انفجار
انفجار
" الناس تتوقع الاجتياح كل يوم … الأمور جيدة حتى الآن … يا رب سترك … يا رب " قالت أم محمد محدثة زوجها وهي تغالب الكرى ، وما كادت تتم كلماتها حتى أسكتها الرعد… انطفأت المصابيح… الكل يجتهد في دور يقوم به… تسارعت خطواتهم ، لكنهم لم يفعلوا شيئاً…همست أم محمد بهم:
- كل واحد في مكانه لا تتحركوا.
تقدمت نحو القنديل المعلق في أحد أركان البيت… أشعلته… اجتمعوا إليه ووقفوا واجمين ينظر بعضهم إلى بعض… مرت اللحظات سريعة دون حديث فانصرف كل إلى فراشه وأشاحت هي جهة زوجها … جالت الخواطر في ذهنها فضحكت … صمتت ثم تقدمت… ألقت بجسدها على الفراش وأخذت تنظر في شرائح (القرميد).
مرت اللحظات صامتة لا يدري أحدهم ما يقول لصاحبه، وفجأة استدار أبو محمد وسألها:
- لماذا كنت تضحكين ؟
- لا …لا … فقط أحمد الله أن الأولاد كلهم صاروا كباراً… هل تذكر بيتنا في (الوسطى) … يوم الثلجة؟.
- نعم … نعم … فقط أمل كانت هي الصغيرة.
- ولم تكن خائفة . تنهدت وهي تتقلب على فراشها ، قالت: أرادت حينها الخروج لرؤية السماء الحمراء لولا أنني ضممتها إلى صدري لخرجت!!!!
أطلق تنهيدة الخوف، وعيناه متوترتان تلمعان في عيني زوجته، قال:
- لم تكن يومها مدركة… أما اليوم فهي في الجامعة… أصبحت عروساً، ويأتيها الخطّاب.
- على رأيك … الخطَّاب عالباب وهي رافضة يا حبة عيني… نفسي أشوفها في بيت زوجها قبل ما أموت.
سمعا تساق المطر على شرائح (القرميد) التي بدأت ترشح منها حبات صغيرة فوكزها مرات متلاحقة، وبنبرة مطَّربة قال لها :
- قومي يا امرأة … أحضري الأوعية بسرعة… حبات المطر اليوم أكبر من كل مرة!! .
قامت مسرعة إلى المطبخ، وفي طريقها أوقظت أمل لتساعدها في توزيع الأوعية.
بعدها لم تعرف أمل النوم… لحظات مرت وقطرات الماء تسامر دقات قلبها المطرب، فما زالت كلمات أمها تصفع مسامعها… تقلبت في فراشها مرة ومرة، تساءلت في نفسها:
- هل يمكن أن يجتاح اليهود رفح كما اجتاحوا جنين؟ …كيف يا ترى هو الاجتياح؟… ياه… لا يهم أنا شجاعة….هكذا قال أبي. وراحت تواسي نفسها
حملقت بعينيها في عتمة الليل المتزايدة مع غيوم ليلة الربع الأول من آذار:
- أين هي الشجاعة يا ربي؟ …أنا خائفة …أنا خائفة .
أجبرت أمل نفسها على النوم وضغطت بإبهامها والسبابة على جفنيها … شيئاً فشيئاً تسلل النوم إلى عينيها، وقبل أن تنغمس في سباتها أحست بالأرض تميد من تحتها …جلست تنظر حولها…أصاخت السمع فإذا بصراخ امرأة يأتي من بعيد…انتصبت على قدميها وأصاخت من جديد…حدثت نفسها:
- الصوت يقترب… الأرض ترتج… هل…؟. وضعت كفها على فمها…تلفتت يميناً ويساراً…تجرأت… نزعت كفها عن فمها وشرعت بالصراخ, مندفعة إلى غرفة أمها وأبيها:
- أمي... أمي… أبي... أبي… اجتياح… اجتياح . سارت جهة غرفتها.
هب الجميع… تجمعوا وسط البيت الصغير…أحسوا جميعاً بالأرض تضطرب… بدأت الجدران تهتز من حولهم, وأصوات الناس تخترق مسامعهم.
طلب أبو محمد من الجميع أن يلبسوا ملابسهم الثقيلة ويستعدوا للخروج من البيت وهو يصرخ: الله أكبر.. الله أكبر.
هرولوا خارج البيت… ظلت أمل متسمرة في مكانها تنظر إلى شهادتها في الثانوية العامة ،وصور طفولتها المعلقة على جدران المنزل .
الأصوات تقترب، واضطراب الأرض في ازدياد، وأمل تبدو وكأنها لا تسمع شيئاً… أمها تصرخ نحوها… لكنها لم تزل على حالها… اندفعت الأم إليها وراحت تجادلها في ضرورة خروجها… لم يفهموا ما دار بينهما فوقفوا بعيداً وهم ينتظرون أن تخرج مع أمها, خرجت أمها باكية تضع كفيها على رأسها وهي تنادي:
- يا أبو مجمد ...يا أبو محمد ...أمل لا تريد الخروج… يا ويلي… يا ويلي… يا حسرتي على شبابك يا بنتي.
اندفع والدها لإنقاذها, لكن أحد الجيران أمسك بيده وهو يشير بأن الوقت قد نفد ,وان الهدم قد بلغ بيته ,أطرق إلى الأرض حزيناً… أيقن أن ابنته قد داستها آلة الهدم, وحق له من بعدها العزاء… لم يوقظه من إطراقه إلا صوت انفجار هز بيتهم فأضاء ليل رفح… كبَّر ثلاثاً وراح الناس من خلفه يكبِّرون.
* كاتب وشاعر من فلسطين