البيت الكبير

البيت الكبير

فاطمة المزروعي

[email protected]

حارتنا القديمة، لاتزال حتى هذه اللحظة بمبانيها النصف متهدمة، وشوارعها الضيقة، والمملوءة دائما بالمياه الراكدة والخارجة من المنازل، لم يمسها الكثير من آثار المدنية، فهناك مدرسة واحدة، في الصباح يذهب إليها البنات، وبعد الظهر يأتي دور الأولاد، وعند العصر في حارتنا تسمع أصوات الباعة يجولون طرقاتها، يبيعون الملابس الجاهزة والعطور والبخور، بعضهم من "الخان"، يرتادون البيوت، تلتف النساء حوله في نصف دائرة، يبعثرن أغراضه، يدققن فيها، واحدة تتحدث معه وتسأله عن بضاعة أخرى غير الموجودة؟ وأخرى تنبش في ذاكرته بحثا عن شيء يشبع فضولها، الذي يبحث عن أصله وأسرته وأبنائه.

 كانت الدكاكين تنتشر في حارتنا على زاوية معينة، يأتي إليها الناس، للشراء أحيانا، وأحيانا للفرجة، وكنت أنا ممن يأتون للفرجة، كنت أعشق المشي في طرقات حارتنا، خاصة قبيل الغروب، ففي الصباح كنت أعاون والدي في بيع الخشب، وبعد الظهر أكون في المدرسة، والآن أتسكع كالعادة في الطرقات، أتطلع إلى الملابس والإكسسوارات التقليدية، أزاحم الرجال، فأشتم رائحة عرقهم المختلطة بروائح أخرى كرائحة السمك، فتوقظ هذه الرائحة حنيني للبحر. وأمرّ على السوق، أنظر إلى الباعة بنظرة سعادة تشوبها فرحة طفل، والنساء المبرقعات جالسات على الأرض كل واحدة تعرض بضاعتها بصوت عال، المالح والفحم والزعتر والحبة السوداء. كانت تثيرني رائحتهن التي هي مزيج من عطور الصندل والعود والمسك والزعفران، فتعود صورة جدتي إليّ، وهي تمسد رأسي، وتغمرني بقبلاتها، وشمِّها العميق لجلد وجهي، تدخل يدها في جيبها، وتخرجها ضاحكة كأنها سحرت الكون من بيضة إلى مستطيل مرسوم في كراستي، لكم عشقت هذا الوجه المتغضن، وهاتين العينين. أنظر إلى يديها الكبيرتين، تريدني أن أختار بينهما، حتى أحصل على السكاكر، فتتسابق عيني إلى يديها، حتى أختار واحدة، وعندما أفوز في هذه اللعبة، تحضنني بقوة وتقبلني بحنان، تحتويني بجسدها الكبير، فأستكين بين ضلوعها.

أخرج من السوق، أجتاز الباعة، أسير في الطريق ذاته، الذي اعتدت السير فيه، ذاهبا إلى البحر، وهناك رأيت البيت الكبير، منزل كبير جدا، وحوله سور، السور قديم، والنباتات المتسلقة قد غزت المكان، النوافذ محطمة، ثمة عناكب نسجت خيوطها في أماكن عدة، وحشرات متنوعة تتسلق الجدران، وتمرح في جنون غير طبيعي، الخوف يدخل شبابيك قلبي بسرعة كبيرة لم أعهدها في نفسي، رعب خفي، يتسلل داخلي، والغروب تنعكس ألوانه الحمراء والفيروزية على الأبواب والجدران في تناسق رائع.

كل يوم أقف أمام المنزل، أرمقه بشيء من الخوف والارتياع والرغبة في اجتياز البوابة، والدخول إليه، ورغم علمي بخوف جميع أهالي الحارة من الاقتراب من هذا المنزل، ونسجهم الكثير من الروايات الأسطورية عنه، فإنني كنت أستمع إليها بشيء من الوله والوجل. أتذكر صديقي "حمود" الذي أصيب في رأسه بجرح عميق، إثر سقوطه على حجر كبير أثناء ركضه المتعجل في الطريق، ولا أنسى كيف جاءني صديقي وهو يحكي لي قصة شفائه من جرحه؟ الصدفة قادت "حمودا" نحو المنزل الكبير، عندما كان ذاهبا إلى البحر، لمساعدة والده في صيد الأسماك، وأثناء فترة استراحته، شعر بالرغبة في زيارة المنزل الكبير رغم خوفه. لن أنسى نظرة الرعب التي أطلت من وجه "حمود" وهو يسرد قصته، لقد كاد يبكي وهو يحكي بصوت منفعل تفاصيل ما حدث، فبعد دخوله إلى هناك أقسم أنه سمع موسيقى ناعمة، لم يسمعها من قبل، موسيقى دافئة، جعلت الخدر يسري في جسده، شيء ما يجذبه إلى مصدر الصوت وبقوة لم يعهدها في حياته، وفي إحدى الغرف، رأى جنية.

لم يستطع أن يصف أي شيء، لقد فقد وعيه، أو فقد الإحساس تماما، ثم وجد نفسه نائما أمام السور، وعندما عاد إلى منزله، وأخبر والده بما رآه في المنزل الكبير. لم يصدقه أحد، وعندما كشف عن جرحه الذي اختفى تماما ولم يبق منه أثر، أثار دهشة وزوبعة في أرجاء الحارة، حتى أن الجميع تدافعوا إلى المنزل، حاملين معهم أطفالهم ونساءهم، أملا في الحصول على الشفاء، وطالت الأيام، ولم تتكرر المعجزة التي حدثت لـ "حمود"، ومع الأيام استسلمت النفوس المتعبة، بعد أن يـئست.

عادت الحياة إلى مجراها الطبيعي، ونسي الجميع قصة "حمود" مع الجنية، وأصبح هذا الأخير من الأولياء الصالحين، الذين تتقبل بركاتهم، ولكنني رغم ذلك لم أصدق كل ما سمعته منه، رغم أنني رأيت أثر الضربة والجرح الغائر. قدماي تقوداني ببطء مخيف إلى المنزل الكبير، تذكرت خوفي في طفولتي ومراحل حياتي، لا بل خوف كل الكبار الذين في حارتنا، استنكرت وضعي وحالتي، لا…هززت رأسي في قوة، حاولت أن أستجمع شجاعتي وقوتي، تذكرت "حمودا" وكلامه، وامتلأت مخيلتي بصورة الجنية.

الموسيقى العذبة، تتصاعد بشكل غريب، تسري في جسدي، فأشعر بالخدر، وبقوة غريبة تجعلني أسيرا لها، الموسيقى ترتفع أكثر وأكثر، تتناغم مع صوت البحر، وأمواجه المتلاطمة التي تضرب البحر بنعومة، فتعود تتراجع.. دقات قلبي ترتفع، أشعر بها تكاد تنافس تلك الموسيقى الصاعدة في نغماتها، وصوت غناء حزين، أتوقف مندهشا، معقود اللسان، وعاجزا عن الكلام والحركة، إنها امرأة..

لا إنها أجمل امرأة رأيتها طيلة حياتي..

كحكايات ألف ليلة وليلة.. امرأة جميلة في تقاطيع جسدها، شعرها طويل، يصل حتى ساقيها، كانت جالسة على صخرة في البحر ولكن الغريب أن المياه لا تغرق باقي الغرف، فقط في الغرفة، هناك أسماك وأصداف ولآلئ من حولها، تبدو أعماق البحر أمامه، لطالما حلمت بهذا اليوم، عيناها تبرقان كنجمتين مضيئتين، وشفتاها ناعمتان، الصوت الناعس يناديني، فأتجه إليها مسحورا، أقترب منها، غير مصدق.. أجلس بجوارها على صخرة مقابلة لها، أتأمل ملامحها، وأنا أردد في آلية.. لقد كان "حمود" على حق، وهبطت ببصري ناحية الجزء الأسفل من جسدها، فرأيت جسدها أشبه بذيل سمكة، لها قشور ذهبية تلمع على الأضواء الخافتة، التي لا أعلم مصدرها، ربما من ضوء القمر.

لا أعرف، لقد قضيت ليلة جميلة معها، حدثتني بأشياء كثيرة، صوتها جميل للغاية، قالت لي إنها تعيش في مملكة كبيرة في البحر، لديها والد ووالدة وأخوات جميلات، ولكنها ذات يوم وهي تستكشف البحر مع أخواتها، ضلت فقادتها قدماها ناحية المنزل الكبير، فأعجبها المكان، وقررت المكوث فيه، ثم أخبرتني عن "حمود"، وعن قدومه المفاجئ إلى المنزل، وجرحه الغائر وكيف أنها وضعت عليه دواء من الأدوية التي تستعملها في مملكتها؟ كنت مبهورا، لقد تعلقت بها، وبهرني صوتها، وشكلها. لقد نسيت حارتنا، طرقاتها، أهاليها وعجائزها، نسيت طفولتي وأهلي ووالدي، حتى البحر نسيته، هي فقط كانت تسيطر على تفكيري وقلبي وعقلي، وددت لو أظل الدهر كله معها، وفجأة داهمني شعور بالألم في رأسي، حاولت كتمه، كنت أشعر بأن تلك الحورية تقرأ ما بداخله، من أفكار ومشاعر، كانت موسيقاها تخدرني، تسلبني قواي، فأسقط.

لا أدري ماذا حدث ربما نمت أو سقطت فاقد الوعي؟ كل ما أشعر به حولي أصوات عالية، تنادي اسمي، سيف.. سيف..

أين أنت يا بني؟ أشعر بثقل في لساني وأطرافي، أحاول الحديث فلا أستطيع، أصوات البحر تتهادى إليّ بأمواجه، كيف جئت إلى هنا؟ مستحيل كنت في المنزل الكبير مع تلك الحورية الحسناء؟

كان والدي ومعه أهالي حارتنا، يحملون مشاعل تتوهج منها النيران، ويسيرون جماعات متفرقة، ينادون عليّ بأصوات عالية، يبحثون عني، حتى وجدوني وأنا لا أقوى على الحراك ولا الكلام، وحملوني إلى المنزل، وأمي تبكي والجارات يصرخن ويولولن بأصوات عالية ونزقة، حزنا على ما أصابني، "إنها عين وأصابت ابنك يا أم سيف".

"لا ريب أنها الجنية التي تسكن في ذلك المنزل الملعون"، "لا ريب أنها ألقت بسحرها عليه".. "لماذا نبقي ذلك المنزل؟ لماذا لا نهدمه؟".

لا.. ستموت تلك الحورية، وددت لو استطع الحديث والكلام "ولكنني ظللت مدة أسبوع في فراشي حتى استعدت عافيتي وقدرتي على الكلام، ولم أخبر أحدا بقصتي مع الجنية، اعتبرته سرا، واشتقت لرؤيتها، فسارعت إلى المنزل الكبير، وهالني المنظر الذي رأيته، لقد اقتحم الأهالي المنزل، وحطموا كل شيء فيه، اقتحموا غرفه، وقادتني ساقاي إلى تلك الغرفة، ترددت في الدخول، ولكنني حسمت رأيي ودلفت للمكان، ورأيت الغرفة خالية، إلا من الأثاث المحطم..

مددت يدي، تحسست الأرض، الأثاث، لا توجد قطرة ماء، هل كنت أحلم؟ أم أتوهم؟ لا.. لا.. لقد لمستها بأناملي، ملامحها لا تبارح عقلي أو مخيلتي..

تنهدت في حزن، وخرجت من المنزل الكبير، باتجاه البحر، وقفت أمامه، أرمقه، ثم وجدت نفسي أسبح نحوها، ملوّحا بيدي، وأمواج البحر تدفعني ببطء، ثم تلاشت الرؤية أمامي تماما..