زفير القبور..
ماجد سليمان
افترشت حزني داخل المقبرة، كان عواء الريح يتسلل إلى سمعي بهوادة .. لم أكن شارد البال إلا قليلا، بصري ينكفئ على النصائب والقبور التي دثرها الزمان بالقِدم.. لم أكن صاحب دينٍ قويٍ فقد كانت ذنوبي تسرح بين أضلعي التي أحاول هذه اللحظة أن ألونها بتوبتي ونسياني لما مضى من آثامي التي ما برحت بيداء قلبي الطيب المتسامح، كنت أتأمل القبور بلا استثناء الكبيرة والصغيرة، كان المنظر يخلخل روحي العاصية، هذه المقبرة ابتلعت أجساد أناس كثر، من أعرفهم ومن لا أعرفهم ، فقد قضمت دواب الأرض ودودها كل شبرٍ من تلك الأجساد.
وقفت وأخذت أنفض يدي السمراوين ثوبي المرقع من كل مكان، لم أشأ مغادرة المقبرة إلا مجاهداً نفسي على ضرورة المغادرة قبل غروب الشمس، فالشمس الآن بدأت تتوارى خلف الأرض التي وطأها الظلم والقمع البشري.
اتجهت صوب باب المقبرة فقد كانت القبور تزفر، هذا ما كنت أحس به، يصلني نفسها الحار.. يلذع باطن أقدامي اليابسة.. لم أُبد انزعاجاً فقد أخذت أسير على رسلي فباب المقبرة ما زال بيني وبينه مسافة متوسطة البعد، نظري صار متخشباً إلى درفة الباب اليمنى، ما زالت الأنفاس الحارة التي تصدرها تلك القبور تتحرش بأقدامي من الأسفل، إنني في هذه اللحظة لا أكذّب ما أحس به أبداً فالزفير يتصاعد.. يتصاعد.. القبور التي أمثل سائراً من بينها، أراقبها بحذر فبصري بدأ يميع شيئاً فشيئاً، يداي اللتان أودعتهما في مخابئ ثوبي الخلق أحس بأن التنمل بدأ يلتهمها رويداً.. رويداً، المسافة قصرت تقريباً فباب المقبرة أصبح وشيكاً من صولي، شفتاي تنبضان بضمأ أبيض مالح، الزفير بدأت يتقلص تدريجياً، قلبي هو العضو الوحيد الذي لم تتسارع نبضاته خوفاً وهلعاً.. لا أدري لماذا؟ّ!.. لعل أكوام الحزن المتكدسة بين عروقه أماتت الروع الذي يشطفه في الرواح وفي الذهاب.
لم يكن يرتع في سمعي غير عواء الريح التي باغتت المقبرة لحظة طعنت تراب المقبرة بركبتي الصلبتين، فباب المقبرة أخذت هذه الريح ترده قليلاً.. قليلاً، قلبي الذي كان يفاخر بحزنه الذي كان مضاداً للمخاوف التي تنبح في طريقه الضيق أخذ يأكله الخفقان المتتابع.
درفة الباب اليمنى تقترب من الدرفة اليسرى لتشكلان إنغلاق الباب، وأنا على وشك الوصول.. الزفير بدأ يتصاعد أكثر من ذي قبل، والتنمل ارتداه جسدي المبري.. ليس إلا أقل من اللحظة حتى انغلقت الدرفتين، تلك الدرفتين الحديديتين المطليتين بدهانٍ رصاصي اللون ينتصف أعلاها فتحتين مربعتين نشب في إحداهما غراب لونه كلون قلوب الحاقدين من مجتمعي الجاحدين لكل فضيلة والمتكبرين على كل فقير وضعيف.
الوقت ينزع رداء الضوء الضئيل الذي لحق بما تبقى من النهار الذي اختبئ تحت أثواب الغروب، فالآن لا نهار يبصرني مذعوراً داخل أسوار المقبرة، ما أفعل الآن أأجالس الأموات أم أربت على قبورٍ آلمها الزفير.
توارت النصائب الطينية خلف غشاء الظلام الذي خيط على زوايا المكان، ومن بين أثواب الظلام أتاني صوت صائحٍ ارتطم دويه في فقرات ظهري.. التفت له وهو يقول:
-حل الظلام يا فتى.
لا أصدق ما أسمع وأرى.. إنه حارس المقبرة، فتح الباب وقال لي بلهجة غاضبة:
-هيا أخرج الزيارة ليلاً لا تصلح لأحد.
ظللت ساكتاً وكأن لساني عقد في فمي فلم أستطع أن ألفظ حرفاً ساكناً خفيفاً.. ارتفع صوته مرة أخرى:
-هل أصبت بالصمم.. الدنيا ظلامٌ مريع.. هيا أخرج.
أقبلت إليه وحين وصلت صافحته بهدوء دون أن أسلم عليه فقال:
-أبشرٌ أنت؟!.. ظننت أنك من الجن حين تجاهلت ندائي.
كان هذا الحارس ضخم الجثة، له لحية ليس بالمشذبة، وشارب لم يحسن إليه بالمقص أبداً، له بطنٌ زائدة بعض الشيء، أزرار ثوبه مقلوعة إلا واحداً استقر في مكانه أسفل الأزرار.. قال لي بفم ممتلئ بجمل العتاب:
- أأصم أنت؟
- .......
- أهناك عاقل يبقى في المقبرة حتى حلول الظلام؟!
- .......
أخافه صمتي بعض الشيء ضغط بكفه الغليظة على كفي الهزيلة وقال:
-اذهب إلى أهلك واحذر هذه العادة.
هززت رأسي طائعاً فحدق قليلاً في إجابتي الصامتة وأطلق يدي من يده ثم نظرت في كفي المتعرقة من أثر المصافحة الطويلة.. ثم عدت أدراجي.