اللوحة اليتيمة

اللوحة اليتيمة

  لبنى ياسين

[email protected]

    أن تكونى إنجازى الوحيد .. لوحتى الوحيدة لست أدري أهذا فشل ناجح أم نجاح فاشل .. أن أحلم بك دهرا.. ثم أراك تنتصبين أيامي وتصبح الدنيا بعدك كوم من الفراغ.. وأصبح أنا .. فى القمة .. أو فى حضيض الهاوية .. لست أدرى .. أبعدك الموت محبب إلى هذا الحد .. أن أن يأسي ووحدي يزينانه لى إلى هذه الدرجة .. !
أحقا .. أنت لوحتي التي حلمت بها .. أأنت إنجازي الوحيد ... هل ترقين حقا إلى مستوى الإنجاز.. إلى مستوى حلم .. راودني سنين !! وماذا بعد ... ؟
ماذا بعد أن حققت هذا الحلم ..؟
هل يزين لي يأسى الموت ... أم أن الموت هو الذي يزين يأسي ؟
قالت الفتاة مخاطبة لوحة رائعة الملامح .. متناغمة بألوانها .. كانت تنظر إليها .. كما لو كانت وليدها الذي انتظرته حتى يئست من حضوره .. فإذا هو فجأة أمامها .. تحتضنه بلهفة انتظار طالت عمرا بطوله .. بينما تشع من عينيها نظرات ملأى بالزهو والفخر .
كانت اللوحة هي الشيء الوحيد الذي يتمتع بجمالية لا مثيل لها داخل غرفة قذرة ، معتمة .. تفوح فيها رائحة الرطوبة ، لا يكاد يرقى فيها شيء واحد إلى مستوى تسميته بكرسي أو فراش .. إنما بضع أشياء مرمية بإهمال في كل الزوايا .. تستخدم ككرسي أو كفراش .
ينتصب في منتصف الغرفة كائن بشري وكأنما رمي هو الأخر بدون اكتراث داخل الغرفة الرطبة .. وأكتشف في لحظة ما .. إنه فتاة في ريعان الصبا لكن كهولة العالم كله تسكن قلبها .. بينما كان وجهها يتناسب في قباحته مع دمامة كل ما في الغرفة ومن الرائحة التي تنبعث منها يبدو أنها لم تعرف الماء منذ عصور .. ربما منذ غسلوها أول مرة لحظة ولادتها .
كانت في داخل الغرفة طاولة قديمة أستعيض عن إحدى قوائمها المكسورة ببرميل صدئ .. وعلى صفحة وجه المنضدة استلقت ثلاث مواسير للألوان أخرج جل ما في جوفها .. وانساب بجمالية ظاهرة على وجه اللوحة .. ألوان ثلاث أحمر أصفر أزرق هي كل ما استطاعت شراءه .. بدرهيماتها القليلة .. كانت لها كنزا حرصت عن استخدامه باقتصاد مدروس غريزيا ، إثر أيام من الجوع والعطش والبرد ، جعل الاقتصاد نزعة لا إرادية لديها .. وهناك أيضا بعض الريش التي غطست رأسها بأكواب من الكيروسين وكأنا تهرب من الرائحة الرطبة التي تفوح من أرجاء هذا المكان .
كانت الفتاة بأسمالها البالية المتعددة الثغرات والتي كانت تبدى أكثر مما تخفى من جسدها الضئيل الأسمر ، في وقت كان أكثر ما تعوزه هو دفن جسدها في رداء سميك يقيها برد الشتاء القارس ، وبشعرها الأشعث الذي لا يبدو أن المشط قد عرف إليه طريقا قط . قد أنهت لتوها توقيع تلك اللوحة .. وما زالت تقف أمامها بزهو لم يسبق لها أن شعرت بمثله منذ خرجت إلى الحياة أو ربما منذ أن خرجت منها .
عادت الفتاة تقول بصوت عال
هل ستكونين إنجازي الوحيد .. ؟ .. هل سيراك أحد ؟ أي أحد ؟! هل سيحبك شخص ما كما أحبك .. أنا ؟ !
كانت اللوحة جميلة حقا تأسرك بجاذبيتها بمجرد أن تقع عينيك عليها بضربات الريشة المدروسة ، وتناسقها المنقطع النظير ، وبتوازن غريب في توزيع الكائنات والألوان داخلها.. يشعرك بأنها تشد نظرك منذ اللحظة الأولى .
رمت الفتاة نفسها بانهاك واضح على شبه الفراش القذر بين كوم من الكتب القديمة بعد أن ملأت معدتها الفارغة منذ أيام بأقراص عقاقير متنوعة لا أدري أنا نفسي من أين حصلت عليها ..
بعد أيام .. عثر على الفتاة ميتة بعد أن فاحت رائحة الموت من شقوق الباب وهاجمت أنوف المارة حتى اضطروا إلى التساؤل عما في هذا القبو العفن . بينما اختفت اللوحة شهورا .. ثم ظهرت بعدها تحمل توقيع فنان شاب كان الإبداع في تلك اللوحة سببا بظهوره على خارطة الرسامين المعروفين في البلد .. وبشهرته التي اجتذبت المحطات التلفزيونية والصحفية .. نظرا لعبقرية اليد التي رسمت تلك اللوحة بانحناءاتها المتناسقة وبألوان ثلاثة فقط .
وعندما سئل عن سبب اختياره لهذه الألوان الثلاث .. وتقيده بها أجاب ؟
لقد شعرت أن تقليص الألوان وتحديدها .. سيعطي للوحة بعداً سيكولوجيا وإنسانيا فريدا .. ويكون بداية لمدرسة معاصرة .. واختياري لهذه الألوان تحديدا ... جاء نتيجة قوة هذه الألوان ... التي ستفرض عليك وجودها منذ اللحظة الأولى .. وتخطف بصرك .. سواء شئت أم أبيت .. وكما رأيت .. لقد خطفت اللوحة بالفعل أنظار الجميع.
والحق يقال ..
أنها قد خطفت حتى حياة من رسمتها لتطلق رساما فاشلاً مدعيا سرقها من مبدعتها الميتة .