لحظة وداع

لحظة وداع

قصة: يسري الغول

[email protected]

صمت كئيب يعتري الشاحنة ، تسير و أنفاس الرجال تتطاير مع ريح الجنوب ، المحرك يئن من ثقل المركبة ، و السائق يواصل سيره في انتظام مخيف بينما يجهش أحد الشبان بالبكاء ، ينتحب ، يخرج صوته متهدجاً :

- اذكروا الله .

و نحن نذكره بأصواتنا الباهتة ، نتحلق حول النعش ، و الجسد يهتز مع الحفر التي خلفتها سيول الشتاء . نصل المقبرة و قبل أن ينزل أي منا تراودني لوحة حطت رحالها في زمان قديم ، قبل عام كنا معاً في أرض بسيطة ، تنحدر منها كل خيرات الكون ، تعرفت عليه هناك في مدينة الأنوار الساكنة ، و لم يكن مظهره يوحي بأنه غربي ، سلمت عليه ، سألته

- من أين أنت ؟

و أجاب ، كانت الإجابة خانقة ، اقتحمت حواسي كما هي الآن ، قال :

- من فلسطين .

و في فلسطين ينفصل الجزء عن الكل ، أما هناك فكان الأمر مختلفاً ، دام الاتصال بيننا ، بعدها جئنا ، ذهبنا ، غادرنا و استمر اللقاء يجمعنا ، اثنان من أرض واحدة تفصلها كل حواجز الكون المريرة ، التقينا و كانت أزمة الحرب على الأبواب ، تدثرنا بيوتنا ، استمعنا إلى آخر ما يجري في الأرض المحتلة ، و الصمت الكئيب يلفنا ، ثم تركته ، عدت و ليتني لم أعد ، أصبحت وحيداً ، و لم اكن اشعر معه بأنني غريب ، كان الأخ ، الصديق ، و ظل شبحه يراودني ، أقسمت مرة أخرى أن أعود إليه ، أن نتزوج معاً هناك ثم يستقر بنا المقام في عاصمة الضوء ، لكنني ذهبت دون أن أراه ، سئلت عنه الجميع ، ذهبت إلى كل مكان ، طفت عوالم المدينة ، ذهبت إلى الجامعة التي كنا ندرس فيها ، إلى بيوت الطلبة ، إلى المستشفى التي تدربنا فيها دون أن أجد له أي أثر ، كانت دخان الحرب قد انتزعته مني ، منا جميعاً .. حين عدت إلى فلسطين تعرفت إلى أمه ، اخوته ، أخواته ، كل ما يمت له بصلة من قريب أو بعيد ، أعطيت أمه أمانة قديمة تركها معي ، و أخذت منها أخرى ، فكرت في الحصول على قبول ببقاء العلاقة الدامثة بيننا ، انتزعت منهم صغيرتهم ، تزوجتها بعد أسبوع من زيارتي لهم ، و لست ادري كيف حدث ما حدث و أخيراً وجدته ، بدأت الاتصال به ، حدثته عن الزواج و مشروعي في العمل الذي ألغيته في اللحظة الأخيرة حتى أعود إليه ، حملت زوجتي معي و وصلنا إليه ، كانت السماء داكنة ، و الثلج يغطي أرض المطار  ، لم نر شيئاً داخل الطائرة ، كانت صورته تلفني ، ترى هل كان يعني لي كل هذا الحب ؟ حين أبصرته وجدت به صورة الأخ البائد في طيات النسيان ، رأيته كأخي الصغير المدلل الذي تعجل المغادرة حين سافر مع قطار الموت منذ الطلقة الأولى للانتفاضة الجديدة ، حملت أمتعتي و زرته ، مكثت عنده ثلاثة أيام ثم عدت أدراجي إلى مدينتي و أصبح اللقاء الدائم بيننا هناك ، اخترقت كل حواجز البرد ، أوغلت في قريته النائية ، ولجت معه نفس التخصص ، و سرنا في مركب الدراسة حتى انتهينا ، ذابت أجسادنا في معطف أبيض و لوحة تبتسم بها إلى أصحاب الأسرة البيضاء ، يبتسم إلى و ابتسم إلى جميع من حولي ، انه صغيري الذي كنت أداعبه ، حسان لم يمت ، هكذا راودتني الأفكار البائسة ، و حين عدت ليلتها منهمكاً من مشاق العمل بكيت ، و جاء يواسيني ، لم يكن يعرف لم أبكي ، جاء سؤاله على غفلة من سكوني :

- لم تبكي الآن ؟

و أنا الآن أبكي ، دمعا يترقرق غزيرا من مآقي العين التي لم تره حين عادت إلى أضواء المدينة ، لم أجده ، و لن أجده أبداً ، و عدت أبكي مرة أخرى ، بكينا جميعاً ، أنا و زوجتي حسناء ، قالوا انه عاد إلى الأرض المحتلة ، و بدأت مشاق الطريق سيرها من جديد ، كانت وعورة العودة تلفحني ، عدنا أدراجنا مرة أخرى إلى غزة ، امتطينا صهوة الشوق و جئنا إليه كي يستقر بنا المقام هناك في أرض الخوف ، ولجت الطائرة التي لم أفتأ أحفظ معالمها جيداً ، جلسنا و كانت حسناء تبتسم لخروجنا مرة أخرى عن طاعون السفر ، حملنا أمتعتنا و جوازاتنا ، كسرنا حاجز الموت و هنا استقبلتنا أمه بالبكاء ، كانت تنتظرنا ، شيء أخبرها بأننا لن نمكث طويلاً ، ربما شبحه من سر لها بأنني لن أتخلف عن جنازته التي جئت أحملها بين دفات لوحتي ، هكذا مات حسان الأول ، غادر دون أدنى كلمة وداع ، اختفى ظله و باتت اللوحة تصفعني ، لم تخترق الرصاصة جسده كما ظننت ، لكن هم الجوع للوطن فجّر روحه ، عاد حين خرجت مسافراً ، أغلقت الطريق و حالف المسافرون الحظ بالخروج من قمقم الموت ، لكنه أتى  ، انتهى العبور لمن هم دون الخامسة و الثلاثين ، و على الحدود مكث أسبوعين مرابطاً غير قادر على الولوج بوابة الموت الأليم ، أصابه المرض ، الجزع ، الخوف ، حط رحاله و لم يستطع عبور عالم الجنوب ، كانت الأيام تتوالى و أنا هناك غائباً حاضراً ، و مات ، دفن الفتى الذي التهمه الموت بجواره على حين غرة ، و تبعه بجسده ، جاءوا به بعد يومين ، محملاً على الأكتاف ، تحفه تلك الغمامة ، التي جاءت معه ، و هنا على ظهر هذه الشاحنة أخذت أنظر إليه كما كنت أنظر لحسان فلا أجد سوى صورة لجسد واحد مكسور .