البرد ؟ . تنشق من حولها رائحة أوراق الشجر المبتلة ولاحظ أن ملابسها رخيصة لكنها نظيفة ومكوية بعناية . أصبح أمامها ، فهبطت وخطت نصف خطوة ، ومدت يدها إليه بحافظة بلاستيك تحتوي على خمسة أقلام . قالت بصوت مرتجف : هذه الأقلام تباع عادة بعشرة جنيهات ، لكن شركتنا بمناسبة معرض الكتاب تقدم لك تخفيضا وتبيعها بخمسة جنيهات فقط ، فإذا اشتريتها حصلت معها على ممحاة مجانا .

تناول منها الحافظة ، وتظاهر بهدوء أنه يفحصها . تأملته الفتاة وهي تحصي في بعقلها عدد الأقلام التي باعتها . قالت لنفسها : " لو أنه سيشتري هذه أكون قد بعت عشرة ، فأنصرف لأتعشى مع أمي وأخوتي ".

راح يقلب الأقلام بين يديه ، ثم قرب واحدا منها إلي عينيه وهو منساق داخليا لدفء يبثه في أعصابه قوام الفتاة المشدود ، وخيالات الاعتصار التي تضوي بها البرتقالة الصلبة .

نظر إليها . صغيرة، مهذبة ، ومشتتة في البرد. ضمت شفتيها بأدب وظلت صامتة تنتظر إجابته. أراد أن يسألها عن أشياء كثيرة ، كيف تعيش ؟ وأين ؟ كم عمرها ؟ هل تعلق قلبها بأحد أم أنها مازالت لا تعرف الحب ؟ ما الذي تود أن تفعله بحياتها ؟ لكنه استفسر منها بصوت مضطرب عن شيء آخر تماما :

- قولي لي صراحة كم تكسبين من عملك هذا طيلة اليوم ؟

وحتى في العتمة الخفيفة كان من الممكن ملاحظة أن وجهها الشاحب قد تورد قليلا وهي تتمتم مرتبكة :

- حسب الظروف .

- لكن هذا عمل مرهق ؟

تطلعت حولها بقلق يمينا ويسارا :

- نعم .

وأضافت على الفور بصوت نحيف مرتجف كأنها تبتهل :

- الأقلام جيدة . لن تندم . يمكن أن تجرب واحدا منها .

سنواته الأربعون ، وخبراته ، وخيالات الاعتصار ، ووجود الفتاة وحدها ، وشعوره بقوته ، وأمله أن يملأ روحه بهواء الزمن الشاب ، كل ذلك أطلق العنان للجرأة . قد يصطحبها إلي البيت ويدفع ابنه الصغير للنوم باكرا ، يمكن أن .. كبح جماح نفسه قائلا :  

-ألا تودين أن تستريحي قليلا في كافيتريا المعرض؟ نشرب قهوة معا ؟

أدارت وجهها إلي ما حولها بشفاه مرتعشة مثل أرنب في مصيدة .

- شكرا . الوقت متأخر . لكن بالنسبة للأقلام ..

قرر أن يقدم على خطوة حاسمة :

- يمكنك أن تأتي معي لمساعدتي في ترتيب الكتب لساعتين أوثلاث لا أكثر وتحصلين على مئة جنيه مرة واحدة ؟ أليس هذا أفضل ؟ عمل مجز ولن تتعبي .. أدركت ما الذي يقصده . ارتعشت ذقنها . تراخت يدها الممتدة بحافظة بالأقلام

ولمعت عيناها وهي تطرف بخجل وتمتمت :

- شكرا . شكرا . آسفة ، لكن لا أستطيع .

وتراجعت ووجهها له عائدة إلي موقعها على الرصيف . لحظة ثم دفعت نحوه الأقلام بيأس :

- لكن .. إذا أردت .. إذا أعجبتك الأقلام . أنا نفسي جربتها ، أقلام جيدة .  

انطفأت رغبته كما تنطفأ شمعة من هبة هواء . هي صغيرة حقا لكنها ليست ضعيفة كما تبدو . أحس بالخجل منها . ابتسم ابتسامة متوترة محبطة ، وأمعن النظر إليها قائلا :

- أنا آسف . طبعا . أردت فقط أن .. قلت ربما تكونين بحاجة لمبلغ ذي قيمة . لكن مفهوم .. طبعا .. طبعا .

تناول الأقلام وحشرها في جيب الجاكتة ، ثم أخرج عشرة جنيهات وأعطاها إياها . كان أنفها محمرا وعيناها محتقنتين وهي تبحث في كيس أسود صغير عن بقية المبلغ لترده إليه .

لوح بكفه : لاداعي .

ترددت ثم قالت بامتنان :

- متشكرة قوي .

طفا بداخله شعور دافيء ناعم بحزن خفيف وبالشفقة عليها وعلى نفسه، ولم يجد شيئا ليقوله . الأفضل أن ينصرف . لكن قدميه ثقيلتان كالرمل ، مرتبكتان . تحرك بالكاد وهو يهز رأسه لها ، عدة مرات ، ما الذي أراد أن يقوله لها بهذه الهزات المتتابعة ؟ . أولاها ظهره ومشي ببطء نحو بوابة الخروج من المعرض . سار بتراخ وشملته رجفة من تم ضبطه بجرم فخارت قواه حين شعر أن نظرتها مسددة إلي ظهره . أراد أن يعادل شعوره بفداحة الخيبة ، بشعور بأنه ليس سيئا كما بدا ، فعاتب نفسه على قسوته مع إبنه الصغير، وعلى مغامراته العاطفية التي أفسدت علاقته بزوجته ، وحتى على أنه يطفيء السجائر في أكواب الشاي ، وتمنى لو تغيرت حياته كلها .

تابعته الفتاة ببصرها وهو يسير مبتعدا وظله الطويل خلفه . ماذا لو كانت قد ذهبت معه لساعتين أو ثلاث؟ عيب ؟ ألم تكن هذه الإهانة السريعة لتحفظ لها كرامتها مدة طويلة ؟ وتجعلها تتخلص ولو مرة من الحرج حين تدفع زميلاتها حساب المشروبات في مقهى الكلية بينما تتشبث هي في كل مرة بأقصى قدر من برودة الأعصاب حتى توشك على البكاء ؟ . بمئة جنية كان يمكنها أن تشتري البلوزة الوردية التي رأتها مؤخرا وغيرها . من كان سيدري لو أنها رافقته إلي منزله ؟ وهناك كان بوسعها أن تغمض عينيها في تلك اللحظات وتفكر في أي شيء آخر حتى يتم الأمر وينتهي بسرعة ؟ لماذا فوتت هذه اللحظة ؟

اقترب من بوابة الخروج الحديدية . شيء ما ، قبل أن يجتاز البوابة ، جعله يتوقف وينعطف برقبته ناحيتها . كانت مازالت واقفة في الجو الغائم ويدها مرتخية بالحافظة .

أرسل إليها نظرة مركزة مشبعة بالندم والاعتذار . كان بصرها هي الأخرى مثبتا عليه . ما الذي تعنيه هذه النظرة ؟ وهذه الابتسامة الخفيفة المتشنجة ؟