ليس الموت واحداً
جمان محمد عكل
هذا أنا..
مشغولٌ أنا عن الإنفلونزا وعن الخنازير، وعن بشر قلوبهم كقلوب الخنازير.. بحساب وطرح وجمع: كيف أتدبّر مصاريف بناء بيتٍ (طينيّ) بعدما دكّوا بيتي (الإسمنتيّ) وما عاد في الأرض ماء ليكون ثمّة طين؟
ليس لديّ ما أبيع لأشتري به، ولو أردتُ بيع نفسي أو أحد أبنائي لما اشترى أحد.. فالكلّ ينفض يديه ويغسلهما سبع مرّات من الدم الفلسطينيّ.
لا توجد وظائف، ولا أعمال أكسب منها أجراً لأنفقه على (الطين).
أهاجر؟ أوَ ما تستحي الأفواه أن تقول كلمة كهذه؟! ولمن أترك هذه الأرض التي يسحبونها من تحتنا سحباً؟ أأتركها للجبناء الذين يخشون أن يدعو لنا سرّاً، أو يهمسوا لخواطرهم أنّنا على حقّ، وأنّنا حماة مقدّساتهم التي ما عادوا يعرفون معنى قداستها؟.
مشغولٌ أنا بالتفكير وأحمد الله.. خيمتي ما زالت عندي وقد ألفتْنا وألفناها، ولا داعي أن يشغل أحد باله بمسألة غذائنا؛ فلدينا ما يُؤكَل.. ونحن إنما نأكل لتبقى أقدامنا راسخة في هذه الأرض.
لكن ما يحرق دمّي في عروقي؛ هو هذا الاستنفار في العالم كله، والمظاهرات والذعر وكأنّ الناس كلهم على وجه الهلاك وكأنّ القيامة قامتْ: كلّ هذا الاستنفار لأجل الإنفلونزا والخنازير، وأناس بهيئة بشر وقلوب خنازير!
يحرق دمّي أنّ الاستنفار بدأ من اليوم الأوّل، وأنّ الجميع من كلّ ديانة وانتماء، اضطربوا وعقدوا الاجتماعات الطارئة وتراكضوا، وبدأت أموالهم تجري وتُنفق على التجارب والمختبرات لاكتشاف المصل المضادّ ليحميهم ويبعد عنهم الداء. دقّ الموت بابهم يوماً فكادوا يموتون هلعاً. وما رأوني منذ عقود والموت واقفٌ فوق رأسي، يشاركني طعامي وملبسي ومنامي!
ما رأوني منذ أكثر من ثلاثة أشهر أنتظر أدويتهم، وأغذيتهم، وإسمنتهم، ليس لأمنع الموت عنّي فما أحدٌ غير الله مانعه، وإنّما يعزّ عليّ أن أرى أبنائي يموتون أو يعيشون كالموتى لأنّ شيئا من اليأس أصاب أرواحهم، ولا أجد ما أدفع به عنهم سوى قولي: ما يئس من كان الله نصيره.
أنتظر لأنه يعزّ عليّ أن أقول لا بارك الله في حلالهم ولا عيشتهم المرفّهة تلك التي تمنع عنّا أبسط متطلّبات الحياة.
يركضون ليمنعوا داء الخنازير عن بشرٍ هُمُ الخنازير، وما من مانعٍ غير الله، وأكياس الإسمنت لا تجد من يدفع بها مسافة عشرين متراً لتصلنا.
من المدهش كم تشابهتْ ردّة الفعل اليوم وأمس: فاليوم، الكلّ يغلق بابه على نفسه، وينعزل عن العالم، ويسدّ أنفه وفمه؛ خشية أن يصيبه الداء.. وبالأمس، الكلّ يغلق بابه على نفسه خشية أن يأتيه سائل يسأله العون لنا، وينعزل عن العالم خشية أن يطالبه أحد بالتحرّك لأجلنا، ويسدّ أنفه كي لا يشمّ رائحة دمائنا، وفمه كي لا يزلّ لسانه فيدعو لنا، وعينيه كي لا يكذب إن قال: لم أرَ!
ربّي.. إنّي إليكَ ألجأ، وإليكَ أتضرّع، لا منجا ولا ملجا منكَ إلا إليك.. إن كنتَ كاتباً لي بهذه الخيمة بيتاً في الجنّة، فلا حاجة بي لطين ولا لاسمنت، أسألكَ أن تزيد يقيني بك.. إنّهم إن خذلوني فأنتَ نصيري، وإن ضعفوا فبكَ قوّتي، وإن تخلّوا عنّي فأنتَ وحدك تغنيني عمّن سواك.
هذا أنا.. فلسطينيّ، قدمي راسخةٌ في هذه الأرض الطاهرة، وجبهتي في السماء.