أدوار
أدوار
قصة: سهيل أبو زهير *
انتصب واقفاَ على جبل حيفا بعد أن قضى سنين طويلة لا يدري هل كان نائماً أم مغمى عليه … فرك عينيه فرأى كل شيء أمامه قد تغير ، والناس من حوله أقزام لكنهم أجمل منه هيئة ونساؤهم أجمل من زوجته… حين أفاق تحسسها فلم يجدها بجانبه … شرد ذهنه بعيداً ، قال:
"هكذا هي النساء عندما يغفل عنهن الرجال" وابتسم .
أحس بحاجته للماء فخطا خطوة نحو البحر الذي بدا بجانبه بحيرة صغيرة لا تكاد تغطي أظلافه … أنزل شفتيه إلى البحر وارتشف منه رشفة واحدة ثم اتكأ ثانية على يديه واعتدل فكاد يناطح السحاب … وراح يأخذ حظه من شمس الصيف.
مد رأسه جنوباً حتى أبصر أرض الكنانة … أخذ يتفحص أحوال الدنيا بينها وبين قدميه فوقعت عينه على دابة تتعثر بين ثنايا واد كان جدَُّّه قد حفره لأموره الخاصة … تذكر حديث جده له عن رجل في بلاد الموحِّدين قال : " لو أن بغلة في أرض …" لم يستطع تذكر القول كله ، فأخذ يهرش في شعر رأسه وينظر يساراً ويميناً، لم يتذكر فألقى حبات الرمل التي كانت في يده بقوة وراح يضحك … ضحك وضحك … لم يشأ أن يربط أمره بالسماء .
قال في نفسه :"لو أدخلت السماء بيني وبين بغلتي!" … رأى نفسه وهو فوق السماء وبغلته على الأرض… رأى منظراً مضحكاً … أحس أنه لم ير شيئاً حقيقياً … دار رأسه… تمطَّى قليلاً ونظر إلى بغلته … صارت في نظره صغيرة حقيرة … أمسكها من أذنيها … ارتفعت بين أصابعه … وضعها على كفه وفركها حتى أصبحت رماداً … ألقى بها في البحر.
ومع اشتداد أشعة الشمس وازدياد وضوح النهار بدأت تظهر على وجهه أمارات … إحدى عينيه شرعت بالضمور ، والأخرى تسير نحو المنتصف ، وكلما ازدادت أشعة الشمس قوة وتفتحت الزهرات بين قدميه ومن حوله ضاقت عينه وانتصفت الأخرى … بدت له عين واحدة.
أحس بما جرى له من تغيرات … بكى فسالت دموعه غزيرة من عينه حتى دخلت فمه… سأل نفسه :
"ما الذي اقترفته يداي حتى يكون ذلك؟" لم تستطع نفسه إجابته … أحس بحاجته للتبول :
"لقد جاء الموعد السنوي لقضاء حاجتي" … وقف في العراء مجتهداً في قضاء حاجته، لكنه لم يستطع … الحاجة تقتله لكنه ما زال عاجزاً عن فعل شيء … ترك الأمر في محاولة لنسيانه … بعد لحظات كانت ملابسه مبتلة ، فصاح بأعلى صوته:
"أين أنت أيتها الشمس!"
وضع كفه على عينه فأحس بنتوءات تحيط بها … لم يستطع أحد الاقتراب منه لقراءتها… وكلما اقترب منهم هربوا منه نحو الجبال والشعاب .
ارتحل متوجهاً نحو الجنوب … كل شيء بدا أمامه مختلفاً … البحر أصبح كبيراً، واستوت الأرض المعوجَّة وأصبح الأخضر يابساً … تقدم وتقدم حتى واجهته أبراج عالية لم يرها من قبل … رآها مائلة … فكر جدياً في عمل شيء حسن ، قال في نفسه:
"لو أنني اجتهدت في جعل هذه الأبراج معتدلة! أليست هذه الأمور من التي يقولون عنها حسنات، إلى متى سيظلون يقولون عني كذا وكذا"…وراح يحفر تحت البرج من الجهة التي ظن أنها مرتفعة … جعل الأرض مستوية في نظره… ترك البرج من يده حتى يستقر مكانه … تحركت أعمدة البرج وجدرانه إلى الجهة التي حفر فيها فتصدعت وانهارت حتى أصبحت أكواماً من الأتربة والحجارة الصغيرة … لم يفاجأ كثيراً … تساءل:
"ما دامت هذه هي النهاية ، ألم يكن من الأفضل إزاحة البرج بالطريقة التي أزحت بها البغلة من قبل؟" … ترك الأمر على حاله … نفر الغبار عن ملابسه واتجه نحو الجنوب يكمل مشواره … لم ينس أن يحفر تحت كل برج حفرة أو يختصر الطريق فيسحقه كما سحق بغلته … يستمع إلى تأوهات القتلى وينظر إلى الدماء تسيل … ما زال رافعاً رأسه… الكل أمامه كالأقزام ، يدوسهم وهو يتجه نحو الجنوب .
تتحرك في داخله أمور لم يفهم ما هي ولم يستطع تفسيرها … كان أحياناً يهدم وأحياناً أخرى يبني ، ثم يهدم ما بناه … أدرك أنه لن يكون إلا كما هو ، هكذا ، حتى يئس من نفسه… فكر في الانتحار … دلَّى رأسه في البحر … رأى في الماء عالماً آخر من الذين سحقهم ، لكنه لم ير بغلته التي سحقها مع الناس الآخرين ، قال:
"لقد ألقيتها معهم في البحر! فأين ذهبت؟"
أيدٍ كثيرة أخذت تجره من ساقيه … رفع رأسه قليلاً فرأى كل شيء يحاول إنقاذه من الغرق … أخرجوه ، ومن يومها أقسم أن ينتقم من كل امرأة وابنها الذي ترضعه من حليبها إذا هي أكلت يوماً من لحم الحوت الذي قذفه البحر على شاطئه بعد أن احتسى ذرات بغلته… التفت نحو الشمس … رأى نورها ساطعاً أكثر من المرات السابقة …عاود النظر إلى جسده فأحس بأنه يذوب شيئاً فشيئاً كما يذوب الملح …مد رأسه إلى حيث يهرب الناس، وأمسك أكثرهم شبهاً به …جره إليه واتكأ على كتفه،ودفعه نحو الجنوب وهو يقول:
"هيا تقدم يا ولدي".
* كاتب من فلسطين