لقاء في خريف العمر
عماد كامل
العراق- البصرة
[email protected]
المطر يطرق بأنامله على نافذة غرفته،فتفزع أحلامه التي كانت انسيه الوحيد،تخبط بارتباك في غرفته ذات السقف الواطئ الذي يكاد يلامس رأسه عندما ينتصب واقفا،لوح بيديه في ظلام الغرفة الدامس باحثا عن زر المصباح،أشعل المصباح فانتشر الضوء بغرفته التي تفوح منها رائحة الكتب والجرائد القديمة..ساعته الجدارية ترقص عقاربها الصدئة ببطء وكأنها تنذره بتوقف الزمن.
صوت الريح وارتطام المطر أشعره بوحدة قاتلة في غرفته الموغلة بالصمت..في الصباح قصد مدرسته ولم يزل منتشيا بفعل الكؤوس الليلية.. استقل أول باص مر به،جلس بجوار فتاة جميلة فاستيقظت بداخله خيوط قلبه الواهن..انبعثت بخفية نظراته إلى تلك الفتاة التي كانت ترتدي تنورة سوداء وقميص ابيض يندس بجهته اليمنى دانتيل اصفر..التصق بجسدها البض الطري وافترس نهديها النافرين اللذان زادهم ساتانها الأحمر دورانا..انتبهت إلى نظرات الرجل الذي كان يرمقها بفضول كمن يتفحص شيئا..في تلك اللحظة تمنى أن لا يتوقف الباص لكي يبقى معها أطول فترة ممكنة..وان تتوقف عقارب الزمن ليستمتع بشرعية البقاء إلى جانب هذه الفتاة ذات العشرون عاما.
همست بصوت رقيق هادئ
- كم الأجرة ياعم؟
داهمه الخجل فاحمرت وجنتاه..أشاح بوجهه إلى الجانب الثاني محاولا إخفاء سنواته الخمسين التي طحنتهن حياته العازبة..أجابها بصوت متلعثم من الخجل
- دُفعت أجرتك أو ليس حق الجار على الجار كما يقولون؟
في تلك اللحظة أحست الفتاة إن قلبها قد عزفت أوتاره فانثالت عليه تشكره بكلمات مزجتها بعواطفها البريئة..انتابه شعور بأن تلك الفتاة الجميلة ذات الأصابع الطرية التي طليت أظفارها بأصباغ حمراء قد مزقت ثوب الوحدة الذي يلبسه منذ أكثر من ثلاثة عقود..نفض عنه غبار الخجل واجتاز حواجز الخوف والتردد فسألها
- في أي زقاق تسكنين؟
ارتسمت على شفتيها ابتسامة شفيفة وأجابته
- قرب السوق الكبير بجانب عمارة الحاج سعيد الصباغ
في تلك اللحظة طلبت من سائق الباص التوقف معلنة عن وصولها إلى المكان التي تقصده..توقف الباص فهبطت منه مودعة بكلمات مرتبكة وعجولة..حاول أن يهبط من الباص ليتتبع أثرها..تملكه الخجل وحبسه التردد،شيعها بنظراته من خلال زجاج نافذة الباص..انتابه القلق ومرت على قلبه سحابة حزن حينما انعكست صورته في مرآة الباص الجانبية فرأى الشيب يغزو شعره..قال في نفسه أيعقل أن تقبل فتاة بهذا الجمال برجل مثلي تحول شعره إلى غابة بيضاء.
اعتدل في جلسته واخرج من جيب سترته دفترا صغيرا اعتاد أن يسجل به غيابات الطلبة،امسك قلمه واخذ يرسم صورة ذلك الوجه الآسر الذي أشرق الشمس في خريف عمره.