في أواخر العمر
عصام أبو فرحه
علا الصراخ والضجيج في مدخل قسم الطوارىء في المستشفى الحكومي , ثلاثة شبان يحملون كهلاً ويركضون , وقد سدت أجسادهم الضخمة مدخل القسم , تفرق الناس من حولهم بخوف وترقب , دخلوا القسم ولا يزال صراخهم يعلو, طالبين من الحضور إخلاء الطريق , ودعواتهم للأطباء تنذر بأمر خطير , دخل ثلاثتهم يحملون الكهل على أكتافهم , تسير خلفهم أمرأة عجوز
قد بلغت من الكبر عتيا , لكن مشيتها وانتصاب قامتها تدل على صحة جيدة لا زالت تتمتع بها.
آه يا ظهري , آه يا رأسي , آه يا كلي, صاح الحاج أبو أحمد عندما وضعوه على سرير الفحص .
صاح أحد الشبان : أين الطبيب ؟ قلت لكم أين الطبيب ؟؟؟
صاح آخر : هيا افعلوا شيئاً لإنقاذه إنه يموت ,
انفجر ثالثهم باكياً لا يقوى على الكلام , بينما ظلت أم أحمد متماسكة , تقف كما عود الخيزران رافعة رأسها إلى الأعلى , تقول بصوت جلجل المكان :
ما بكم تولولون ؟؟ , هل أنتم رجال أم نساء ؟؟ ألا تخجلون من ( شواربكم ) ؟؟
قلت لكم إنه بخير , أنا متأكدة أنه بخير, حتى أن حالته لا تستدعي الحضور الى المستشفى , إن معرفتي بأبيكم وبصحته تفوق معرفة كل أطباء العالم , حملتموه ولم تسمعوا كلامي ,
حضر الطبيب بعد أن ظن الأبناء أنه الفراق , أبعدهم قليلاً إلى الخلف وجلس إلى جانبه متفحصاً دقات قلبه وضغطه وحرارته , أحس الأبناء بالطمأنينة من ملامح الطبيب الذي بدا مبتسماً وصار يمازح الحاج قائلاً : والله شباب يا أبو ........ ؟ , أبو أحمد , قالها الحاج بصوت خافت ,
أضاف الطبيب : ما الذي حدث يا حاج ؟؟
- لا أدري يا ولدي , صدقني لا أدري , ( الكبر عبر) يا دكتور ولا أذكر شيئاً مما حدث ,
هنا تقدمت أم أحمد وقالت : لا تجهد نفسك بالكلام يا ( ختيار ) , وأنتم اخرجوا ليصل الهواء الى والدكم , ألا ترونه يتنفس بصعوبة , اخرجوا , هيا انتظروا في الخارج ,
- أبو أحمد , أبو أحمد , ألا تسمعني ؟ خرج الأولاد , أخبر الطبيب بكل شيء , لا تخجل ,
- بماذا أخبره أيتها العجوز الخرفة ؟؟ قالها أبو أحمد بحدة وغضب , بينما كان ينظر إليها ويعض بطقم أسنانه على شفته السفلى , وكأنما يأمرها بالسكوت ,
- أنت واحد من أولادي يا دكتور , أنا سأتكلم , وبدأت حديثها غير مكترثة بمحاولات أبو أحمد للنهوض والانقضاض عليها , وبنظراته الباحثة عن عصاه حول السرير , ولا تأبه بكلمات لاعنة شاتمة تخرج من فمه مختلطة بلعابه , تابعت حديثها : يا دكتور , كل ما في الأمر أن الحاج أراد أن يجرب رجولته ليلة أمس , ( ألف اسم الله عليه ) , شباب والله شباب يا دكتور , بعد ذلك أخذ حماماً , وقمت بتبخيره خوفاً العين , ونام لا يشكو من شيء , في الصباح لم يستطع النهوض وأحس بثقل في التنفس , أصابه الخوف فنادى أولاده وصار يوصيهم وكأنه يودعهم , خاف الأولاد وهرعوا به الى هنا , هذا كل ما في الأمر .
بعد معاينات كثيرة وفحوصات شاملة عاد الطبيب مبتسماً وقال :
نحمد الله على سلامتك يا أبو أحمد , كل شيء على ما يرام , ما شاء الله صحتك جيدة وتستطيع المغادرة , كتبت لك بعض المقويات والفيتامينات , انتظم في تناولها , واحرص على الغذاء الجيد , العسل , الحليب , الفواكه , وأعطاك الله الصحة والعافية , وأضاف مبتسماً :
ولا تجهد نفسك , أسمعت ؟؟؟ لا للإجهاد .
تمتم أبو أحمد بكلمات غير مفهومة , ورمق أم أحمد بنظرات غاضبة , وغادر جميعهم المكان .
بعد شهر من خروج أبو احمد من المستشفى , وبينما كان الطبيب الذي أشرف على علاجه يقوم بعمله في قسم الطوارىء , سمع ضجيجاً وصراخاً يملأ مدخل القسم , نظر باتجاه الصوت فرأى ثلاثة شبان يحملون امرأة ويركضون , وقد سدت أجسادهم الضخمة مدخل القسم , تفرق الناس من حولهم بخوف وترقب , دخلوا القسم ولا يزال صراخهم يعلو طالبين من الحضور إخلاء الطريق , دخلو القسم يحملون المرأة على أكتافهم , يسير من خلفهم رجل عجوز , يمشي منتصب القامة , يدق الأرض بقدميه وبعصاه التي يحملها ويلوح بها ولا يتوكأ عليها , وكأنه ليس له حاجة فيها إلا اكتمال الهيبة .
هرع الطبيب اليهم وقد عرفهم ,
- أهلاً أهلاً أبو أحمد , والتفت إلى الشبان قائلاً : ضعوها على السرير , لا داعي للقلق , بسيطة إنشاء الله ,
بعد المعاينة الأوليه سألهم الطبيب , ماذا حدث للحاجة ؟
وهنا قام أبو أحمد وطلب من أولاده الابتعاد ففعلوا ,
- يا دكتور : في الليلة الماضية , خالتك أم أحمد أرادت أن تتأكد من حبي لها , وأرادت أن تجرب تأثير سحر أنوثتها علي , ( ربنا يحميها ) , يا دكتور: .........................................
لم يصل الحديث إلى مسامع الشبان الذين وقفوا في ركن من أركان قسم الطوارىء بعيداً عن مرمى السمع , ينظرون الى مشهد الطبيب ينفجر بضحكات متتالية , والحاجة تنظر إلى الحاج بغضب , وترمقه بغمزات وإشارات , وتعض على إصبعها - بين الحين والآخر- خجلاً ,
غير مكترث بضحكات الطبيب , وحركات أم أحمد الغاضبة المستنكرة , كان أبو أحمد مسترسلاً في حديثه , رافعاً رأسه بعزة وشموخ.